لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد
ليست المماثلة بين الفتنتين الكبرى والصغرى حول السياسة ودور الدين أو بين التشيع والتسنن في الأولى وبين الاسلامية والعلمانية محض تناظر شكلي بين دين التقية (الباطنية) ودين العجل (العلمانية) بل علاقة بين تعينين لنفس الداء: ما الحائل دون الإنسان وحقيقته أي الحريتين الروحية والسياسية.
ذلك هو الداء الذي رمز إليه القرآن بدين العجل الذهبي ذي الخوار. فالذهب هنا رمز لفاعلية الاقتصاد والخوار رمز لفاعلية الثقافة الحائلة دون حرية الإنسان الروحية والسياسية لأن أصحابهما يستعبدان البشر فتصبح مادة العجل (الاقتصاد ورمزه العملة) وخواره (الثقافة ورمزها الكلمة) أداتين للاستعباد.
وهذا يعني أن القرآن لم يحكم المسلمين إلا أياما معدودات هي مدة حكم الرسول والراشدين الثلاث الأول: وفيهما تحرر الإنسان ليس عامة بل العينة التي حصلت في مدتهما وعند من كان ذا صلة مباشرة بتربيتهما وحكمهما أي ببعدي سياستهما لدولة الإسلام. وما عدى ذلك حالة طوارئ دائمة إلى اليوم.
وهي حالة أعادت العائقين دون الحريتين:
عائق الحرية الروحية حيث صارت التربية وساطة كنسية.
وعائق الحرية السياسية حيث صار الحكم وصاية استبدادية غاشمة أو ملكية عضوضة. وهذه الصيرورة المضاعفة هي ما أطلق عليه اسم حالة الطوارئ بالقياس إلى حكم الرسول والراشدين الثلاثة الأول.
ويمكن اعتبار حالة الطوارئ فقهيا وقانونيا حالة الضرورات التي تبيح المحظورات في نوعي التشريع الشرعي والوضعي. ومعنى ذلك أن كل حالة يتقدم فيها دور الشوكة على دور الشرعية سواء كان التشريع منزلا أو وضعيا هي حالة طوارئ يقل فيها دور القانون السوي يزداد دور اللاسوي منه.
وطبيعي أن يكون الحد من القانون السوي منزلا كان أو وضعيا نسبيا إلى دور الشوكة والشرعية: فكلما كانت الشوكة أكثر حضورا كان الحد أكبر بسبب دور الوساطة الكنسية في التربية ودور الوصاية الاستبدادية في الحكم. ونظام التربية ونظام الحكم هما الإطار الذي تتعين فيه هذه الخاصية.
وغاية هذا التغير أو نهايته هي عندما يصبحان محققين لما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية أي زوال ما يعبر عن الحريتين في كيانه التاريخي فرديا وجماعيا. فتنقلب الأمور إلى حد يصبح فيه دور القانون تثبيت هذا الفساد وليس التحرر منه لأن وظائف القانون تصبح أداة الدولة للقضاء على الحريتين.
وهذا يصح على نوعي القانون ذي المرجعية الوضعية وذي المرجعية المنزلة عندما تصبح المرجعية مجرد غطاء إيديولوجي لما يناقض المرجعية نفسها: فالوحي والعقل كلاهما قابل للتوظيف العجلي أي إنه يغطي على حقيقة الأفعال بخدعة الأقوال. ومربط الفرس هو التوظيف أو نقيض حقيقة الوظيفة.
ذلك أن الوحي (على الاقل ما لدينا منه في القرآن) والعقل (على الاقل ما نعلمه عن طريقه) كلاهما يعتبر الشرائع بخلاف الطبائع مصدرها مفهوم الحرية الروحية والحرية السياسية ومن ثم فهما متفقان على أن صلاح دور السياسة ببعديها التربية والحكم هو تنمية هذين الحريتين طلاحها في إعاقتهما.
والحريتان ليستا من مقاصد الشريعة التي لا يعلمها إلا الله بل هما حقيقة الإنسان أوالانثروبولوجيا القرآنية أي نظرية الإنسان في القرآن بوصفه خليفة ذا علاقة مباشرة مع الله وغير مباشرة معه مجهز بالقدرة على رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس شرطا في علم قوانينهما والعمل بها لتحقيق كيانه.
فهو مجهز بهذه القدرة التي تكتشف قوانين الطبيعة (الافاق) وسنن التاريخ (الأنفس) والأولى من طبيعة رياضية بنص القرآن والثانية من طبيعة سياسية بنص القرآن. فكل شيء خلق بمقدار (الطبيعي والتاريخ كذلك) لكن المخلوق الطبيعي ما يرى فيه من آيات هو قوانينه الرياضي والتاريخي قوانينه السياسية.
ويستحيل أن نكتشف قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ مباشرة بالاعتماد على التجربة الحسية بل لا بد من مقومي العلم: المقدرات الذهنية علما شارطا لصوغ التجارب العلمية المستمدة مباشرة من الطبيعة أو من التاريخ. فكل علم مؤلف من بعدين:
وهذه المقدرات المجردة تتألف من خانات يمكن أن تملأ بمضمون وجودي يأتي من التجربة فتكون المقدرات القادرة على نظمها بصورة تعبر عنها وكأنها القالب الشكلي الذي يحول التجربة إلى علم يمكن بالاعتماد عليه تطوير التجربة التي تبقى الحكم النهائي لفرضيات المقدرات الذهنية.
وتلك هي الطريق الوحيدة لإبداع علوم الطبائع وعلوم الشرائع. والتاريخ مؤلف من الجنسين. والفقه وأصوله مقوم جوهري لعلوم الشرائع بوصفها علوم المواقف القيمية من الطبائع وأهمها ما في الإنسان من مقومات فطرية (دينيا) وطبيعية (عقليا). وهو ما يعني أن القرآن خال من القوانين العينية بنوعيها.
لكنه يشير إلى محلها وإلى كيفية الوصول إليها ويقدم بعض الأمثلة النموذجية من المحل ومن السعي. وذلك هو أساس استدلاله في المسائل التي يمثل بها لنظرية المعرفة ونظرية القيمة اللتين تحددان علاقة الإنسان بذاته وبمثله وبشروط قيامه التي هي علاقته غير المباشرة مع الله فضلا عن المباشر منها.
وتلك هي وظيفة المرجعية فهي لا تحدد الجزئيات بل:
المبادئ العامة المتعلقة بطبيعة المطلوب
ومحل وجوده
وطريق الوصول إليه أو منهج اكتشافه
قيمه الأساسية ووظائفه التي تتجلى أدواره في المبادئ والمحل والطريق والقيم. وذلك هو دور القرآن الكريم الذي كانت السنة أول فهومه اللامتناهية.