شروط القيام الحر أو أهلية الانسان معمرا ومستخلفا في الأرض – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شروط القيام الحر أو أهلية الانسان معمرا ومستخلفا في الأرض

الفصل الثالث هو قلب المحاولة. بدأنا بمقومات الفرد في الفصل الاول ثم شرحنا دلالة الانطلاق من القدرة في الفصل الثاني. والآن سنحاول بيان علة عموم ظاهرة الوجهين في شرطي القدرة المادية أي الإرادة والعلم وفي شرطي القدرة الروحية أي الوجود والحياة. والإشكالية هي: تلازم القدرتين فيهما. بعبارة أوضح فالإرادة الغالب عليها وجهها المادي لكنها لا تقوم من دون الرؤية الوجودية وذلك هو وجهها الروحي والعلم يغلب عليه وجهه المادي بمعنى علم السيطرة على الطبيعة بتوسط علم قوانينها لكن ذلك ممتنع من دون اعتبارها عملا فنيا حيا متعض السلطان عليه بقوانينه قدرة وقوة مادية. فتكون الإرادة والرؤية الوجودية هما وجها القدرة في فعل الإرادة أي وجهها المادي ووجهها الروحي ويكون العلم وفن الحياة هما وجها القدرة في فعل العلم أي وجهه المادي ووجه الروحي. ومن ثم فالتلازم بين الوجهين يوجد في كل وجه وما يلتفت إليه بوصفه شرطا وثمرة. وهذا من اسرار الوجود الإنساني. فلا يمكن تصور العلم ممكنا من دون تقدم الوجه المادي منه بوصفه علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الافقية بين الإنسان والتاريخ علاجا يهدف إلى معرفة القوانين والسنن للطفو فوق فوضاهما والسيطرة على مجراهما شرطا في تحرر إرادته وتحقق قدرته. وهذا ممتنع الوقوع من دون دورين للرؤية الفنية للعلم ولموضوعه. فإذا لم يكن العامل مبدعا للنظام الرمزي المعبر عن البنى العميقة المتخيلة للموضع (مقدرات ابن تيمية الذهنية) يستحيل عليه مهما جرب مجرياتها أن يكتشف قوانينها التي هي تصور الموضوع هو نفسه عملا فنيا حتى عند من ينكر العقل المدبر. ولهذه العلة كانت كل علوم الملة الخمسة كما سبق أن بينت ليست علوما لأنها خالية من معنى الإبداعين وقصاراها أنها مجرد وصف للبنى السطحية للطبيعة والتاريخ ولا دراية لها لا بقوانين الطبيعة ولا بسنن التاريخ وبهذا المعنى تكلمت على المدرسة النقدية التي حاولت التحرر من القول بنظرية المطابقة. فمن يتوهم أن الصورة التي يستمدها من مداركه الحسية علما حتى لو دبجها بما يسميه “عقلا” وفهما لـ”الواقع” لا يمكن أن يصل إلى علم شيء من الوجود عدى سطحه لأنه لم يبدع فنيا “أسطورة” ذهنية عما يتصوره بنية عميقة هي بدورها “اسطورة” وراء هذا الشلال من المعطيات الحسية. وما قلناه عن علاقة العلم بالإبداع الفني (حياة) من حيث هما وجها المعرفة بقوانين الطبيعة وسنن التاريخ يقال مثله عن علاقة الإرادة بالإبداع الرؤيوي(وجود)من حيث هما وجها الفعل الإنساني المشروط في المنجزات الفعلية التي تطلبها الإرادة شروطا لتحولها إلى قدرة: من دونها هي أماني غير مؤثرة. والآن فلنعكس: هل يمكن تصور الوجه الثاني من القدرة أو القدرة الروحية الناتج عن الالتفات إلى المقومين الواردين بعد مقوم القدرة من دون العلاقة المقابلة؟ هل توجد رؤية وجودية (قدرة روحية) من دون أن تكون إنجازا لوجود الإرادة التي تسعى لأن تكون فعلا يسبق في مستوى التصورات الرمزية؟ فالرؤية الوجودية هي مشروع الإرادة الفعلية. ولآخذ مثال نشأة الحضارة الإسلامية: هل يمكن لأحد ذي ذرة من عقل أن يتصور العرب في جاهليتهم كان يمكن أن يكون لهم إرادة لتحقيق دولة عالمية يسهمون بها في إبداع حضارة كونية لو لم يتحقق قبل ذلك رمزيا مشروع كوني اسمه الإسلام كرؤية وجودية؟ الإرادة الفعلية شرطها الرؤية الوجودية لكن الرؤية الوجودية كان يمكن أن تكون أضغاث أحلام لو تصبح إرادة فعلية. فالإسلام لم يكن في نشأته الدعوة الوحيدة بل إن مسيلمة الكذاب كاد يقضي على دولته لو لم يبادر الصديق بحرب الردة التي هي في الحقيقة حرب تحقيق المشروع بالوجه المادي من القدرة. إن من يسمي مبادرة الصديق حرب ردة يقلل من أهمية الحدث لأنه ينكر أنها كانت شبه اختيار قامت به إرادة أمة بين مشروعين كانا معروضين عليها في نشأتها الأولى مشروع الإسلام الذي هو دين كوني ومشروع مسيلمة الكذاب الذي هو دين قبيلة خاص بالعرب من جنس اليهودية التي هي دين قبيلة إلى اليوم. وهذا المشروع هو نفسه يعتبر القدرة ذات وجهين أحدهما مادي ويمثل القوة الجهادية المادية أحد شرطي تحقيق الإرادة والثاني روحي ويمثل القوة الجهادية الروحية الشرط الأول لثبات الإرادة على مشروعها الذي يصبح عين وجودها وليس مجرد رؤية للوجود. من لم يفهم مبادرة الصديق هذا الفهم يغمطه حقه. ولذلك وعذرا على ما سأقول فإني اعتبر كل من ينكص عن مشروع الامة إلى القومية أو الطائفية أو المناطقية تابع لمسيلمة لمشروع مسيلمة الكذاب ومتنكر لمشروع النبي الصادق وعلاجه لا يكون إلا بالجهادين الروحي وإن لزم الامر المادي. وفي ذلك كان تولية أبو بكر عين الحكمة لأن الفاروق نفسه تردد. ولأمر الآن إلى أخطر ظاهرة تعاني منها الأمة حاليا: تصور الفن فيض خاطر. وكما أنه يستحيل إبداع علوم الطبيعة وعلوم الإنسان اللذين شرط كل سلطان للإنسان عليهما العلم بقوانين الأولى وسنن الثاني فكذلك يوجد إبداع فني من دون الإبداع العلمي وخاصة شرطهما معها أي الرياضيات والوسميات. فإذا كان أسمى الفنون التي مادتها الصوتيات والزمان هي الموسيقى وهي من أهم التطبيقات الرياضية وأسمى الفنون التي مادتها المرئيات والمكان هي الرسم والنحت وهي من أهم التطبيقات الرياضية فكيف للأميين في الرياضيات أن يسموا موسيقيين أو رسامين وخاصة مبدعين فيهما؟ وإذا انتقلنا إلى ما هو أكثر تعقيدا لأنه مؤلف منهما أعني فنون العزف على أوتار الوجدان أو الرواية والرسم على أجنحة الخيال أو اليتوبيا وهما بعدا كل أدب رفيع أن يوجدا إذا لم يكن الإنسان قد تمكن مما هو اساس الرياضيات نفسها اعين الوسميات (سيميوتيكس) بمعنى الترجمة الرمزية لنبض الحياة. ومثلما أن الإبداع الرياضي هو القدرة المادية الفعلية للسلطان على المكان والزمان وما يجري في الاول (الشكل) وفي الثاني (النغم) فإن الإبداع الوسمي هو القدرة المادية الفعلية للسلطان على اوتار الوجدان ومقوليته وأجنحة الخيال وإمكانه وما يجري فيهما من وجهي نبض الحياة الإنسانية. وهذا النبض الذي تترجمه الفنون التشكيلية للمكان (الرسم) والزمان (الموسيقى) وتترجمه الفنون الاستنطاقية للوجدان والاستيلادية للمخيال هي أنواع تجلي الروحي من الإنسان في تعبيراته الجمالية الواصلة بينه وبين مقومي العالم المادي (المكان والزمان) ومقومي العالم الروحي (الوجدان والمخيال). وهذه هي القدرة الروحية التي من دونها تفقد القدرة المادية غايتها ومعناها. فلولا نوعي الفنون التشكيلية ونوعي الفنون الترجمانية لكان الإنسان مجرد قوة فيزيائية أو بالأقصى عضوية لا تتميز بشيء عن غيره من الحيوان يأكل كما تأكل الأنعام ويخلد إلى الأرض كالكلاب اللاهثة. وتلك هي دلالة حياة من يصفهم ابن خلدون بالعالة بسبب فساد معاني الإنسانية فيهم. وحينها تنقلب كل القيم فلا يبقى الإنسان حر الإرادة وصادق العلم وخير القدرة ولا جميل الحياة ولا جليل الوجود بل هو يرد أسفل سافلين فيكون عبد الإرادة باطل العلم شرير القدرة قبيح الحياة وذليل الوجود. ولا شيء يؤملني في هذا الوجود الفاني إلا ما أراه من حال الأمة: فهي فاقدة لكل ما وصفت بما فسدت فيها معاني الإنسانية بسبب الوساطة في التربية والوصاية في الحكم وما أديا إليه من انعدام القدرة لدى الفرد والجماعة بمعنى بعدي وجهها المادي وبعدي وجهها الروحي فصارت عالة على غيرها. ورغم أني ما يئست قط من الاستئناف فإن العمر الذي وصلت إليه ولم يحصل من شروط شيء جعلني أخاف أن ألقى ربي قبل أن أشعر بأن إيماني بذلك لم يكن وهما. ولله الحمد فقد كانت ثورة الشباب بجنسية بارقة أمل جعلتني أزداد يقينا بأن الاستئناف آت لا ريب فيه. وما تفرغت للكتابة في هذه الموضوعات إلا لأني اعتبر ذلك من واجبي للمشاركة في الاستئناف بما مكنني الله منه من قدرة على تحليل آليات الفاعلية الإنسانية والتفكير الاستراتيجي الذي يعمل على جبهتين: تحليل الموجود ووصله بأبعاد الزمان الخمسة لربطه بالمنشود. فكان مسعاي أو على الأقل ما أقصده في عملي هو: تحليل أحداث ماضينا من تحريفات حديثه بتأويل يجعل الإبداع يستأنف. وتأويل حديث مستقبلنا لتحريره من الانهزامية يجعل أحداثه تكون بمستوى طموح ماضينا. ذلك أن حاضرنا اليوم انهزامي بحسب هذين الحديثين اللذين يفرضهما العدو وعملاؤه. ولا بد هنا من العودة إلى مسألة مراحل النصر للغالب ومراحل الهزيمة للمغلوب كما وصفهما كلاوسفيتز بعد تعديل وصفه ليطابق الحرب الحديثة وليطابق نظرية الحرب الخلدونية: فالحرب تبدأ وتنتهي بالحرب على ما اعتبره كلاوسفيتز غايتها أي المرجعية الروحية وهي في الحقيقة في آن غايتها وبدايتها. ولأنها بدايتها كحرب لطيفة وغايتها كحرب عنيفة فهي بداية وغاية بل ووصل بين البداية والغاية لأنها مواكبة لكل مراحل الحرب ولكن في الاتجاه المقابل لنظرية كلاوسفيتز: حرب لطيفة على المرجعية فاحتلال للأرض فكسر للمقاومة فحرب عنيفة على المرجعية. وهذا هو عين تاريخ استعمار دار الإسلام. والحرب العنيفة على المرجعية لها شكلان: 1. منع حواملها خلال الاستعمار المباشر (مثل منع تدريس اللغة العربية والقرآن والتاريخ الإسلامي) 2. وبتكليف العملاء الذين يختارهم الاستعمار غير المباشر لنيابته في حكم الأرض التي هي محميات وليست دول (الاستبداد والفساد ومنع حتى الرموز العامة) ومما يبتهج له القلب أمران بالإضافة إلى ثورة الشباب بجنسيه: 1. فشل كل محاولات علمنة المسلمين والعلامة القاطعة تونس وتركيا اللتين بدأتا تستردان ذاتهما بصورة ملحوظة. 2. عدم فشو ظاهرة الحرب على الإسلام التي يقوم بها العملاء من حكام العرب ونخبهم في بقية دار الإسلام.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي