لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
يمكن القول إذن أن كل تاريخ الفقه هو محاولة الحد من “اجتهد رأيي ولا آلو” أو محاولة تأسيس حل معضلة التشريع التي هي دائما علاقة النصوص القانونية المتناهية بالنوازل اللامتناهية وسعيها الدائم للوصل بين هذين الحدين وصلا لا يتناهى. فمهما أضفنا إلى والنسبة تبقى لامتناهية.
وفرضيتي النظرية هي أن نظرية المقاصد حتى لو سلمنا بها لن تمكن من تحقيق الحل لأنه أولا مستحيل ولأن حلها لن يكون مقبولا إلا بشرطين يجعلان الدين مجرد خدعة وظيفتها التغطية على الرؤية الباطنية للدين: مجرد إيديولوجيا للعامة تضفي الشرعية على إرادة المتحيلين باسم الدين.
وذلك هو جوهر التحريف الذي يتكلم عليه القرآن. وطبعا فأنا أنزه كل المنظرين للمقاصد من إمام الحرمين إلى الشاطبي وخاصة الصديق أحمد الريسوني-ودليلي كتابه مقاصد المقاصد الذي يحاول فيه منع هذا المآل الممكن وخاصة عندما تصبح الأحزاب الدينية حاكمة فتبرر كل شيء بما يسمونه إكراهات الواقع.
مفهوم “فقه الواقع” و”إكراهات الواقع” و”الفقه ابن زمانه” و “حيثما وجدت المصلحة كان الدين” كل هذه العبارات هي من التعليلات الصريحة لهذا الوصل بين التشريع والقانون وما يراد بهما ليكونا مجرد أداة إيديولوجية طيعة بيد من يتعلل بها ليضفي الشرعية على ما ليس له منها إلا شكلها اللفظي.
ولأعين بصورة جامعة مانعة توظيفات نظرية المقاصد في الجدل الحالي بدعوى المد في عمر الفقه بحلول زائفة منطلقها تعريف خاطئ للفقه ووظائفه. فالمقاصد تهدف إما إلى تعديل الأحكام التي يظن أنها لا تتفق مع العصر أي تغيير الموجود أو لسد حاجات لا وجود لما تسدها الشريعة أي لإيجاد المعدوم.
وتعديل الموجود من حدود الله وأحكامه أو حتى تعطيله يوجد عند العلماني والإسلامي: وغالبا ما ينافق الأول مدعيا حماية الدين وتحديثه والثاني يكون عادة في موقف دفاع فيفعل مثله دون سوء نيته. لكن عندما يصبح الإسلامي حاكما فإنه ليس من المستبعد أن يصبح مثل العلماني داعيا لتعديل الموجود.
أما إيجاد المعدوم فله نوعان يشبه ما كان يزاد بالقياس أو بالاستحسان إلخ.. أو بالمقاصد نفسها وهي تمد الفقهاء بفسحة أكبر في هذه الزيادة باسم التكيف مع التطور. وطبعا كل هذه المطالب مشروعة ولست ضد تطوير التشريع سماويا كان أو وضعيا. لكنه في الحالتين مبني على أسس خاطئة.
وينتج هذا التعديل للموجود باسم التحديث أو فقه الواقع أو الاكراهات إلخ.. وكذلك إيجاد المعدوم بنفس التبريرات عن موقف باطني غير واع حصل بالتدريج لما أصبح التشريع وسيلة من وسائل اضفاء الشرعية على ما ليس بشرعي توظيفا للدين في السياسة حتى في الأنظمة التي تدعي العلمانية.
والنتيجة أربعة:
تعديل الموجود
إيجاد المعدوم
الموقف الباطني باسم التحديث وفقه الواقع
التطابق مع الموقف الشيعي الذي يجعل الديني غطاء للسياسي عامة وبدلا من أن يكون الدين تحريريا وتنويريا يتحول إلى النقيض التام من ذلك. وهذا الاستغلال من نفس الطبيعة في الوهابية والتشيع.
ولست أعمم على أفراد الفقهاء بل كلامي يتصل بجلهم وخاصة بمن كان منهم في خدمة الأنظمة وهم الأغلبية حتى في البلاد التي يحكمها العسكر لأن الأمر ليس مقصورا على البلاد التي تحكمها تقاليد القبيلة أو العسكر بغطاء ديني للاستهلاك المحلي وحداثي للخارج.
وغالب الثرثرة حول الوسطية هي من هذا النوع. ذلك أنه لا توسط يمكن أن يغطي على الاستعمال الأيديولوجي للعقائد أو للعلوم حتى وإن اختلفت معايير التمييز بين الصدق والكذب في نوعي العقد الإيماني والعقد العلمي. الفرق الوحيد يكمن في يسر تبين ذلك في العلم عسره في الإيمان.
وما جعلني أستأنف الكلام في المسألة بعد حواري مع الشيخ البوطي هو أن استغلال نظرية المقاصد لتعديل الموجود وإيجاد المعدوم في الشرع لم يعد ذا دينامية عادية تنبع من الداخل بل هو صار مفروضا من الخارج كما يتبين من تدخل الغرب عامة وأمريكا خاصة في برامج تعليم المسلمين وعقائدهم وعبادتهم.
وتبرير هذا التدخل يحتاج إلى نظرية المقاصد أكثر من الحاجة الذاتية لأصول الفقه كما وضعها إمام الحرمين أو الغزالي أو كما نسقها ونظمها الشاطبي أو بالطريقة التي يحاول الشيخ الريسوني احاطتها بحروز تحول دون ما وصفت من انفلات يؤدي إلى جعل الفكر السني يصبح باطنيا.
قد يتصور العجلى أني ضد التطور الفقهي والقانوني. لكن الحقيقة هي أن المقاصد لا تطور الفقه بل تلغيه إذا ذهبنا بها إلى الغاية. وهي لا بد ذاهبة إلى الغاية. فهي تيسر التحيل الفقهي وتبرر كل شيء بالمقاصد خاصة إذا كان مستعملها ليس حريصا على ما من دونه يفقد التشريع شروط الشرعية.
فبصرف النظر عن المرجعية التي يستند إليها القانون-شرعيا كان أو وضعيا-يؤول الأمر قلب العلاقة بينها وبين السياسي الذي يوظفه لموقف إيديولوجي يدعي صاحبه تحديد مقاصد الشارع بمقتضى المصلحة إما بوهم معرفة مقاصد الله من التشريع (الشرعي) أو مقاصد الطبيعة (الوضعي) منه.
وسأقتصر على المقاصدية الشرعية لكن نظيرتها الوضعية ممكنة ولا فرق بينهما إلا بطبيعة المرجعية أو الأسس التي ينبني عليها شرعية الأمر والنهي القانونيين أو التعبير عن الإرادة التشريعية التي تتبناها جماعة من الجماعات. وسرعان ما ينقلب المقصد إلى مجال التقنين بدل وظيفته وشروط تحقيقها.
فمثلا عندما يحدد المقاصديون المقاصد الضرورية (خمسة أو أكثر وهو أمر ناقشناه في الحوار مع المرحوم البوطي) سرعان ما يهملون الأصل الجامع -فعل الحماية-ويمرون مباشرة المقاصد التي هي المجالات او ألموضوعات المحمية: حماية كذا.. يتكلمون في “كذا” وينسون “حماية”.
فعندما أقول “حماية” العقل مثلا مقصدا يضعون تحته منع المخدرات مثلا تكون الحماية فعلا سلبيا قد ينتهي إلى مفهوم سد الذرائع أو فعلا إيجابيا قد ينتهي إلى فتحها ويهملون بما مقتضاه يكون القانون الموضوع حائزا على تأسيس يتجاوز تحكم فهمهم لإرادة المشرع إلاهيا كان أو إنسانيا.
وبهذه الصورة يصبح فعل “حمى” غير محدد وشروط التعبير عن الإرادة الإلهية أو الإنسانية في التشريع غير محددة بل كلاهما مسلم تحدد تحديد طبيعته أو شروط أداء وظيفته وقيم الأداء فضلا عن كون الفقيه مفتيا أو قاضيا يصبح حائزا وإن إضمارا على وظيفتي التشريع والقضاء.
وينتقل القاضي من وظيفة الوصل بين سلطتي التشريع والتنفيذ بالحكم الذي ينزل التشريع بالوصل بين نص وحدث لوصفه القانوني -وهي عملية فنية خالصة-تقتضي الحصول على ثلاث مهارات (مهارة فهم النص الواصف للأفعال التي يتعلق بها وفهم الأحداث الموصوفة والوصل بين الواصف والموصوف): ولهذا الفعل حد.
فالوصل بين نص القانون الواصف والحدث الموصوف إدراج لجزئي وجودي (الحدث) في كلي معياري يعبر عن إرادة الشارع إلهيا كان أو إنسانيا. وإذن فهو فعل ذو بعدين: تقنيا هو إدراج لجزئي تحت كلي. ومعرفيا هو إدراج لجزئي إرادي تحت تعيير إرادي: وهو إذن من مجال معرفي تقينا لكن حقيقته تقييمية.
ومن ثم فمجرد العلم بالنصوص والعلم بالنوازل حتى لو فرضناهما حاصلين لا يكفيان ليكون المرء فقيها سواء كان بمعنى القضاء أو بمعنى الإفتاء. فلا بد من شرعية تؤسس لأداء هاتين الوظيفتين اللتين لا تتعلقان بمجرد المعرفة بل بالجمع بين نظام التعيير في الجماعة وشروط تطبيقه في الأعيان.
وهذا ينتسب إلى سلطتين تحيطان بالقضاء هما سلطة التشريع وسلطة التنفيذ لأن القاضي يصل بين السلطتين دون أن يكون سلطة من جنسهما بل هو سلطة معرفية في نظام التعيير الذي تبنته الجماعة (شرعيا كان أو وضعيا لا يهم) معين من نظام سياسي شرعي بمقتضى ذلك النظام الذي تبنته الجماعة.
وإذن فالقاضي والمفتي كلاهما وسيط “معرفي” في النظام التقييمي للأفعال بإدراج أعيان الاحداث في كليات المعايير ليتم الانتقال من الحكم التعييري إلى الفعل التنفيذي دون أن يكون له دور في وضع نظام التعيير النصي وفي نظام تنفيذه الفعلي. فهو مدين لسلطة التشريع بالنص ولسلطة التنفيذ بإنفاذه.
فيكون فعله الواصل بين كليات النص القانوني المعيرة للأفعال وأعيان الافعال في الوجود مشروطا بنوعين من الشروط: طبيعة علمه وشرعية وظيفته. وشرعية وظيفته مضاعفة: شرعية يمكن وصفها بالسياسية وشرعية يمكن وصفها بالخلقية. والأولى هي شرعية المعبر عن إرادة الشارع والثانية عن أخلاق القاضي.
وما نقوله عن القاضي نقوله عن المؤصل للفقه أو للقانون: ذلك أن للقانون أو الفقه ثلاث مستويات: التنظير والتشريع والقضاء (والافتاء الذي هو قضاء في مسائل الضمير الديني بوصفها نزاعا ذاتيا بين المرء ونفسه سواء كان فردا عاديا أو حاكما لدولة خلال التردد في وصف شرعي لما ينوي القيام به).
والتنظير في الشرائع غير التنظير في الطبائع وهو الأمر الذي يغفله القائلون بالتحسين والتقبيح لظنهم أن الأحكام المعيارية من جنس الأحكام العلمية خلطا بين الوجودي (الأنطولوجي) والقيمي (الأكسيولوجي) من الاحكام. لا بد من التمييز بين صفات الشيء الذاتية ووصفه المعياري في أنظمة التشريع.
والقائلون بالتحسين والتقبيح العقليين لا يميزون بينهما فيعتبرون الوصف المعياري في الشرائع من جنس الوصف المحايد في الطبائع من نفس الجنس. لذلك فهم يعتقدون أن العلم بالصفات وحده كافيا ولا يرون أصل دور “المعيار”: فأنظمة التشريع ليست علما بالطبائع بل هي عمل بنظام تعيير للأفعال الحرة.
الشرائع لا تنطبق على الطبائع من حيث هي طبائع بل على نظام معين من القيم التي تبنتها جماعة لتكون مرجعية قيمية تعير بمقتضاها أفعال الإنسان الحرة لا المضطرة. فالضرورة القانونية في الشرائع غير الضرورة القانونية في الطبائع. هذه يكفي فيها العلم وتلك لا بد فيها كذلك من شرعية للحكم فيها.
وشرعية من يقضي فيها مستمدة من شرعية من له شرعية تفويضه في القضاء باسم تلك الشرعية. وهنا نأتي إلى تحديد مفهوم “حماية” ومفهوم “كذا” ومفهوم “تعيير” قانوني ليتم الجمع بين الشروط الضرورية لوظيفة القاضي: أن يعلم نظام التعيير وأن يعلم نظام الاحداث بمقتضاه وأن يكون مفوضا لأداء هذا الدور.
والتفويض لهذا الدور يستمد شرعيته من أمرين:
من شرعية من له شرعية التفويض بمقتضى ذلك النظام التقييمي في تلك الجماعة.
والشروط الخلقية التي يحددها ذلك النظام في أهلية من يتولى تلك الوظيفة وهي بالإضافة إلى ما ذكرنا قيمتان خلقيتان حددهما القرآن: الأمانة والعدل.
لذلك فالكلام على المقاصد لتعديل الموجود من نظام التشريع الخاص بجماعة من الجماعات أو لتوسيعه بإيجاد المعدوم فيه ليس كلاما متعلقا بمستوى فعل التنظير ولا بمستوى فعل التشريع ولا بمستوى فعل القضاء والافتاء أي المستويات الثلاثة وكأنها من جنس فعل النظر المجرد والعلم والتطبيق.
فالأفعال الثلاثة في المجال الأكسيولوجي غيرها في المجال الابستيمولوجي. لا بد من هذا في ذاك. ولعل هذا نفسه مشروط بآخر شروط ذاك أي الأخلاق. إنها علاقة الفلسفة العملية بالفلسفة النظرية: فمن يقول بالتحسين والتقبيح يلغي الفرق بين الوجودي (مجال الابستمولوجيا) والقيمي (مجال الأكسيولوجيا).