لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
تبين مما تقدم أنه لا معنى للكلام على النظام القانوني بوصله مباشرة بالنص القرآني بوصفه عين العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بدلا من وصله بما وجه إليه النص القرآني بوصفه علاقة غير مباشرة تشهد لحقيقة القرآن أو للعلاقة المباشرة بين المؤمن وربه: إنها آيات الله في الآفاق والأنفس.
وذلك يعني أن النظام القانوني والخلقي (الفقه) لا يتأصل مباشرة في آيات القرآن النصية بل فيما وجهت إليه من آيات الله في الآفاق والانفس المتعلقة بوظائف النظام القانوني الذي يترتب على النظام المحقق لشروط استعمار الإنسان في الارض بشروط الاهلية للاستخلاف: النظام السياسي تربية وحكما.
حقيقة القرآن الذي هو التواصل المباشر بين الإنسان وربه لا تعلم من منه بل هي تعلم مما أشار إليه القرآن إشارة توجه الإنسان للبحث عنها فيه. وإذن فعلم الطبائع والشرائع لا يستمد من القرآن مباشرة بل مما أشار إليه محلا لآياته التي تتجلى فيها حقيقته: شروط قيام الإنسان الطبيعية والتاريخية.
ومعنى ذلك أن التواصل المباشر يوجه الإنسان إلى التواصل غير المباشر الذي يتم خلال تعمير الإنسان للأرض بوصف ذلك امتحانا لأهليته للاستخلاف. وهذه الشروط هي عين مقومات كيان الإنسان المستعمر في الأرض لتحقيق شروط قيامه المادية لامتحان أهليته للاستخلاف لتحقيق قيامه الروحي.
وبهذا تتحدد حقيقة القرآن دليلا مذكرا للإنسان بمقومي كيانه المادي (وشرطه تعمير الارض أو تسخيرها لقيامه المادي) وكيانه الروحي (وشرطه أن يكون ذلك التعمير خاضعا لاختبار مدى أهليته للاستخلاف أو مدى تحرره مما وصفته به الملائكة ومن دعوى ابليس بعدم أهليته).
والأمر هنا لا يتعلق بالغيب بل بوظائف الرسالة التي هي القرآن كما يعرف نفسه علاقة مباشرة تذكر الإنسان بأنه في امتحان دائم هو عين كيانه المادي والروحي كما يتعين في الطبيعة التاريخ علاقة غير مباشرة مشدودة إلى ما في العلاقة المباشرة من تحديد لهويته العضوية والروحية: مستعمر ومستخلف.
ولما كان مكلفا أي حرا مخيرا قادرا على تطبيق التكليف وعدم تطبيقه بات الأمر متعلقا بسياسة ذاته تربية وحكما أو بنظرية الأمة ذات الدولة إطارا الامتحان لتحقيق مقومي الكيان أي التعمير والاستخلاف فإن النظام القانوني يتأسس في نظرية الدولة كما حدد القرآن مثالها أي سياسة الله للعالم.
وهذا هو الدستور الذي عطل وعوض بحالة الطوارئ كما وصفت. فما هو هذا الدستور؟ وكيف يتألف من الحريتين الروحية (لا وساطة بين الله والإنسان) والسياسية (لا حكم بالحق الإلهي) شرطين في الاختبار؟: كيف يمكن أن يحاسب الإنسان إذا لم يكن حرا روحيا وحرا سياسيا لئلا يحمل مسؤولية أفعاله لوسيط ووصي
فما هو هذا الدستور؟
فمرجعية الدستور هي الاستجابة إلى الرب. وطبيعته هي نسبة الأمر للجماعة. وأسلوبه هو سياسته بالشورى. وأهم مجالاته هي الإنفاق من الرزق الذي هو ثمرة التعمير والذي الأمر في إدارته هو غاية الاستخلاف. وينتج عن ذلك أن النظام السياسي الذي يشير إليه القرآن وظيفته الخروج من الخسر.
فالمرجعية تحددها سورة العصر: وله أصل وأربعة فروع. الأصل هو وعي الإنسان بشروط الاستثناء من الخسر الذي قد يرد إليه إذا لم ينجح في اختبار أهلية الاستخلاف أو في الحياة الدنيا تعميرا بقيم الاستخلاف: والفروع الاربعة اثنان منها متعلقان بالذات الفردية يضاف إليهما واثنان بعلاقة الذوات أو بالجماعة.
فكل علاقة بين البشر مدارها ثمرة الاستعمار في الأرض (الرزق) في ضوء علاقة الإنسان بربه المذكورة أو المنسية وبين هذين الحدين يأتي النظام السياسي والقانوني لتنظيم هذين العلاقتين المباشرة بين الإنسان وربه وغير المباشرة بين الإنسان مجال اختبار الأهلية الأساسي أي الانفاق من الرزق.
ولنأت الآن إلى تعريف النظام السياسي والقانوني الذي يحقق هذه الإشارة والذي هو المثال الأعلى الذي ينبغي أن تكون الدولة في الجماعة الصالحة مشدودة إليها بوصفه محققا لاختبار الاهلية الذي يتحقق في سياسة الإنسان لوجوده الدنيوي باعتباره مستعمرا في الأرض ضرورة ومستخلفا اختيارا.
فالآية وضعته بين الاستجابة للرب والإنفاق من الرزق. وفيه مقوما النظام السياسي والقانوني اللذين يتوفر فيهما شرط اختبار الحريتين: طبيعة النظام وأسلوب النظام. فنسبة الأمر إلى الجماعة تحدد طبيعة النظام جمهورية (أمر الجماعة=راس بوبليكا) وأسلوب إدارته بالشورى يعني ديموقراطية.
وهذه الجمهورية الديموقراطية تتأسس على مرجعية الاستجابة إلى الرب بداية وعلى اجتماعية الرزق غاية فيكون النظام القانوني المناسب لهذا النظام السياسي نظاما هدفه الوصل بين طبيعة التعمير وأهدافه وطبيعة الاستخلاف ودوره في جعل التعمير يثبت أهلية الإنسان للاستخلاف أو عدم أهليته.
تأصيل النظام القانوني والخلقي أو تأصيل الفقه ينطلق من هذا التعريف للنظام السياسي حكما (النظام القانوني) وتربية (النظام الخلقي) في جماعة مؤمنة بدلالة حددتها سورة العصر لاخراج الإنسان من الخسر الممكن خلال اختبار الاهلية في الاستخلاف كما وصفنا.
وهذا يعني أن تأصيل الفقه لا يؤسس مباشرة على نص القرآن بل على ما وجهنا اليه من طلب آيات الله في الآفاق والأنفس طلبا قد ينتهي إلى تحقيق اهلية الاستخلاف وقد ينحرف فيبعدنا عنا. وما نحاسب عليه هو ما نضعه من قوانين وأخلاق في سياسة الامر الذي هو أمرنا بالشورى فنحمل مسؤولية ما يترتب عليها.
فإذا ناسب تشريعنا الذي نضعه بالشورى شروط اهلية الاستخلاف كان شرعيا وإن لم يناسبها كان لا شرعيا. والمناسبة تتحقق بفضل صفات القانون والأخلاق التي تجعلها تحقق قيم الاستخلاف وهي الأمانة والعدل في حالة الفقه والقانون. ومبدأ عدم إجماع الأمة المؤمنة على الخطأ يؤيد هذا التصور.
ومن ثم فالجماعة المؤمنة التي تتألف من أفراد يؤمنون ويعملون صالحا تكون متواصية بالحق وبالصبر في النظر والعمل ويكون تشريعها منطلقا من الاستجابة إلى ربها وساعيا إلى الانفاق من ثمرة التعمير بقيم الاستخلاف هي السلطة التشريعية التي يكون تشريعا قانونا بمعزل عن المقابلة وضعي-ديني.
وبذلك تتحرر الأمة في مرحلة الاستئناف من حالة الطواري التي نتجت عن الفتنة الكبرى بداية واستأنفت عن الفتنة الصغرى غاية وتحررت مما يعوق الحريتين بين الفتنتين ولن تقع فيما يعوقهما بعد عودتهما وتحالف أصحابهما في حرب ضروس ضد هذا الدستور الذي عطلته الفتنة الكبرى وتريد الصغرى إلغاؤه.
فالفتنة الكبرى كان مدارها الدستور القرآني لفرض دين التقية الباطني المتعين في التشيع. والفتنة الصغرى مدارها الدستور القرآن لفرض دي العجل المتعين في العلمانية. وهما الآن متحالفان ضد الإسلام في دلالته الأصلية التي يشير إليها القرآن ويترك لنا واجب خوض اختبار الاهلية باجتهادنا.
والاختبار شامل: القرآن وفهمه الأسمى (السنة) يفرضان على المؤمنين ما حددته سورة العصر للخروج من الخسر أو للنجاح في اختبار الاهلية. وهذا الاختبار هو التعمير بقيم الاستخلاف وهو يشمل كل شروط التعمير علما بالطبائع والشرائع وعملا بهذا العلم وتنظيم الحياة (الأمر)بإرادة مؤمنين أحرار.
والفقه الناتج عن علوم آيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس لنعلم حقيقة القرآن هو الذي علينا تأصيله ليكون عودة إلى الصدر بمرحلتيه: فقه الرسول وفقه الخلفاء الراشدين الثلاثة الاول (لأن الرابع لم يحكم بسبب الحرب الأهلية): شرعية الفقه من شرعية الدولة التي حددها الدستور القرآني.