شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

إن مجرد العلم بهذه الشروط والمقدمات يجعل كلام أدعياء الحداثة والأصالة على حد سواء في مسألة المقاصد ذا صلة بالحرب على السنة والحديث. ذلك أنهم يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين سرا أو علانية خلطا بين الطبائع والشرائع وبين قانون الضرورة في الأولى وقانون الحرية في الثانية.

فحتى لو كان الحديث كله موضوعا-وهو أمر لا يصدقه عقل-فإنه يبقى أكبر دليل على أن ابن حنبل كان أدرى الفقهاء بطبيعة علوم الشرائع: فهي ليست علما لطبائع الأشياء وليس تنكرا لهذا العلم لكنها عمل بنظام تعيير تبنته جماعة أو وضعته لتنظم بها حياتها المعيارية التي تعدل من حياتها الطبيعية.

والحديث حتى لو سلمنا جدلا بأن الكثير منه منتحل دليل على أن بناء القضاء والافتاء أي التعيير المقبول من الجماعة بوصفه المعروف والمنكر عندها أعني القيم التي تعتقد حقا أو ظنا أنها تمثل ما كان يمكن أن يكون حكم الرسول فيها هو المرجعية الثانية بعد الأصل المؤسس لرؤيتها للوجود والتاريخ.

فيكون ابن حنبل قد استكمل شروط النظام الذي يمثل المرجعية القيمية للجماعة بوصفها ما تعتبره ممثلا لفهمها للأصل القرآني باعتبارها ترجع كل أحكامها إلى ما تنسبه إلى المعبر عن الإرادة في مرجعيتها الأصلية أو القرآن لكأن القرآن هو الدستور والسنة هي القانون عامه وخاصه مطبقا في التاريخ.

والقول إن ابن حنبل استكمل شروط النظام الذي يمثل المرجعية يعني الإيذان بنهاية العصر الأول من الفقه وبداية عصر ثان. ولهذا العصر الأول خمس مراحل هي:

  1. مرحلة الفقه النبوي

  2. مرحلة الفقه الراشدين

  3. مرحلة فقه جيل التابعين الأول بعد الراشدين

  4. المرحلة الأولى من تكون المذاهب الفقيه

وهذه المرحلة الأولى من تكون المذاهب تتكون من محاولة أبي حنيفة ومالك ابن أنس. والأول يكاد يقتصر على القرآن والرأي. ويمكن القول إن الثاني صاغ بصورة شبه تامة مقومات أي فقه أو أي قانون حقيقي لا يكتفي بمرجعية الجماعة الأولى بل يعتمد على مقومات أي قانون وضعيا كان أو شرعيا.

وبهذا المعنى ففقه أبي حنيفة على منزلة الرجل ليس إلا بداية الإدراك بأن القانون أو الوازع الأجنبي بلغة ابن خلدون لم يعد معتمدا على الوازع الذاتي بعد نهاية عصر التابعين الأول وأن الحاجة إلى صوغ قواعد نظام فقهي يعتمد على المرجعية الأولى خاصة واجتهاد الرأي أي “ولا آلو”.

وهو ما يعني أن المصدر الثاني (الحديث) والثالث أي اخلاق التابعين وعاداتهم (المعروف والمنكر كما تعينا في عصر الرسول). وهذا ما أضافه مالك الذي يمكن القول إن مصادر الفقه كلها قد اجتمعت لديه ويمكن اعتباره بلغ تمام المصادر لو لم يكن علم الحديث منقوصا.

وبين أن علم الحديث لا يمكن أن يكتمل لأنه في الحقيقة الوجه الثاني من الرسالة المنزلة: فأصحه هو تعليمها النبوي وبقية درجات الصحة دالة على ما بقي منه في أذهان الأمة من آثاره المحددة للمعروف والمنكر كما عرف من تربية الجماعة وأخلاقها بوصفها الجيل الذي عاصر الرسول (الصحابة) والتابعين.

أو لأقل بصورة واضحة: أن الحديث ليس مجرد مدونة من الأقوال بل هو مجموعة الأحكام التي كان الصحابة والتابعون يعتمدونه من قواعد ومبادئ يربون بها أبناءهم وبناتهم ويعملون بها في حياتهم باعتباره فقه الرسول نفسه الذي نزل القرآن في التاريخ الفعلي محددا للمعروف والمنكر أي أخلاق الجماعة.

والوعي بهذا التعريف كان شبه تام في فقه مالك لكن الوعي لا يكون تاما ما لم يصبح موضوعه مطلوبا لذاته بصورتين: الأولى تأسيسه كعلم والثانية تنزيله في نظرية تامة للفقه. وهذا هو دور المرحلة الخامسة والأخيرة من عصر الفقه الأول وتتضمن المذهبين الثانيين: ابن حنبل والشافعي.

والوعي بهذا التعريف كان شبه تام في فقه مالك لكن الوعي لا يكون تاما ما لم يصبح موضوعه مطلوبا لذاته بصورتين: الأولى تأسيسه كعلم والثانية تنزيله في نظرية تامة للفقه. وهذا هو دور المرحلة الخامسة والأخيرة من عصر الفقه الأول وتتضمن المذهبين الثانيين: ابن حنبل والشافعي.

فابن حنبل جعل الحديث مطلوبا لذاته وركنا ركينا من الفقه والشافعي وجد كل المقومات جاهزة فكان دوره وضع النظرية أو التأصيل النظري الأول للفقه بكل مقوماته. ويمكن القول إن كل ما أتى بعده إلى أن صيغت نظرية المقاصد شروحا للرسالة وتجويدا للمقومات واساليب الفقه وليس تنظيرا يعتد به.

وغاية هذين الخطأين نظرية المقاصد رغم أن الكثير يعتبر ابن خلدون قائلا بها لأنه يبرز وجه شبه بين عمله وبينها ويفسر بها علل صعود الحضارات وسقوطها خاصة. لكن ذلك كما سنبين من جنس استعماله مصطلح أرسطو بدلالات لا علاقة لها بعلم أرسطو. إنه استعمال للغة عصره بدلالات جديدة.

ونهاية العصر الثاني من الفقه وأصوله كانت غاية نظرية المقاصد أي الشاطبي وبداية العصر الثالث هي نظرية ابن خلدون التي جمعت بين الوزعين اللذين يجمع بينهما الفقه ومقومه الأول الوزع الذاتي ومنه تستمد شرعيته ومقومه الثاني الوزع الأجنبي أو الأحكام السلطانية التي تمثل شوكته.

لذلك كان الفقه مشروطا برؤية للحكم والتربية تختلف تماما عما كان حاصلا في الجماعة منذ أن حصل قلب العلاقة بين هذين العاملين فأصبحت الشوكة مقدمة على الشرعية بداية من الفتنة الكبرى والحروب الأهلية التي تلتها فعطل الدستور وأصبحت الامة في حالة طوارئ منذئذ إلى الآن.

والفرق بين القانون والفقه هو عامل الوزع الذاتي الذي هو شرط مقوم في الثاني وغير مقوم في الأول. لذلك كان القانون يردع ويجازي سلبا فحسب وكان الفقه يردع ويجازي إيجابا بمعنى أن فيه بعد الحسنات وليس السيئات فحسب. وطبعا عدم فهم هذا الوجه جعل الجزاء الموجب أخرويا وليس دنيويا أيضا.

والغريب أن القانون بدأ يحقق الجزاء للحسنات في الدنيا بعنوان تشجيع المبادرات الخيرة التي يقوم بها المواطنون في الإنتاجين المادي (الاقتصاد) والرمزي (العلوم) المشروطين في تحقيق شروط العمران والاجتماع وعلة تأخير الفقه في هذا الوجه تأصيل الفقه حصر في شكلياته المنطقية.

وذلك ما فعل ابن خلدون: درس آيات الله في الآفاق والأنفس ليحدد علم العمران البشري والاجتماع الإنساني فيفهم شروط انتظامهما وضبطهما وبين أنها مطابقة لما حدد القرآن مبادئه التي تعود إلى المحكم فيه فتغني عن الخوض في المتشابه الذي هو دليل مرض القلوب وابتغاء الفتنة.

ما المراحل التي تحدد في العصر الثاني من الفقه وأصوله؟

خمس مراحل متعلقة بالعلوم الأدوات التي يحتاجها الأصولي ويمكن القول إن الإجماع حاصل على أن المرحلة الأولى استوفت البحث في الغايات. وهذه العلوم الأدوات هي:

  1. علم الحديث

  2. وعلم اللغة

  3. وعلم المنطق

  4. علم التفسير

  5. والغاية المقاصد.

وكل هذه المقومات حاضرة في كل المراحل لكن بروز دورها ليست متساوقا بل هو متوال في الزمان: فالحديث أولا واللغة ثانيا والمنطق ثالثا والتفسير رابعا وغاية المرحلة كانت صوغ الشاطبي لنظرية المقاصد نسقيا رغم أنها ظهرت مع بروز دور التبني الضمني لنظرية أرسطو (مع الجويني والغزالي).

ويمكن القول-وهذا من المفارقات-أن تبني نظرية أرسطو وأفلاطون في القانون-سابقة لأنها هي أساس الموقف الظاهري لابن حزم: فهو يرفض كل محاولات القياس على ظاهر النص القرآني وكل ما عدا المنصوص عنه ينتسب إلى تشريع يمكن اعتباره وضعيا لأنه لم يكن غافلا عن محدودية ظاهر النصوص في تنظيم الحياة.

فما يخرج عن ظاهر النصوص غير محدود في حين أن ما يشمله قليل جدا. فيكون التشريع لما لا تشمله النصوص مجال التشريع الوضعي بلغتنا الحديثة ولا يمكن قيسه على مجال التشريع المنزل وهو الوحيد الثابت والمقدس وغير القابل للقيس عليه إلا إذا توهم الفقيه ما نهت عنه آل عمران 7.

وهذا التنظيم الثاني للوزع الخارجي بالقانون ليس وضعيا بالمعنى الحديث أعني أنه ليس مشروطا بنفي التشريع المنزل بل هو مطلوبه وشرطه عدم القول بمقاصد الشريعة التي إن قلنا بها فينبغي القول بأنها من الغيب الذي لا يعمله إلا الله ككل التكاليف. فلسنا نعلم من قصد الله إلا أنه خلقنا لعبادته.

وعبادته -الجنس والإنس-هي حقيقتنا التي يرينها في الآفاق والأنفس: أي استعمارنا في الأرض امتحانا لأهلية الاستخلاف التي وضع شروطها في فطره لنا بأن جعلنا أحرارا مكلفين بتعمير الأرض بقيم محددة بوضوح في القرآن ومشروطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حدا لحقيقة الإنسان المؤمن.

أما حصر التأصيل في العلوم المساعدة التي تمكن من استخراج القوانين من النصوص فهي مهمة ثانوية وتقنية تتقدم بتقدم العلوم المساعدة ولا تعتبر من المقومات الجوهرية للفقه وتأصيله. وهذا هو جوهر الخلاف بين الشيخ البوطي رحمه الله وبيني. وهو كذلك علة رفضي لنظرية المقاصد.

العصر الثاني من الفقه وأصوله يتعلق بعلوم الآلة وليس بجوهر الفقه وتأصيله. فعلم الحديث وعلم اللغة وعلم المنطق وعلم التفسير ونظرية المقاصد كلها آلية وليست جوهرية للفقه وأصوله. ومعنى ذلك أن هذه الأعمال مهمة دون شك لكنها من شكليات الفقه وأصوله وليس من جوهره.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي