شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل التاسع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

في هذا الفصل التاسع أريد أن أبين أن القانون ليس شرعيا لأنه مستمد من المرجعية الدينية في الظاهر بل لأنه بحق منتسب إلى ما بمقتضاه تعتبره المرجعية الدينية شرعيا. والقرآن الكريم لا يمكن أن يعتبر الشرع شرعيا لمجرد كونه في الظاهر ذا مرجعية دينية استنادا إلى ما ضربه من أمثلة.

فالأمثلة التي يضربها القرآن شارعها هو قاضيها في “دولته” التي القيم عليها لا يأتيه الباطل لأنه يحدد دلالتها القرآنية انطلاقا من آيات الله التي يراها في الآفاق والأنفس. وهو ما يصدق على الرسول وعلى الراشدين. وحينها كانت المرجعية هي ما حدده الدستور قبل أن يعطل ويعوضه قانون الطوارئ.

ومعنى ذلك أن الدستور المحدد لدولة الرسول وعمل الراشدين بمقتضى ما تعلموه منه قد حدد مصادر التشريع ليس في تلك الأمثلة بل في النظام السياسي الذي وصفنا في الفصل السابق والذي يتبعه النظام القانوني المترتب عليه بين حدين الاستجابة للرب والانفاق من الرزق بنظام طبيعته جمهورية وأسلوبه شورى.

فالأمر أمر الجماعة المستجيبة لربها بشروط الاستثناء من الخسر كما حددتها سورة العصر لتحقيق دولة الأحرار روحيا (لا وساطة بين المؤمن وربه) وسياسيا (لا وصاية على أمة أفرادها أحرار). لكن الأمر صار بسبب تعطيل الدستور أمر من لم يعد مستجيبا للرب إلا في الظاهر والجماعة خاضعة لوساطة ووصاية.

وهذا ما أعنيه بحالة الطوارئ التي فقد فيها المسلم حريته الروحية وحريته السياسية وصار الفقه وتأصيله وكأنه فرض كفاية لكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليسا فرضي عين. وفرض العين في هذه الحالة هو واجب مضاعف هو اختيار المشرع ومراقبته لأن التشريع ليس مسألة علم بل مسألة إرادة.

ومفهوم الأمة لا تجمع على خطا يعني مفهوم المستجيبين للرب إرادتهم مشرعة في نظام يكون الامر فيه أمرهم (طبيعة النظام) وتكون إدارتهم له بالشورى التي تطبق الوعي بشروط الاستثناء من الخسر أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

وهو ما يعني أن البشرية خسرها في اتباع دين العجل الذهبي ذي الخوار: سلطان المال (مادة العجل ذهب) وسلطان الأيديولوجيا الدهرية (صوت العجل خوار). فالنظام الإسلامي الذي وصفت هو البديل الوحيد للنظام العلماني الموحد للإنسانية بدين العجل مقدما نفسه بديلا من توحيدها الإسلامي بالدين الخاتم.

وهو ما يعني أن المعركة الكونية الحالية ليست بنت الصدفة بل هي تحدث في مرحلة التاريخ الإنساني الذي يصبح فيه نظام الإنسانية السياسي والقانوني مخير بين العلمانية والإسلام بعد أن يتحرر مما آل إليه نظامه الروحي والسياسي إلى موقف باطني أو ظاهري لم يبق من الإسلام فيه إلا القشور.

ففي الحقيقة لا يوجد فرق كبير بين فقه داعش وفقه الانظمة الإسلامية سواء ادعت الحكم بالشرع أو بالوضع لأن النتائج واحدة ما دام ليس معبرا عن إرادة المؤمنين الأحرار روحيا وسياسيا بل هو إرادة دول خالية من الشرعية التي تجعل قضاءهم تأسيسا وحكما وتنفيذا ظالما بالجوهر وغير أمين لقيم الإسلام.

وهو ما يبين أن كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث من نفس الطبيعة: فلا فرق بين القانون الذي يدعونه شرعيا والقانون الذي يدعونه وضعيا ما دام كلاهما لا يعبر عن جماعة مؤلفة من أفراد أحرار روحيا وسياسيا حتى يكون وجودهم بمنزلة امتحان أهلية الإنسان للاستخلاف التي تتحدد الوزع الذاتي.

ولست غافلا عن الدور الذي أقع فيه: فكيف أجعل القانون يستمد شرعيته من ارادة المستجيبين لربهم وأنسب إليه وظيفة تربية الإنسان وحكمه حتى يصبح أهلا للاستخلاف خلال امتحان الاهلية؟ من أين لي بمن يكون مستجيبا للرب ليكون صاحب الامر الحر روحيا وسياسيا ليكون بالشورى مصدر التشريع والتنفيذ؟

كيف لإنسانية فسدت فيها معاني الإنسانية سواء حكمت بالعلمانية أو بالدين أن تحقق هذه الرؤية القرآنية للنظام القانوني التابع للنظام السياسي الذي أهل الإنسان للعلم به وللعمل على علم به فيكون صاحب الامر الذي يدرك ضرورة نظام قانوني الشورى سيقع في الخسر لخلوه من شروط الاستثناء منه؟

والجواب هو أن ذلك ممكن وإلا لما وضعه القرآن وقدم منه الرسول عينة حاول الراشدون محاكاتها بقدر الوسع فصارت الامة قابلة لأن تكون شاهدة على العالمين بشهادة الرسول عليها. وإذا فهمنا نظام سياسة الرسول وأسلوب حكمه أمكن لنا تحقيق هذه الثورة لاستئناف دورنا والخروج من حالة الطوارئ.

لذلك أؤمن بلا حد بأن القرآن مستقبل الإنسانية ونظامه السياسي والقانوني هو أساس شريعته وأن تأصيل الفقه في غايته نظرية المقاصد ليس نابعا مما وجهنا للبحث فيه عن حقيقته وأن الأمثلة الواردة لا يقاس عليها لأن شارعها ليس المكلَفين بل المكلِف فلا يقاس على عينيتها بعلم غير محيط.

والمعلوم أن عينيتها لا يحيط بها إلا علم محيط لكن خصائصها الكلية في متناول علم الإنسان النسبي. وهذه هي التي يمكن استخراجها من آيات الله في الآفاق والأنفس بما أمدنا الله به من قدرة الاستنباط في ضوء مقومات دولة الإسلام التي تخول للأمة التشريع والتنفيذ الشوريين في التربية والحكم.

فالعلم بقوانين الآفاق (الطبيعة رياضية القوانين) والعلم الأنفس (التاريخ سياسي القوانين) مع الحريتين الروحية والسياسية وبالدستور القرآني بحديه (الأصل الاستجابة للرب والغاية الإنفاق من الرزق) وطبيعة الأمر (أمر الأمة) وأسلوبه (الشورى) يكون تأصيل الفقه في إرادة أمة الاحرار بالمعنيين.

ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو تشريع الأحرار بمقتضى التكليف لاختبار الأهلية بالخلافة لا يتعلق بالأفعال كتال فحسب بل بها كمقدم كذلك وإلا فإن التكليف يصبح منقوصا لأن يقتصر على تطبيق لوازع أجنبي حتى لو كان نصا مقدسا ما لم يكن نابعا من الوازع الذاتي تشريعا وتنفيذا.

وبذلك يتبين أن الفقه وتأصيله قد مر بعصرين مضموني وآلي كلاهما خلط أصحابه بين دور المرجعية التي تشير إلى مجال البحث فيما يتأسس عليه التكليف في التعمير والاستخلاف ليس في المرجعية المشيرة بل المرجعية المشار إليها. القرآن حدد محل تجلي حقيقته: ليس نصه بل آيات الله في الآفاق والانفس.

تأصيل الفقه مثل أي علم لا يطلب من نص القرآن بل من آيات الله في الخلق والأمر آياته التي يرينها في الآفاق والأنفس أي في الطبيعة والتاريخ القائمين في الأعيان ليصبحا قائمين في الأذهان: لا يمكن تأسيس الفقه وتأصيله إلى في مجال عمله الذي هو أمر الجماعة. مرجعية الفقه هي نظام أمر الجماعة.

وقوانين الطبيعة الرياضية وقوانين التاريخ السياسية هي الآيات المتجلية في الآفاق والأنفس والعمل بها هو شرط سياسة أمر الإنسان من حيث كيانه الطبيعي ككائن حي والروحي ككائن حي مكلف وفي إطار النظام المحقق لغايتي التكليف (التعمير والخلافة) يكون الإنسان مكلفا بعمل تام تختبر فيه أهليته.

والعمل التام لا يمكن أن يكون مجرد تطبيق لتشريع وإلا لكان ما فيه من روحي حر ومسؤول مردودا لما فيه من طبيعي خاضع للضرورة. إبداع التشريع من التكليف الذي يتجاوز تطبيق تشريح خارجي وأجنبي. فالرسالة لم توجد المضمون كان معدوما بل ذكرت بما كتب منه في الفطرة مع شروط الاستثناء من الخسر.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي