شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

ليست المماثلة بين الفتنتين الكبرى والصغرى حول السياسة ودور الدين أو بين التشيع والتسنن في الأولى وبين الاسلامية والعلمانية محض تناظر شكلي بين دين التقية (الباطنية) ودين العجل (العلمانية) بل علاقة بين تعينين لنفس الداء: ما الحائل دون الإنسان وحقيقته أي الحريتين الروحية والسياسية.

ذلك هو الداء الذي رمز إليه القرآن بدين العجل الذهبي ذي الخوار. فالذهب هنا رمز لفاعلية الاقتصاد والخوار رمز لفاعلية الثقافة الحائلة دون حرية الإنسان الروحية والسياسية لأن أصحابهما يستعبدان البشر فتصبح مادة العجل (الاقتصاد ورمزه العملة) وخواره (الثقافة ورمزها الكلمة) أداتين للاستعباد.

وهذا يعني أن القرآن لم يحكم المسلمين إلا أياما معدودات هي مدة حكم الرسول والراشدين الثلاث الأول: وفيهما تحرر الإنسان ليس عامة بل العينة التي حصلت في مدتهما وعند من كان ذا صلة مباشرة بتربيتهما وحكمهما أي ببعدي سياستهما لدولة الإسلام. وما عدى ذلك حالة طوارئ دائمة إلى اليوم.

وهي حالة أعادت العائقين دون الحريتين:

  1. عائق الحرية الروحية حيث صارت التربية وساطة كنسية.

  2. وعائق الحرية السياسية حيث صار الحكم وصاية استبدادية غاشمة أو ملكية عضوضة. وهذه الصيرورة المضاعفة هي ما أطلق عليه اسم حالة الطوارئ بالقياس إلى حكم الرسول والراشدين الثلاثة الأول.

ويمكن اعتبار حالة الطوارئ فقهيا وقانونيا حالة الضرورات التي تبيح المحظورات في نوعي التشريع الشرعي والوضعي. ومعنى ذلك أن كل حالة يتقدم فيها دور الشوكة على دور الشرعية سواء كان التشريع منزلا أو وضعيا هي حالة طوارئ يقل فيها دور القانون السوي يزداد دور اللاسوي منه.

وطبيعي أن يكون الحد من القانون السوي منزلا كان أو وضعيا نسبيا إلى دور الشوكة والشرعية: فكلما كانت الشوكة أكثر حضورا كان الحد أكبر بسبب دور الوساطة الكنسية في التربية ودور الوصاية الاستبدادية في الحكم. ونظام التربية ونظام الحكم هما الإطار الذي تتعين فيه هذه الخاصية.

وغاية هذا التغير أو نهايته هي عندما يصبحان محققين لما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية أي زوال ما يعبر عن الحريتين في كيانه التاريخي فرديا وجماعيا. فتنقلب الأمور إلى حد يصبح فيه دور القانون تثبيت هذا الفساد وليس التحرر منه لأن وظائف القانون تصبح أداة الدولة للقضاء على الحريتين.

وهذا يصح على نوعي القانون ذي المرجعية الوضعية وذي المرجعية المنزلة عندما تصبح المرجعية مجرد غطاء إيديولوجي لما يناقض المرجعية نفسها: فالوحي والعقل كلاهما قابل للتوظيف العجلي أي إنه يغطي على حقيقة الأفعال بخدعة الأقوال. ومربط الفرس هو التوظيف أو نقيض حقيقة الوظيفة.

ذلك أن الوحي (على الاقل ما لدينا منه في القرآن) والعقل (على الاقل ما نعلمه عن طريقه) كلاهما يعتبر الشرائع بخلاف الطبائع مصدرها مفهوم الحرية الروحية والحرية السياسية ومن ثم فهما متفقان على أن صلاح دور السياسة ببعديها التربية والحكم هو تنمية هذين الحريتين طلاحها في إعاقتهما.

والحريتان ليستا من مقاصد الشريعة التي لا يعلمها إلا الله بل هما حقيقة الإنسان أوالانثروبولوجيا القرآنية أي نظرية الإنسان في القرآن بوصفه خليفة ذا علاقة مباشرة مع الله وغير مباشرة معه مجهز بالقدرة على رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس شرطا في علم قوانينهما والعمل بها لتحقيق كيانه.

فهو مجهز بهذه القدرة التي تكتشف قوانين الطبيعة (الافاق) وسنن التاريخ (الأنفس) والأولى من طبيعة رياضية بنص القرآن والثانية من طبيعة سياسية بنص القرآن. فكل شيء خلق بمقدار (الطبيعي والتاريخ كذلك) لكن المخلوق الطبيعي ما يرى فيه من آيات هو قوانينه الرياضي والتاريخي قوانينه السياسية.

