شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل الرابع عشر

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

قد يظن القارئ أني ادعي أن ابن خلدون استمد علمه من شرح نصوص القرآن.  فيكون كلامي متناقضا إذ أعيب على أصحاب الأعجاز العلمي ومن جنسهم أصحاب علوم الملة الذين يشاركونهم وهم استخراج العلوم من شرح نص القرآن ثم أزعم ذلك في المقدمة علما للعمران البشري والاجتماع الإنساني.

فبعد إعلانه أنه لن يبحث في السياسة بمنطق أفلاطون -المدن الفاضلة- ولا بمنطق الأحكام السلطانية بل بطريقة جديدة لم يسبق إليها حتى من أرسطو الذي يرفض منهج أفلاطون-المدن الفاضلة-ويحاول أن يبحث بطريقة قريبة مما توخاه ابن خلدون ولكن بأسلوب سنرى أنه لم يتجاوز أفلاطون كثيرا.

وهذا هو سر ما أزعمه من منعرج تاريخي كوني غير تغييرا كيفيا البحث في فلسفة العمل والتاريخ بصورة لم يكن في مستطاع الفلسفة اليونانية الوصول إليه لأنه في الحقيقة مبني على ثورة الإسلام في النظر كما صاغها ابن تيمية وفي العمل كما صاغها ابن خلدون: الجمع بين نظر وعمل متجاوزين لليونان.

وعلامة المنعرج مضاعفة: فأولا ضم ابن خلدون التاريخ إلى الفلسفة التي كانت تستثنيه من نظامها المعرفي لعلتين أولاها أنه يتعلق بالعيني والعرضي من الوجود وثانيتها لأن العلوم العملية تقتصر في منظومتها على ثلاثة هي السياسة والأخلاق والاقتصاد المنزلي واعتبر الفلسفة نفسها تاريخية.

فهي عنده تاريخية لأنها حصيلة التجربة وتراكمها وما عدا ذلك ليس من العلم بل هو من الفرضيات الشاملة التي يدعي الفلاسفة بها تجاوز عالم الشهادة والمعلوم من قوانينه بقدر الاستطاعة (انظر فصل الفلسفية وفساد منتحليها). ويرفض هذه الفرضيات الشاملة لأنها مبنية على نظرية المطابقة في المعرفة.

ودون أن يذهب إلى ما ذهب إليه كنط من رد العلوم العقلية إلى الاقتصار على مظاهر الأشياء فهو يعتبرها مدركة لحقيقة ما يمكن للإنسان إدراكه من الوجود الحقيقي دون أن يرد الوجود إلى إدراكه. وما لا يدركه منه هو الغيب وهو موجود في كل معرفة بوصفه حدا لا يتجاوزه علم الإنسان غير المحيط.

فدور ابن خلدون في العلوم الإنسانية مماثل لدور أرسطو في العلوم الطبيعية. فهو مثله جعل التاريخ وما بعده نظير الطبيعة وما بعدها. ومثلما تجاوزت علوم الطبيعة والاستراتيجيات الرياضية تأسيس أرسطو فعلوم الإنسان والاستراتيجيات السياسية تجاوزت تأسيس ابن خلدون. كلامنا لا يتوقف عند ثورته.

ثورته كانت منعرجا بالنسبة إلى الفلسفة اليونانية إلى حدود مرحلتها العربية التي أصبحت مدرسية قبله بأعلام النكوص فيها إليها (ابن رشد فيلسوف متفقه والسهروردي المقتول فيلسوف متصوف والرازي متكلم متفلسف وابن عربي متصوف متفلسف) فهم عادوا إلى الهلنستية الجامعة بين العلم والميثولوجيا.

وقد تمثل المنعرج الخلدوني لتأسيس علوم الإنسان مرحلة اخراج دراسة التاريخ وعلم الإنسان من الميثولوجيا لدراسة العوامل الطبيعية والروحية التي يتأسس عليها المنطق الجديد المبني على نظرية المعرفة النافية للمطابقة. فكل العلوم اجتهادية بالجوهر لا تحيط بالوجود الطبيعي والتاريخي.

وبهذا المعنى فالإنساني مثله مثل الطبيعي فيه ما يقبل الصوغ العلمي وليست العلوم العملية (التاريخ) بأقل قابلية لذلك من العلوم النظرية (الطبيعة) لأن في التاريخ الموضوع طبيعي وروحي وفي الطبيعة علم الموضوع طبيعي وروحي. والجامع بين الطبيعي والتاريخي هو الإنساني ذو الكيان المزدوج.

وبهذه النتيجة تبدأ المقدمة: فالباب الاول منها يدرس الشرط الطبيعي الواصل بين الطبيعة والإنسان أي (المكان) كعامل جغرافي شارط لكيان الإنسان الطبيعي وتدرس الشرط الروحي الواصل بين الإنسان والطبيعة أي الزمان كعامل تاريخي شارط لكيان الإنسان الروحي. وهذا هو منعرج التأسيس الخلدوني.

ويبقى مع ذلك وجه شبه عميق بين أرسطو وابن خلدون: فالأول أخرج البحث العلمي اليوناني من الميثولوجيا إلى بدايات علوم الطبيعة والثاني أخرج البحث العلمي الإسلامي من الدين إلى بدايات علوم الإنسان. والفرق بين الميثولوجي والديني في التأسيسين هو دور المرجعية الروحية في عقل الرجلين.

وهو دور متعاكس تماما: ارسطو حرر الطبيعة من تأليهها الميثولوجي ليجعلها منطلق علمه المستند إلى التجريد من المحسوسات الطبيعية لتأسيس علم الطبيعة العقلي وابن خلدون حرر الدين من تطبيعه الميثولوجي ليجعله منطلق لتأسيس علمه المستند إلى المتعاليات الإنسانية موضوعا لعلم الإنسان العقلي.

كلاهما ينطلق من رؤية ما بعد طبيعية عند أرسطو وما بعد تاريخية عند ابن خلدون. ولولا ما بعد الطبيعة الميثولوجية لما استطاع أرسطو تأسيس علوم الطبيعة. ولولا ما بعد التاريخ الديني لما استطاع ابن خلدون تأسيس علوم الإنسان. الميثولوجيا تستثني التاريخ. الدين يفرضه حتى على الطبيعة.

فالمنعرج الارسطي حصر العلم في الطبيعي واعتبر العلوم العملية توابع لها. والمنعرج الخلدوني عكس فاعتبر العلوم النظرية توابع للعلوم العملية. ومعنى ذلك أن الطبيعة في علاقة تفاعل مع التاريخ لأنها في ذاتها غاية لا تدرك وما يدرك منها تابع لتاريخ المعرفة الإنسانية أحد عناصر العمران.

ما يعلمه الإنسان من الطبيعة ليس الطبيعة بل علاقته بها أو ما إليه يرد مقومات حياته أولا وأخيرا مهما بدا عليه العلم وكأنه للطبيعة في ذاتها بصرف النظر عما يشغل الإنسان من شروط قيامه فيها. علوم الطبيعة هي علوم العلاقة العمودية بين الإنسان والعالم اساسا للعلاقة الأفقية بين البشر.

ومعنى ذلك أن العلم النظري للطبائع جزء لا يتجزأ من العلوم العملي للشرائع وابن خلدون يؤسسه في علاقة الإنسان بالمكان والخوف من المستقبل. وهذا هو مضمون الباب الأول من المقدمة: الميثولوجيات والأديان علتها الخوف من المستقبل (الزمان) في علاقة بشروط قيام الإنسان في الجغرافيا (المكان).

فالباب الأول درسا لما في المكان من جغرافيا مفيدة لقيام الإنسان موارد ومناخا ولما في الزمان من تاريخ مفيد لقيام الإنسان توقعا وتخطيطا للتعامل مع الشروط الطبيعية ودرسا لأثر الاول في الثاني وأثر الثاني في الأول ومن ثم لتأسيس شروط السيطرة على المكان والزمان: العمران والاجتماع.

وبهذين المنعرجين يمكن القول إن الصراع بين الفلسفة والديني قد انتهى وأن شروط ظهور الفلسفة الحديثة قد تحققت وكان الدور الاول فيها لابن خلدون. فتأسيس الفلسفة الحديثة (ديكارت) جعل غاية العلم عين ما اعتبره ابن خلدون من أدوات العمل: العمران هو أن يصبح الإنسان سيدا ومالكا للطبيعة.

وهذا المنعرج يعني أن علوم الملة الخمسة المتقدمة على ابن خلدون وابن تيمية كلها علوم مزيفة: فهي “طبعنت” و”ارخنت” القرآن مدعية أنها تستمد من شرح ألفاظه علوم الملة مباشرة فكانت من جنس “الإعجاز العلمي” بدلا من فهم أمر فصلت ونهي آل عمران فتتوجه لآيات الله في الآفاق والأنفس.

وأزعم أن هذا المنعرج لم يعمل به إلى الآن في علوم الملة التي لم تتجاوز العودة إلى هذا الانحراف المنافي لما أمر به القرآن ولما نهى عنه. ما زال الكثير من فقهاء عصر الانحطاط ومتكلميه يقودون فكر الامة بما تحرر منه ابن خلدون في نظرية القانون والأخلاق للتربية والحكم الإسلاميين.

و”تمطيط” هذه الشروح اللفظية بلغت حدها فانقلبت إلى ضدها في نظرية المقاصد. التي هي في الحقيقة مجرد تبعية لتطويع فكر الأمة إلى ما يرضى عنه المتغلبون لتأسيس تشريعات رد الفعل على ما يسمونه واقعا دون تمييز بين الواقع والأمر الواقع: تطويع الإسلام لقيم الغالبين سر ازدهار خرافة المقاصد.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي