لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
لكن الكلام في محاولة ابن خلدون ينبغي تأجيله إلى ما يصلها بما تقدم في الفصول العشرة حول الشكوك لأنه لا يمكن الانتقال من عرضها بطريقة أرسطو في مقالة الدال إلى علاجها فيما بعد الشريعة-وهي طريقته التي خصصت لها بابا كاملا من رسالتي في الحلقة الثالثة حول منزلة الرياضيات في علمه.
وعلاج الشكوك فيما بعد الشريعة يعني ردها إلى المعادلة الوجودية والوصل بين العلاقة المباشرة بين الله والإنسان فيها والعلاقة غير المباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ بينهما. فالقرآن تذكير بهذه المعادلة وبما يترتب عليها في العقد بين الخليفة والمستخلف بتواصل موضوعه قوانين التواصل والتبادل.
ما بعد الشريعة التي تذكر بالعلاقتين المباشرة وغير المباشرة بين قطبي المعادلة الوجودية (الله والإنسان) هي ما بعد التكليف أو بنود الاستخلاف وصلا للإنسان الخليفة بالله المستخلف في العلاقة المباشرة وهي مقومات العبادة المباشرة وفي العلاقة غير المباشرة وهي مقومات اختبار الخليفة نظرا وعملا.
فلأذكر بالمعادلة الوجودية موضوع التكليف والاختبار التي هي بنية العقد أو الميثاق بين قطبيها الله والإنسان ما بينهما من علاقة مباشرة وبتوسط الآفاق والأنفس:
الله
الإنسان
الطبيعة
التاريخ
العلاقة المباشرة وغير المباشرة أو التواصل والتبادل المباشرين وغير المباشرين بين القطبين.
وكل هذه العناصر التي تتألف منها المعادلة الوجودية حاضرة في القرآن بذاتها وبما بعدها إنها في آن حاضرة بوصف عام يحدد طبيعتها وطبيعة ما يمكن للإنسان إدراكه منها بما جهز إليه من قدرة على الإدراك فيما يتعلق باختبار أهليته للاستخلاف خلال تحقيقه شروط قيامه المادي والروحي.
وذلك هو التكليف الذي يضاف إلى قيام الإنسان المادي باعتباره قيامه الروحي الذي يمكن اعتباره علاقة أخلاقه بخلقته المرسومين في فطرته والمتعين في نظره وعمله مجالين لامتحان أهليته لأن يكون خليفة بفضل ما يترتب على قدرة التسمية التي أهلته للاستخلاف مبدئيا كما في مشهد الاستخلاف.
فهذه الإضافة -القدرة على التسمية- هي ما جهلته الملائكة التي وصفته من حيث هو حيوان بكونه مفسدا للأرض وسافكا للدماء. وإذن فالتكليف هو النظير الخلقي للنظير المعرفي الذي يرمز إليه تعليمه الأسماء كلها أسماء المخلوقات أعني قدرة التسمية التي تنقل المسمى من الأعيان إلى الاذهان.
وهذه النقلة من الأعيان إلى الاذهان قلبت العلاقة بين الطبيعة والتكليف: فبفضل الاسماء يتحرر الإنسان المسميات ليصبح مفارقا لها وكأنه صار فطريا قادرا على التعيير القيمي بمستوياته الخمسة: وجوديا هو التوجيه (يميز بين الجهات الوجودية) ثم الجمالي والمعرفي والخلقي والوجودي أو العلاقة بالله.
وهذه القدرة على الانفصال عن مجرى الوجود العيني والارتقاء إلى الوجود الذهني بفضل قدرة التسمية هي أصل كل وعي تقييمي ومنه يستمد الوزع الذاتي (بلغة ابن خلدون) الذي لا يكون الوزع الأجنبي أو الخارجي ذا معنى من دونه: إنه جوهر الانشداد إلى المطلق أو الى طلب الحقيقة بالوجدان أو بالفرقان.
وما يتجلى فيهما هو آيات الله التي هي قوانين الأعيان وقوانين الأذهان المتعلقة بالطبيعة والتاريخ وإدراك تجليها هو البصيرة والحكمة التي هي ضالة المؤمن هي الجمع بين النظر والعمل بها تدركه البصيرة من تجلي القوانين الرياضية في الطبيعيات والسنن السياسية في الأخلاقيات أو الإنسانيات.
ولما كانت الشرائع التي هي موضوعنا متعلقة بالإنسان بوصفه مكلفا بمهمة الخليفة فإنها ليست معطاة في القرآن الذي هو المعادلة الوجودية وما بعدها بوصفها ما بعد مضمون الميثاق فإن الشرائع بهذا المعنى هي شرائع أفعال الأنسان وأقواله التي عليه إبداعها جزءا من موضوع اختبار الاهلية للخلافة.
ولو كانت معطاة بأعيانها وليس بمبادئها فحسب لكان الإنسان مجرد كائن طبيعي غير مكلف ولكان خاضعا للضرورة كأي حيوان ليس له القدرة على التسمية أو قدرة التعالي على الضرورة لتحقيق مطالب التكليف التي تختبر بها الاهلية أي إبداع أدوات النظر والعمل أي وظائف الدولة تعينا للتربية والحكم.
فماذا نجد في هذه المعادلة الوجودية التي هي ما بعد نظرية الله ونظرية الإنسان ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصلين والتبادلين لأنها الرسالة الخاتمة. فمن يؤمن بان القرآن كلام الله وأن ما يقوله عن نفسه وعن الرسول الخاتم ينبغي أن يعتقد أن القرآن يتضمن سر كل شيء في الوجود.
والفتنة الكبرى بطننت الإسلام والفتنة الصغرى تحاول علمنته. ولما كنت ضد البطننة والعلمنة فإن همي هو إخراج الأمة منهما وإعادة التأسيس من رأس: علوم الأمة وأعمالها التي حصلت خلال حكم الطوارئ كلها قوانين استثنائية نتجت عن تعطيل الدستور العملي (سياسة) والدستور النظري (معرفة).
وطبعا فما حصل بسبب هذه القوانين الاستثنائية في العمل والنظر لا يمكن نفيها فهي جزء لا يتجزأ من تاريخ تراثنا السياسي والمعرفي وهي تجربة طويلة مكنت الأمة من تحقيق قدر لا يستهان به من التعمير والاستخلاف لكنها في الحقيقة كانت باطنية النظر وعلمانية العمل حولتا الدين إلى إيديولوجيا.
فذلك من قضاء الله وقدره ليرزقها بتاريخ طويل حتى تتمكن من تجربة تاريخ البشرية حتى تخرجها من الغفلة بإشارة سورة يوسف فتدرك رهانات دنياها ودوره الاختباري للأهلية الاستخلافية في الحب ونظام الحاجات المادية والحاجات الروحية فتخطط للمستقبل بالوصل بين الحلم والعلم برقابة برهان الرب.
ونظرية الله ونظرية الإنسان ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصل والتبادل المباشر بين الله والإنسان وغير المباشر بينهما بتوسط الطبيعة والتاريخ لم ترد في القرآن بوصفها علوما عينية في القرآن بل هي وردت فيه بوصفها ما بعد علومها العادية لتوجه البحث فيها والعمل اختبارا للأهلية.
وذلك هو معنى “خلق ثم هدى”. والهداية إشارات الله إلى الطريق القويمة في النظر والعمل وليس القيام بالنظر والعمل بدلا من الإنسان. لذلك فالشريعة بوصفها علم الفقه وتأصيله تخضع لنفس المنطق: القرآن لا يتضمن إلا الإشارات الموجهة إلى الطريق القويمة لإبداع الإنسان فيها نظريا وعمليا.
وإبداع الإنسان للشريعة نظريا هو الفقه وأصوله. وإبداعه لها عمليا هو الدولة وأصولها. الفقه هو نظرية الدولة ووظائفها أو حرزا الوجود الإنساني في الأعيان والاذهان خلال الاختبار: والشريعة هي مقومات حمايته ورعايته. وفروعهما هي وظائف الدولة متعينة في الأعيان والأذهان هي الشريعة.
وهذه هي مادة التاريخ الإنساني الذي هو توليفة بين ما في الإنسان من طبيعي ومن روحي إذ يلتقيان مرتين: فيه كفرد وحرزه الإيمان والعمل الصالح. وفي الجماعة وحرزها التواصي بالحق والتواصي بالصبر. فتكون الشريعة بهذا المعنى هي هذه الحروز الخمسة: إرادة الخروج من الخسر بما حددته سورة العصر.
لابد إذن ما بعد العلم وما بعد العمل الهادية للإنسان في اختبار أهليته للاستخلاف بتعامله مع مقومات المعادلة الوجودية: الله والإنسان والطبيعة والتاريخ وما بين الله والإنسان من تواصل وتبادل مباشرين ثم ما بين الإنسان والطبيعة وما بين الإنسان والتاريخ علاقة غير مباشرة بين الله والإنسان.
نظرية الله Théologieونظرية الإنسان Anthropologie ونظرية الطبيعة Cosmologie ونظرية التاريخ Historiologie نظرية التواصل Communication والتبادل Echange بين الله والإنسان المباشرين ثم غير المباشرين بتوسط الطبيعة والإنسان والتواصل والتبادل هي موجهات القرآن لكل علم وعمل.