ويستحيل أن نكتشف قوانين الطبيعة وقوانين التاريخ مباشرة بالاعتماد على التجربة الحسية بل لا بد من مقومي العلم: المقدرات الذهنية علما شارطا لصوغ التجارب العلمية المستمدة مباشرة من الطبيعة أو من التاريخ. فكل علم مؤلف من بعدين:

  1. مقدرات ذهنية رياضية

  2. أو سياسية حول موضوعات مجردة

وهذه المقدرات المجردة تتألف من خانات يمكن أن تملأ بمضمون وجودي يأتي من التجربة فتكون المقدرات القادرة على نظمها بصورة تعبر عنها وكأنها القالب الشكلي الذي يحول التجربة إلى علم يمكن بالاعتماد عليه تطوير التجربة التي تبقى الحكم النهائي لفرضيات المقدرات الذهنية.

وتلك هي الطريق الوحيدة لإبداع علوم الطبائع وعلوم الشرائع. والتاريخ مؤلف من الجنسين. والفقه وأصوله مقوم جوهري لعلوم الشرائع بوصفها علوم المواقف القيمية من الطبائع وأهمها ما في الإنسان من مقومات فطرية (دينيا) وطبيعية (عقليا). وهو ما يعني أن القرآن خال من القوانين العينية بنوعيها.

لكنه يشير إلى محلها وإلى كيفية الوصول إليها ويقدم بعض الأمثلة النموذجية من المحل ومن السعي. وذلك هو أساس استدلاله في المسائل التي يمثل بها لنظرية المعرفة ونظرية القيمة اللتين تحددان علاقة الإنسان بذاته وبمثله وبشروط قيامه التي هي علاقته غير المباشرة مع الله فضلا عن المباشر منها.

وتلك هي وظيفة المرجعية فهي لا تحدد الجزئيات بل:

  1. المبادئ العامة المتعلقة بطبيعة المطلوب

  2. ومحل وجوده

  3. وطريق الوصول إليه أو منهج اكتشافه

  4. قيمه الأساسية ووظائفه التي تتجلى أدواره في المبادئ والمحل والطريق والقيم. وذلك هو دور القرآن الكريم الذي كانت السنة أول فهومه اللامتناهية.

وما أخشاه هو أن يظن المتعجلون أني آت بما لم يأت به الاولين وكأني أشكك في قيمتها أو في عظمة رجالاتها مدعيا أني آت لما يأت به الأولون. وهذا طبعا مفهوم. لكني لم أدع شيئا وإنما أحاول فهم طبيعة الأزمة والشكوك لا تتعلق بأحد بل هي كشف عن المعضلات التي قللت من فاعلية الفقه واصوله.

وإذن فموقفي يتعارض تماما مع كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث: فالأول يتصور أن العودة إلى الأصل ممكنة بالعودة إلى قشوره والثاني يتصور أن الحداثة ممكنه بتقليد قشورها. كلاهما في الحقيقة. والأول يريد استعادة الماضي الذاتي والثاني استعارة الماضي الغربي.

والاستعادة استعارة والاستعارة استعادة والفرق بينهما هو في كون استعادة الأول استعارة من آباء الذات واستعارة الثاني استعادة من آباء الغير. فالحداثة ماض غربي. والأصالة ماض إسلامي. والجميع اليوم يعاني من إشكالية تحرير السياسة من دين العجل: مادته الذهبية وكلمته الخوارية.

الأزمة التي أتكلم عليها ليس خاصة بالمسلمين وحدهم بل بالغرب كذلك لأن ما نستعيره منه هو الذي قتل الفقه ومات معه في آن: لأن الصراع بين أصحاب الكاريكاتورين أعماهما عن الواحد في تحريف التشريعين المنزل والوضعي. كلاهما مبني على نفي الحريتين بالوساطة الروحية والوصاية السياسية.

والدليل أن حال الانتخابات في المجتمعات العلمانية صار من جنس حال البيعة في المجتمعات الإسلامية: كلاهما صار رسما بعد أن كان عينا. كلاهما يخفي آليات التربية والحكم الفعلية برسوم من حقائقهما هي الغطاء الإيديولوجي بتوظيف الدين أو العقل في خدمة السيدين الوحيدين: المال والإيديولوجيا.

كلاهما يحكمه دين العجل الذهبي ذي الخوار: كل ما في الأمر أن سلطة اليوم التي تلغي الحرية الروحية هي الأحزاب ولوبياتها ذات الخوار وسلطة اليوم التي تلغي الحرية السياسية هي البنوك ومافياتها ذات الدينار. ما عدا ذلك واجهة يحميها القانون زجرا وتلهية عن العبودية بالهموم الدنيوية.

أي إن هذه العلاقة المباشرة مع الله هي الوعي الدائم بشروط الاستثناء من الخسر في سورة العصر وفروع هذا الوعي الأربعة: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر في كل أعماله الظاهرة والباطنة في نظره وعمله وتلك هي حقيقة معاني الإنسانية التي تفسد بغياب هذه الحال الوجدانية.

والإنسان لا يكون إنسانا صالح المعاني الإنسانية وغير فاسدها (بمصطلح ابن خلدون) إلا بهذا الاستثناء من الخسر. وهو به يصبح قادرا على تطبيق التوجه الذي يأمر به القرآن وينهى عن وهم تجاوزه حتى يصبح قادرا على رية آيات الله في الآفاق وفي النفوس. ومنها يبدأ العلم والعمل.

والعلم والعمل هو الذي يجعل العلاقة غير المباشرة بالله تمر بنوعي مخلوقاته الشارطين لوجود الإنسان ولامتحان أهليته للخلافة خلال بيان استجابته لاستعماره في الارض بقيم الاستخلاف. فيعلم الطبيعة والتاريخ مصدري قيامه العضوي والروحي ليعمل على علم بشروط الاستثناء من الخسر.

والفقه الذي هو أسمى علوم الملة لأنه أساس شرط تحقيق مهمة الإنسان أعني شرط انتظام الجماعة في التبادل والتعاوض العادل حماية ورعاية لوجود الفرد والجماعة والتأهل للاستخلاف لا ينبع من العلاقة المباشرة بين الله والإنسان بل من العلاقة غير المباشرة سلطانا نظريا وعمليا على الطبيعة والتاريخ.

وتلك هي البداية الجديدة لتأصيل الفقه من منطلق تأصيل نظرية الدولة والسياسية تربية وحكما في القرآن: تأصيل الفقه يمر بتأصيل السياسة والدولة. فالفقه هو أداة الجمع بين الشرعية والشوكة أو هو محاولة جعل الوازع الذاتي هو القاعدة في حياة الجماعة والوازع الأجنبي مجرد مساعدا له.

والانتقال من عكس هذه العلاقة أو النكوص إليها هو المشكل في كل ما ذكرناه من شكوك: في عصر الرسول والراشدين الثلاثة الأول حصل الانتقال من الشوكة اللاشرعية (جاهلية الحالة الطبيعية) إلى الشرعية ذات الشوكة (وظيفتي الدولة المربية والحاكمة). والفتنة حالة الطواري نكوص الأفعال دون الأقوال.

والباطنية غطت عن هذا النكوص بتحريف الدين نفسه وأسست السياسية على الوساطة (كنسية شيعية أو تعليمية في الباطنية) وعلى الوصاية (الإمام المعصوم يحكم بالحق الإلهي وليس بإرادة الجماعة). وفقهاء السنة حافظوا في الأقوال على الحريتين لكنهم قبلوا بالأفعال النافية لهما.

واليوم نحن في طور الاستئناف الذي يستعيد الحريتين الروحية (لا وساطة) والسياسية (لا وصاية) لا بد من فقه يؤمن بأنه لا يتأسس مباشرة في القرآن والسنة بل فيما يترتب على ما فيهما من علمي الطبيعة والتاريخ بوصفهما محددين لشروط تأسيس الفقه وتأصيله بمقتضى ما يتجلى من آيات الله فيهما.

وإذن فالحضور الدائم للعلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بوصفها حالة وجدانية تتحدد بها كل افعالنا هو أصل المرجعيات بوصفه نوع حضور الله في نظرنا وعملنا للطبائع والشرائع اللتين نستمد منهما مرجعيات فقهنا وأصوله حتى نعلم حقيقة القرآن أو الحضور الدائم لله معنا وفي أفعالنا.

وهذا الحضور الدائم أو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه هو الحرز الوحيد لكي يكون الفقه والعمل به محققا لما لا يكون الحكم والقاضي حكما أو قاضيا أمينا وعادلا. وفي هذه الحالة يكون المتنازعان كذلك جزءا لا يتجزأ من التحاكم بينهما لأن القانون الخالي من هذا المقوم سرعان ما يصبح ظالما.

أخلاق القاضي والمتقاضين مقوم أساسي من الفقه واستقلاله عن سلطة التنفيذ التي تتحكم في سلطة التشريع: فما يحقق استقلال القضاء رغم أنه ليس سلطة سياسية بل سلطة تقنية ومعرفية-مشروط بهذين النوعين من الأخلاق. ففي أمة فسدت فيها معاني الإنسانية يصبح الجميع يسعى لإفساد القضاة واستغلالهم.

الحضور اللفظي للشريعة لا يحرز القضاء أو الافتاء فيصبحان أداتين للظلم والتحيل وهو معنى استعمال الدين غطاء إيديولوجيا. وكل تنازل من ممثل الشرعية لممثل الشوكة خيانة لله ورسوله وهذا هو الحاصل منذ الفتنة الكبرى سواء كان الحكم دينيا أو علمانيا بالشكل: غطاء لفساد معاني الإنسانية.

ومن دون علاج ذلك لا معنى لاستئناف الأمة دورها. فالإسلام يمكن أن يكون مستقبل الإنسانية إذا قمنا بما حاولت وصفه في الشكوك. ولا يمكن تحقيقه بالكاريكاتورين. فالفتنة الكبرى والفتنة الصغرى لهما نفس المآل. الأولى أدت إلى باطنية علنية في التشيع وخفية في التسنن والثانية تسعى لنفس الغاية.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي