لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
الفصول العشر السابقة من شكوك على المقاصد كان عرض إشكالية الفقه وتأصيله بما هي أزمة ناتجة عن فهم أولي للعقد بين الله والإنسان أو ما يمكن تسميته بعقد الاستخلاف. وهذا العقد هو القرآن الكريم. وهو الديني في كل دين غير محرف. والفهم الأولي كان عكس توجيهات المستخلف للخليفة لمعرفة حقيقته.
والأمر طبيعي: وهو يتبين من المقابلة بين فهمه قبل الفتنة الكبرى وفهمه بعدها. فقبل الفتنة لم يكن ممكنا أن يساء فهم توجيهات العقد لأن الرسول كان على صلة مباشرة بالوحي والراشدين كانوا على صلة مباشرة بالرسول وربوا على نفس الصلة التي تعتبر العقد لتوجيه العلم والعمل واختبار أهلية الخليفة.
ويمكنني القول إني لم أفعل شيئا من عندي: كل ما أحاوله هو التحرر من هذا القلب المضاعف:
في الممارسة السياسية للخروج من حالة الطوارئ التي تعيشها الأمة منذ الفتنة الكبرى (الباطنية) ومكنت الفتنة الصغرى الحالية (العلمانية) من بيان طبيعتها
وانطلاقا من الفتنتين الكبرى والصغرى (الباطنية والعلمانية) بينت طبيعة المآل النظري والعملي:
قلب للعلاقة بين الدستور أو العقد القرآني والقوانين الاستثنائية في الممارسة السياسية
قلب لعلاقة بين ما أمر به القرآن وما نهى عنه وفي مجال اختبار أهلية الاستخلاف بالحريتين الروحية والخلقية
واختبار الحرية الروحية (العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه) وأثرها في الحرية السياسية (العلاقة غير المباشرة بين المؤمن وربه) تربية وحكما في الدنيا بوصفهما اختبارا لأهلية الإنسان كخليفة ذلك هو مجال كل علم وكل عمل يحاسب عليه الإنسان في الآخرة. والتكليف إذن مشروط بهذين الحريتين.
وتلك هي الشريعة التي تضبط الطبيعة: فالإنسان من حيث هو مخلوق يتبع الطبيعة ومن حيث هو مكلف يتبع الشريعة والقرآن هو إذن الميثاق بين الله والإنسان وهو إن صح التعبير تعليمات إلهية للإنسان حتى يبدع شروط قيامه الطبيعي والتشريعي. هو ما بعد شريعة وما بعد طبيعة وليس شريعة ولا طبيعة.
إنها لا تعلم بشرح نص القرآن بل تعلم بالبحث العلمي في الطبيعة وآيات الله فيها هي القوانين. والقرآن حدد طبيعتها دون أن يحدد أعيانها. فكل مخلوق خلق بقدر ومن ثم فهو يعني أن قوانين الطبيعة لا تعلم إلا بالإبداع الرياضي المشفوع بالتجربة العلمية. القول بالأعجاز العلمي تكذيب للقرآن.
وقد حاولت تحديد مقومات المجال الذي يختبر فيه الإنسان من حيث أهليته للاستخلاف كما يحددها القرآن الكريم تحديدا جامعا مانعا وسميت ذلك “المعادلة الوجودية” وهي على النحو التالي: القرآن تذكير بنص الميثاق أو العقد بين الله والإنسان إما كعلاقة مباشرة بينهما أو كعلاقة غير مباشرة بينهما.
والعلاقة غير المباشرة بين الله والإنسان ذات بعدين هما الطبيعة والتاريخ أو بلغة القرآن تجلي آيات الله في الآفاق والانفس وتحكمها العلاقة المباشرة بين الله والإنسان. والميثاق يتكلم على تواصلين بين الله والإنسان مباشر وغير مباشر. والأول هو عالم الغيب والثاني أثره في عالم الشهادة.
ومعنى ذلك أن التكليف -الاستخلاف-لا يقتصر على العمل بل هو يشمل النظر كذلك. فهما أداتا القيام بمهمة الخليفة وهما ما تختبر فيه أهلية الإنسان للاستخلاف والتقييم حتى يجازى إيجابا أو سلبا لأن حكمها هم حكم الاجتهاد (النظر) والجهاد (العمل) كما حددت ذلك صراحة سورة العصر.
وبهذا يتبين أن القرآن يمكن فهم طبيعته التي غفلت عنها علوم الملة رغم أنه حددها صراحة تجعله ذا بعدين مباشر هو التذكير بالميثاق أو الديني في كل دين وهو معنى كون الإسلام هو الدين الخاتم وغير مباشر هو تذكير بشروط أهلية الإنسان للاستخلاف في مستوى ما بعدها.
ومستوى ما بعد شروط الاستخلاف هو ما بعد الطبيعة وما بعد الشريعة وهما غير الطبيعة وغير الشريعة. ما يوجد في القرآن هو ما بعد الطبيعة وما بعد الشريعة. والخطأ الذي حصل وكان ينبغي أن يحصل هو الخلط بينهما وبين ما بعدهما: فتعاملت الأمة مع نص القرآن والسنة وكأنهما علم طبيعة وعلم شريعة.
وهما ليسا علما بل عقد أو ميثاق يحدد الشروط التي تمكن من تحصيل أهلية الإنسان للخلافة وهي شروط متعلقة بنظره وعمله في الدنيا التي هي مطية الآخرة لأن نظريه (الاجتهاد) وعمله (الجهاد) هما ميدان أقواله وأفعاله التي تعير بمقتضى عقد الاستخلاف أو الميثاق الذي شهد به أبناء آدم: دين الفطرة.
وهذا هو قصدي بأن الديني والفلسفي شيء واحد: كلاهما ينطلق من تعاقد بين الإنسان والحق. فالإنسان بالجوهر كائن لا يمكن أن يكون لوجوده معنى إلا بهذا الانشداد الدائم للحق لأن كيانه الروحي بمجرد أن يدكر ذاته يدرك أن حياته هي هذا الانشداد سواء علمه بعقله(فلسفة)أو بوجدانه(دين).