شكوك على نظرية المقاصد، عقمها وخطرها – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شكوك على نظرية المقاصد

بدأت الفصل التاسع من الكلام على ” الدولة: مفهومها وبعداها البنيوي والتاريخي” ولم أتجاوز فيه التغريدة الثانية ووعدت بالعودة إليه. لكني مضطر لتأجيل ذلك حتى أذكر بموقفي من إشكالية “نظرية المقاصد” لأن رحلتي إلى المغرب كانت لتكريم أحد أكبر رجالاتها: الشيخ أحمد الريسوني حفظه الله.

لما كرمت بهذه الدعوة للمشاركة في التكريم عجبت شديد العجب.

صحيح أن الشيخ من أصدقائي الأعزاء، لكني أعلم أنه يعلم أني من معارضي هذه النظرية بشدة. فكيف دعيت لهذا التكريم؟: فهمت من الدعوة أنه ليس رمزا للعلم الديني فحسب في عصرنا بل أيضا للانفتاح الفكري الفريد.

فأن أدعى مع الكثير من الزملاء الكرام لتحية رجل جمع بين النظر في المقاصد والعمل بها مع العلم بموقفي منها اعتبره من علامات نضج البحث العلمي الذي يتعاون فيه الفكران الديني والفلسفي دون الحساسية التي كانت تعتبرهما عدوين ومتنافيين. لذلك أردت أن أحرر التكامل بين الموقفين من المقاصد.

لست بحاجة للتذكير بأن موقفي من المقاصد ليس جديدا فقد شرحته في الحوار الشيق الذي دار بين المرحوم الشيخ البوطي وبيني رغم ان عرضه فيه كان مجملا وليس مفصلا أو إن صح التعبير لم يعلل التعليل الوافي لأن القصد لم يكن التركيز عليه بل على شمول الأزمة لمجال اصول الفقه.

كان يكفيني حينها بيان “وفاة” أصول الفقه ما ظل مقصورا على إشكالية الصوغ الفني للأحكام وتوسيع مجال تطبيق النصوص المحدودة على النوازل غير المحدودة وخاصة بعد أن أصبح مجاله الأول خارجا عن سلطانه: فالدول الحديثة كلها بما فيها التي تبدو محافظة على الشريعة لا تعمل إلا بالقانون الوضعي.

ومعنى ذلك أن الفقه لم يبق له إلا دور إضفاء الشرعية البعدية والشكلية لأفعال الدولة التي تعمل حقيقة بالقانون الوضعي وليس بالفقه. وما لم نعترف بهذه الحقيقة فلا يمكن أن نستأنف تأصيل الفقه ووصل ما تعمل به الدول الحديثة بالمرجعية الإسلامية. وموقفي: حل المقاصد عقيم وخطير على الإسلام.

واكتفي بهذه الإشارة لأن الشيخ نفسه بدأ يشعر بأخطر استعمالاتها حتى وإن لم يحددها. ومن هذه الاستعمالات الخطيرة وتحديدها.

سأنطلق في هذه المحاولة التي اشعر بأنها ضرورية لاستكمال ما بدأته مع الشيخ البوطي رحمه الله. فما الذي ألجأ مؤصلي الفقه إلى نظرية المقاصد؟ ولم هي عقيم وخطيرة؟

فهذا العقم والخطر الذي توقعته من منطلق ما يترتب على علل لجوء الأصوليين إليها لا يتعين فعليا إلا عندما تصبح الحركات الإسلامية قائلة به ومستعملة إياه بعد وصولها إلى الحكم. وعندئذ يتبين الخطر الناتج عن الانتقال من علاج مسألة أصولية بالجوهر إلى مسألة سياسية بالجوهر.

فالمسألة الأصولية بينة للجميع ويمكن أن نحددها من جواب قاضي الرسول عن سؤاله:

  1. بم ستحكم؟ فبعد جوابه بالقرآن

  2. وإن لم تجد؟ وبعد جوابه: بسنة رسول الله

  3. وإن لم تجد؟ وبعد جوابه: اجتهد رأيي ولا آلو

باركه الرسول ولم يعترض ولم يضف شيئا.

إشكالية أصول الفقه تحددت في هذه الأسئلة وأجوبتها وخاصة في تأييد الرسول لقاضيه وعدم الاعتراض عليه. وفي الحقيقة فهذه الإشكالية هي عينها إشكالية القانون الوضعي حتى وإن كانت المرجعية مختلفة. لكنها واحدة من حيث الوظيفة القانونية. فكل قاض يحكم بالرأي دون مدونة نصوص ليس قاضيا بل دجال.

وكل قاض يقتصر قضاؤه على ما فيه نص قانونيا كان أو قضاء ممن تقدم عليه من كبار القضاة لا يستأهل اسم القاضي: فواجبه أن يبحث كما فعل قاضي الرسول في المرجعية الأصلية (وهنا القرآن) ثم في من قضى قبله (وهنا السنة) وإن لم يجد أن يجتهد رأيه على منوالهما.

وهذان الشرطان في وظيفة القضاء ينتجان عن العلاقة غير المتناظرة بين النصوص والنوازل التي يحتكم فيها للقضاء. وإذن فأصول الفقه يعالج هذه القضية المضاعفة. فسؤال كيف نقضي مشروط بـ:

  1. كيف نستعمل النصوص التشريعية في التطبيق.

  2. وكيف نجتهد في حالة غياب النصوص والسوابق القضائية.

لذلك كان إشكالية تأصيل الفقه مضاعفة:

  1. استعمال النصوص (عندنا القرآن) والسوابق القضائية (عندنا السنة خاصة).

  2. استعمال الاجتهاد.

والمشكل أن قاضي الرسول لم يحدد القصد بأجتهد رأيي ولا آلو. لم يتكلم على القياس ولا على الاستحسان ولا حتى على الاجماع رغم أنها جميعا مضمرة في “أجتهد رأيي”.

كيف هي مضمرة؟

هي مضمرة وإلا لما اختاره الرسول للقضاء. فلا بد أن الرسول قد اختاره لعلمه بأنه فضلا عن حيازة العلم الكافي للتسليم بجوابيه الأولين (أقضي بكلام الله وبسنة رسوله) حاصل على ما يؤهله لهذه الوظائف الثلاث المضمرة:

  1. القياس

  2. الاستحسان

  3. الاجماع بمعنى تمثيل رأي الجماعة.

رأي الجماعة هو ما تجمع عليه بأنه المعروف والمنكر ومن ثم فهي مصدر تشريع بهذا المعنى: ومعنى ذلك أن قاضي الرسول كان داريا بما تجمع عليه الجماعة من معروف ومنكر وهو حينها ما كان يسمى “ما تجمع عليه صحابة رسول الله” أو كل من ربي على سنته من الأمة الناشئة.

فإذا اعتبرنا هذه العناصر وجدنا مراحل تكوينية الفقه وتأصيله:

  1. منطلق أبي حنيفة (وفيها العلاقة مباشرة بين المرجعية القرآنية واجتهاد الرأي)

  2. منطلق مالك بن انس (إضافة المرجعية الثانية)

  3. منطلق احمد بن حنبل (اكتمال المرجعية الثانية)

  4. منطلق الشافعي (تأسيس علم الأصول).

فتكون المراحل:

  1. أبو حنيفة: قرآن + رأي (دور الحديث قليل) والمضمر هو أخلاق الجماعة (المعروف والمنكر) والعلم بالمرجعية وصفات الحَكم الأمين والعادل). وذلك هو جواب قاضي الرسول. وما يبدو غيابا للحديث هو في الحقيقة حضور حي في أخلاق الجماعة متعينة الأحداث.

  2. والمرحلة الثانية: مالك بن أنس: قرآن + مزيد من الحديث + حضور صريح وليس مضمرا لأخلاق الجماعة أو لإجماعها باعتبارها هي بدورها مصدر تشريع. وهو كذلك جواب قاضي الرسول. ومع ذلك بقيت مدونة النصوص قليلة وهو ما سيلجئ الفقهاء إلى الشرط الموضوعي للقضاء الأمين والعادل أي مدونة النصوص.

  3. وتلك هي المرحلة الثالثة: احمد بن حنبل: كل ما تقدم مع التركيز على أهمية الحديث أي المدونة النصية التي تحد من الحكم بمجرد الرأي وتعيدنا إلى الحكم بالمرجعية وبأفضل الأحكام القضائية السابقة لأنها منسوبة إلى الرسول نفسه بوصفه قاضيا اساسا. (اقتصر على القضاء ولا أنشعل الآن بالإفتاء)

والجمع يعمل الفرق بين القضاء والافتاء: فالقضاء يقضي بين نزاع بين شخصين فأكثر. والافتاء يقضي في نزاع ضمير حول فعل إما فردي أو جماعي ويكون التردد فيه متعلقا بوصف الفعل وتكييفه شرعيا). وذلك هو جوهر الفرق بين الفقه والقانون الوضعي. فالقانون الوضعي ليس له هذه الوظيفة الثانية.

وحاصل القول إن المرحلة الرابعة-الشافعي-هي التي حاولت أن تستخرج من هذه التجارب الثلاث فلسفة الشريعة أو أصول الشريعة في كتاب الرسالة وعليها بني مذهبه وجمعه بين منجزات المراحل الثلاث السابقة مع إضافة ما خلت منه. فالنظرية الجامعة جعلت صاحب “اجتهد رأيي ولا آلو” يألو بشروط الاجتهاد.

لكن الغاية (التأسيس النظري لأصول الفقه في الرسالة) التي انتهت إليها هذه المراحل الثلاث (أبو حنيفة ومالك واحمد) تفترض مرحلتين متقدمتين عليها:

  1. الرسول وينطلق من القرآن

  2. الخلفاء الراشدون ينطلقون من القرآن ومنه وسطيا بينهم وبين القرآن وكأنهم في وضعية قاضي النبي كقضاة (الفارق مثلا)

وهنا تتعقد القضية: فالقرآن يجمع بين المرجعية التشريعية المرجعية القضائية. والسنة كذلك. والخلفاء الراشدون ليس لهم وظيفة تشريعية بل يقتصرون على بعدي الوظيفة القضائية: القضاء والافتاء وفي مجالين أكبر (الوصل بين العقيدة والشريعة) وأصغر (الوصل بين الشريعة والنوازل العقدية والشرعية).

والوصلان هما موضوع الفقه الاكبر بمعنى الوصل بين العقيدة والشريعة والوصل بين الشريعة والنوازل المتعلقة بالوصل الاول أي ما يناظر مدى مطابقة القانون لأساسه الدستوري (في القرآن والسنة) ولكن ليس بالمعنى القانوني فحسب بل بالمعنى العقدي كذلك. ولا علاقة للفقه الأكبر بعلم الكلام.

وكون القرآن والسنة جامعا كل منهما بين التشريعين الأكبر والأصغر يجعل حضورهما المرجعي للقانون عسير التحديد بمجرد المقارنة مع القانون الوضعي: إلا إذا وضعنا بديلا من التشريع الإلهي والنبوي التشريع الطبيعي والتاريخي أو ما ينسب إلى طبيعة الإنسان وإلى تاريخه السياسي.

وذلك ممكن شكلا إذا أردنا أن نفهم وحدة البينة بصرف النظر عن العناصر التي تتعين فيها البنية: فالقرآن تشريع قانوني دستوري وتشريع قانوني عادي. وكل مفت أو قاض وإن لم يكن واعيا بذلك يعمل بمقتضاه تماما كما يعمل أي قاض في القانون الوضعي بالقانون الدستوري والقانون العادي.

فبوسع أي قاض بالقانون الوضعي أن يرفض تطبيق قانون عادي إذا تبين له أنه معارض أو مناف لأحد مبادئ القانون الدستوري في دستور البلد الذي هو مطالب بتطبيق قوانينه في نوازل أهله فيكون القاضي دائما بالقوة جامعا بين القضاءين العادي والدستوري على الأقل في شكل الاعتراض على القانون العادي.

أعلم أن ذلك نادر الحصول وأن ذلك من مهام القضاء الدستوري. لكن القضاء الدستوري لا يتحرك إلا بطلب من سلطة إما قاعدية أو فوقية. والقاعدية عندنا هي الحسبة. والفوقية عندنا هي الفقهاء والقضاة منهم على وجه الخصوص فتشغيل القضاء الدستوري مصدره أخلاق الجماعة وحماتها: الجماعة والعلماء.

لكن الفقه الأكبر خرج من انشغال أصول الفقه بوصفه أحد عناصر موضوعه المباشر ولم يبق له دور إلا بهذا المعنى المضمر. والعلة بينة: التشريع منسوب إلى الله أو إلى النبي ولا يمكن الكلام على تناقض بينه وبين القرآن لأنه منه. والخلافات تتعلق بتأويل المصدرين وبالنقلة من “لا آلو” إلى “آلو”.

علينا إذن أن ندرس هذه النقلة من “أجتهد رأيي ولا آلو” إلى “أجتهد رأيي وآلو” أو من الاجتهاد النابع من أخلاق الجماعة وفكرها المطابقين لمعاييرها دون انفصام بين النظر والعمل (بفضل التربية النبوية) قبل التنظير إلى التنظير الأصولي الذي ساوق الانفصام بينهما وباتت المعايير موضوع خلاف.

وحتى نفهم القصد: فهذا الفصام حصل كذلك في اللغة. فالذي يتعلم لغته القومية مستغن عن النحو لكن البلوغ إلى الاتقان فيها يقتضي العودة على مهارته اللسانية ليعلم قوانينها فيصبح مقوما للسانه بعلمه. والدافع الثاني في الفقه هو التباعد بين الممارسة والمعايير القانونية والخلقية.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي