لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشكوك على نظرية المقاصد
لم يفهموا أن القرآن يوجههم لعلم الشاهد كشاهد ليفهموا بعديه الطبيعي (رياضيات تطبيقية) والتاريخي (سياسيات تطبيقية) وكلما أصابوا في علمهما تبينت لهم حقيقة القرآن التي هي المثال الاعلى المطلق الذي به يعير الشاهد ولا يعلم بقيسه الغيب عليه لأن مثال أعلى لا يدركه إلا الله بعلمه المحيط.
ومن ثم فالمنطلق هو الطبيعة التي تتجلى فيها قوانينها الرياضية وتلك هي آيات الله التي يرينها فيها والتاريخ الذي تتجلى فيه سننه السياسية وتلك هي آيات الله التي يرينها فيه. فنرى القوانين والسنن بما نبدع عبارة ما تلقته البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة حوادس وراء حواسنا.
وهذه الحوادس التي تمكن الحواس من تجاوز ظاهر الآفاق والانفس إلى قوانينها وسننها هي التي جهز الإنسان بها ليتجاوز كيانه الطبيعي الخاضع للضرورة إلى كيانه الروحي المتعالي عليها بالحرية والقدرة على تدبر الكون والتاريخ عودة مما في الأنفس إلى ما في الآفاق. فالأنفس تدرك صفاتها المقومة.
فالإنسان يدرك أن له إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجود هي شروط هذا التلقي والتعبير عنه للتواصل والتبادل المباشرين مع الله الذي ينسب إليه إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا كلها مطلقة وهي جوهر المثال الاعلى الذي لا يمكن للإنسان أن يعيش لحظة من دون انشداده إليه.
فينسب إليه الخلق والامر الذي يذكره به القرآن خلق كل شيء وأمره فتتحدد لديه معايير علمه وعمله في عالم الشهادة ومن ثم فالاتجاه الأصوب في المعرفة هو قيس الشاهد على الغائب وليس العكس. فالمثال الأعلى غيب لكن منه ينبجس نور يضيء الشاهد بشهوده الحاضر والماضي والمستقبل شهود التقدير الذهني.
وإذا أيدت التجربة العلمية والعملية بعض مقدرات الذهني حصل العلم جمعا بين التقدير الذهني والتحقق العيني في النظر والعمل. وهذا الجمع بين التقدير الذهني والتحقق العيني لأفعال العباد هو اختبار أهلية الأنسان في الخلافة أو عدم أهليته. لذلك كان موضوع الفقه كل أفعال الإنسان وتعاملاته.
وأفعال العباد بهذا المعنى ترد إلى العمران والاجتماع مادة للسياسي بما هو تربية وحكم بشروط انتظام هذه الأفعال وما يترتب عليها من ثمرات وتعاملات يمكن أن تكون مجال توافق أو خلاف بين البشر ما يقتضي حكما بينهم يكون فيه الوازع الأجنبي متمما للوازع الذاتي وخاصة عندما يغفو فلا يزع ذاتيا.
وكانت الثمرة الثورية متمثلة في أن ما بعد العلم والعمل الفلسفيين اللذين كان يرد إلى الميتافيزيقا أصبح يرد إلى المتاأخلاق: لم يبق مابعد الطبيعة (أرشيتاكتونيك قانون الضرورة) وحتى ما بعد التاريخ (أرشيتاكتونيك سنة الحرية) ممثلين للعلم الرئيس بل مابعد الأخلاق أو المعادلة الوجودية.
وهذا العلم الرئيس البديل هو الذي يؤسس للعلاقة بين القوانين الطبيعية (رياضيات مطبقة) والسنن التاريخية (سياسيات مطبقة) بوصفها علاقة تواصل وتبادل بينهما في ضوء علاقة مباشرة بين الله والإنسان هي عين كيان الإنسان أو عين انشداد صفاته النسبية إلى صفات الله المطلقة التي وصفنا.
وهذا هو الميثاق أو العقد الوجودي الذي يترجم قرآنيا بعقد الاستخلاف: الإنسان يعير ما ينسب إلى الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود من أفعال العباد بمعايير تليق بإرادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده مع العلم باستحالة التطابق بين النوعين النسبي والمطلق: وهذه الاستحالة هي الغيب.
المقدمة مبنية على عناصر المعادلة الوجودية الخمسة: نظرية الله ونظرية الإنسان ونظرية الطبيعة ونظرية التاريخ ونظرية التواصل والتبادل المباشرين بين الله والإنسان وغير المباشرين بينهما بتوسط الطبيعة والتاريخ وكل ذلك على أساس عقد الاستخلاف واختبار أهلية الإنسان للاستخلاف نظرا وعملا.
وهي مبنية على دور الاحياز في تحقيق شروط الاهلية: فتحويل المكان إلى جغرافيا والزمان إلى تاريخ حضاريين بما يحققه الإنسان بعلمه وعمله فيهما وما ينتجه هذا العلم والعمل من تفاعل بين الجغرافيا والتاريخ في الاتجاهين من الجغرافيا إلى التاريخ (تراث شعب) ومن التاريخ إلى الجغرافيا (ثروته).
وهذه الأحياز الاربعة-الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة-يوحدها عامل روحي متعين في منظومة من القيم لها قيام في الأذهان والاعيان هي المرجعية التي تجمع الجماعة روحيا وهي عندنا القرآن والسنة وما يمثلهما في المعالم ذات الدلالة الروحية كالحرمين والمساجد والشعائر ومراسم الحياة والموت.
وهذه المرجعية الموحدة للأحياز هي بدورها حيز يتضمن البعد الروحي من حياة الجماعة أو ما يجعلها أمة لأنها هي في الحقيقة حصيلة الما بعد العام أو ما بعد الطبيعة والتاريخ والعلاقة بينهما وبين القطبين الله والإنسان أعني المعادلة الوجودية التي تحرر الإنسان من الوجود المحدود والفاني.
ولا توجد جماعة-ذات دين وثني أو منزل-تخلو من التحدد بهذه الاحياز التي وصفت. وهي الإطار الذي يجري فيه الاختبار بالنسبة إلى كل إنسان. وواضح أن حياة الإنسان مشدودة إلى هذه الأحياز: فمن الجغرافيا يستمد مادة حياته ومن التاريخ صورة حياته ومن الثروة زاده المادي ومن التراث زاده الروحي.
وبذلك فكل إنسان يحتوي في كيانه العضوي والروحي كل البشرية لأن الزادين ومصدريهما كلاهما واحد وكلاهما يتحدد في المرجعية إما مصدرا مكتفيا بذاته لأنه هو المعبود (الدهرية) أو مصدرا غير مكتف بذاته بل هو مسخر من إله مفارق هو صاحب الرزقين المادي والروحي وهو المعبود الوحيد.
ويتعين ذلك في السياسة تربية وحكما: التربية والحكم المؤسسين على الدهرية التي تؤله الطبيعة والتاريخ ويتعين الإله في أصحاب السلطان عليهما أي إن الدولة هي التي تمثل النظام الإلهي. فالحاكم والكاهن بشكل دولة فرعون وهامان هم أصحاب العطاء والمنع في الرزقين فيؤله الاقوى منهما: فرعون.
فصارت الدولة مبينة على نفي الحريتين اللتين من دونهما لا معنى للاختبار: الحرية الروحية تزول بسبب الوساطة التي يرمز إليها ممثل السلطة الروحية (الكنسية) والحرية السياسية تزول بسبب الوصاية التي يرمز إلها ممثل السلطة المادية (الحكم بالحق الإلهي). والإسلام ثورة على الوساطة والوصاية.
ومدار الامر روحي ومادي: فهو الاستجابة للرب بداية والانفاق من الرزق غاية. والأمر الروحي هو المحرر لأن الاستجابة إلى الرب هي الحرية الروحية والحرية السياسية والأمر المادي هو التحرر من سلطان الدهرية أو دين العجل الذي يكون فيه الأمر بيد المتحكمين في الرزق المادي.
وما أعرضه هنا في شكل شرح فلسفي للرؤية التي يمثلها القرآن هو ما وضعه ابن خلدون في شكل نظرية العمران البشري والاجتماع الإنساني بوصفه تعين حقيقة الإنسان في التاريخ بوصفه مستخلفا وممتحنا من حيث نظره في شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف وعمله باجتهاده النظري.