لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
أبدأ الفصل الرابع من الشكوك بشرح كلمة شكوك. هي مصطلح استعمله الفلاسفة والعلوم النابعة منها مثل الشكوك على بطليموس للتعبير عن مفهوم يوناني شهير هو “ابوريا” ويعني الطريق المسدودة. فـ”أ” علامة النفي “وبرويا” النفاذ أو الممر. والمعنى المؤلف منهما يعني طريق العلاج النظري المسدودة.
ولما كان العصر الثاني لم يتجاوز هذا الفهم واكتفى بتجويده بتجويد علوم الآلة أي الحديث واللغة والمنطق والتفسير وتوقف عند المقاصد طريقا مسدودة كان من الواجب جعل الطريق سالكة بالعودة إلى ما لم يتحقق في محاولة الشافعي التي اقتصرت على توحيد المصادر كمعين للأحكام والحاجة إلى هذه الآلات.
حل الشكوك أو الطرق المسدودة في الفقه وتأصيله جزء مقوم من نظرية الدولة في الإسلام: من دون بيان مفهوم الشرعية الفقهية لا يمكن تأصيل الفقه. وبلغة وضعية: لا يمكن تأسيس القانون من دون تحديد مفهوم الشرعية التي يستمد منها قوته الإلزامية. وهو ما يقرب من مفهوم السياسة الشرعية التيمية.
وكل مشكل الفقه أن الفقهاء تصوروا ان الفقه ممكن من دون السياسة الشرعية. ولأنه من دونها صار زجريا وليس تربية بالأساس في إطار السياسة الشرعية. ومعنى ذلك أن الفقه كله وتأصيله هو فقه حالة الطوارئ التي تلت تعطيل الدستور بلغة حديثة تحول إلى وازع أجني بإطلاق وفقد بعد الوزع الذاتي.
أزمة الفقه انعكست إلى تأصيله الذي اقتصر على شكليات التأصيل أو بصورة أدق على علوم الآلة فيه بدلا من جوهره كما تحدد في العصر الأول دون أن يطلب حقيقته لأنه اقتصر على كون الأصل هو معين الأحكام وليس ما يصبحه من طبيعة الشرعية التي تعود إلى وظيفته في نظرية السياسة الشرعية دون سواها.
ومعنى ذلك أن الفقه وتأصيله يعودان إلى وظيفة القضاء بمعنييه (حكما قضائيا وافتائيا) في نظام سياسي خاضع لشروط الشرعية في نظرية القرآن التي تعني بعدي السياسة: التربية والحكم على أساس الحريتين اللتين تلازم أولاهما التربية بل هي جوهرها أي حرية روحية تلغي كل وساطة بين المؤمن وربه.
وهي شارطة لمفهوم الوزع الذاتي أو حرية الضمير وعلى اساسها تنبني الحرية السياسية أو نفي الوصاية على إرادة المؤمن عدى الحرية الأولى أو العبادة التي لا وساطة فيها بين المؤمن وربه ليكون من المستجيبين لربهم فيكون الأمر أمرهم فيسوسوه بالشورى التي معيارها التواصيين بالحق والصبر.
فيكون دور القانون الأول الزجر بدل التربية التي تجعل الزجر اقل العوامل تحديدا للسلوك فلا يكون الوزع الأجنبي (القانون الزاجر) مقدما على الوزع الذاتي (سلطة الضمير الخلقي). أما السياسة المبنية على الوساطة الملغية للحرية الروحية والوصاية الملغية للحرية السياسية فالفقه.
وإذن الانتقال من الدستور إلى حالة الطوارئ بعد الفتنة جعلت الفقه قانون حالة الطوارئ ولم يبق من الفقه إلا اسمه بل إن العلماء صاروا وسطاء والحكام صاروا أوصياء ولم يعد الإنسان المسلم مؤمنا يعمل صالحا والجماعة جماعة متواصية بالحق ومتواصية بالصبر صار الحكم طبيعيا وليس شرعيا.
وهو معنى الانتقال من الخلافة النبوية إلى الملك العضوض. فالخلافة النبوية هي التي تعتبر كل المؤمنين خلفاء فرض عين والخليفة خليفة فرض كفاية بمعنى أنه مأمر من الجماعة بحضورها الدائم في دور الخلافة العامة التي تجعله خادما للجماعة نيابة عنهم في إدارة الأمر الذي هو أمرهم وليس أمره.
وهذا هو معنى السياسة الشرعية: المربي ليس وسيطا والحاكم ليس وصيا بل كلاهما ينوب الجماعة في جعل التنشئة الخلقية والسياسية تنشئة تحقق الحرية الروحية (المؤمن في علاقة مباشرة بربه في كل حياته ولا تقبل أي وساطة) والسياسية (المؤمن هو صاحب الأمر فرديا وجماعيا يدير الشأن العام بالشورى).
وهذا يقلب العلاقة بين الوزع الأجنبي (الآتي من خارج الذات) والوزع الذاتي (الصادر عن الضمير الخلقي والديني) فتكون الجماعة محققة لمضمون سورة العصر: فالخسر هو الجاهلية. والاستثناء منها هو مضمونها المخمس: الوعي بالخسر ثم فرديا الإيمان والعمل الصالح وجماعيا التواصيان بالحق وبالصبر.
وذلك هو جوهر السياسة الشرعية المشروطة غاية للفقه وأصلا لتأسيسه وتحديد وظائفه وقيمه. وهذه السياسة الشرعية لم تطبق إلى في المرحلتين الأوليين: سياسة النبي وسياسة الراشدين الثلاث الأول لأن الرابع لم يحكم بسبب الحروب الأهلية التي بدأت مباشرة بعد الفتنة.
فما في القرآن من الفقه هو ما طلب القرآن تبين حقيقته في الآيات التي يرينها الله في الآفاق والأنفس وليس في شرح نص القرآن ولا في تعليم الرسول بل هو ما في هذه من قوانين نكتشف مطابقتها للسنن التي طبقها الرسول باعتباره طلبها من الآفاق والأنفس كما تبين سياسته ببعديها: تربية وحكما.
وهذا الفقه الذي هو قرآني شكلا فاقد لشرعية المثال القرآني الأعلى لأنه اعتمد نظرية معاكسة لما أمر به القرآن لمعرفة حقيقته ولما نهى عنه حتى لا يخلط الإنسان بين حقيقته وأمراض القلب وابتغاء الفتنة: فالغيب لا يعلمه إلا الله ومن ثم فلا يمكن أن يبنى الفقه على مقاصد لا يعلمها إلا هو.
الغاية من وجودنا حددها القرآن الكريم. ولها وجهان: بالإضافة الى الله هي العبادة (خلق الجن والإنس لعبادة الله) وبالإضافة إلى الإنسان هي امتحان أهليته للاستخلاف خلال تعمير الأرض. وهما وجها الأمانة التي ظلم الإنسان نفسه بحملها وكلف بها مع تجهيز روحي (غاية) وعقلي (أداة).
والسياسة ببعديها تربية وحكما هي الفقه وأصوله أصغره وأكبره ولا يمكن الفصل بينهما إلا في حالة واحدة هي السياسة التي تعطل الدستور وتعمل بحالة الطوارئ: والأمة الإسلامية عاشت على حالة الطواري منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم. وكل محاولات تأسيس الفقه التي حصلت تنتسب إلى حالة الطوارئ.
وإذن فالأمر لا يتعلق ببداية من عدم بل هي بداية ثانية ما كانت لتكون ممكنة من دون البداية الأولى التي كان تاريخنا بعد الفتنة الكبرى تحريفا لها بتعطيل الدستور وفرض حالة الطوارئ التي كانت ضرورية للخروج من الحروب الأهلية فلم يحقق إلا شروط الاستعمار واقتصرت شروط الاستخلاف على القشور.
وشروط الاستخلاف تنقسم إلى نوعين: شروط الحرية الروحية وشروط الحرية السياسية. والأولى هي شروط التحرر من الوساطة الروحية والثانية هي شروط التحرر من الوصاية السياسية. وليس بالصدفة أن كانت الوساطة والوصاية قد بلغت مبلغها وأن الأمة بدأت تعي علاقة انحطاطها بهما.
والفتنة الصغرى الحالية تناظر الفتنة الكبرى السابقة: فهي سياسية مدارها وظيفتي الدولة تربية وحكما في علاقة بالوساطة والوصاية. ومن المفارقات أن ما يبدو وكأنه داعيا لعكس ما عكس في الفتنة الأولى هو من نفس الطبيعة: فالعلماني لا يختلف عن الباطني إلا بالأقوال. لكن الأفعال واحدة.
الباطني يجعل الدين مجرد أداة إيديولوجية للحكم والعلماني باطني صريح لا يحتاج إلى الدين إيديولوجية للحكم بل يستبدله بإيديولوجيا طبعانية هي عين ما يخفيه الباطني بدين جوهرة تقية ولا تقوى. وهو يوهم أن السياسة مستقلة تماما عما يتعالى عليها وإن كانت بحاجه إلى توظيف غاياته إيديولوجيا.
فالماركسي يوظف كل غايات الدين ويتصورها ضده لأنه يخلص بين الدين وتوظيفاته الباطنية: فهو يدعي الكلام باسم الحريتين اللتين هما جوهر الإنسان كما يحدده القرآن بجعلهما إيديولوجيا وليس حقيقة بدليل أن تطبيق نظرياته حقق العكس تماما: فقد الإنسان تماما كلتى الحريتين.
فالحزب وساطة كنسية والدولة وصاية سياسية وكلاهما دنيوي. حصر الإنسان في الدنيوي يجعله لا يساس إلا بقوانين الطبائع أي بالقوتين المادية والرمزية أي اقتصاد الربا وثقافة الخداع المؤسسين لدين العجل عبادة لغير الله إذ هما مادة العجل وخواره: رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز(الكلمة).