شروط القيام الحر أو أهلية الانسان معمرا ومستخلفا في الأرض – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شروط القيام الحر أو أهلية الانسان معمرا ومستخلفا في الأرض

قد تكون المراوحة بين الانشغال بالأحداث والانشغال بما ورائها مشوشا على الأذهان. لكن للحياة شروطها التي لا نستطيع لها دفعا. وقدر المستطاع ستكون هذه المحالة سعيا لاكتشاف ما بينهما من سنن تكاد تكون قوانين قارة هي السر في حياة الفرد الحر والجماعة الحرة التي لها دولة تمثلها بحق. ولما كنا أثبتنا أن حالنا لا يفيد أن الافراد أحرار ولا أن الدول العربية دول بل هي محميات لغيات الشروط الضرورية والكافية للسيادة فيها جميعا فإن المحاولة ستكون عملا فلسفيا محدد السياق لاندراجه في ما عليه حال الامة الإسلامية وحال أفرادها الذين “فسدت فيهم معاني الإنسانية”(ابن خلدون). والغاية من المحاولة هي حينئذ البحث عن طرق الإصلاح والاستراتيجية التي توصل الامة إلى الاستئناف والافراد إلى استعادة الحريتين اللتين تمثلان مضمون الرسالة الاسلامية كما حددها القرآن عندما بين نوعي العلل التي تؤول بالأمم إلى الانحطاط: فساد التربية بالوساطة وفساد الحكم بالوصاية. فالتربية بالوساطة تلغي الحرية الروحية فتفسد معاني الإنسانية في الافراد والكم بالوصاية يلغي الحرية السياسية فيفسد معان الإنسانية في الجماعة. وهما مرضان يركز القرآن على تحليلهما في بعده النقدي المتعلق بعلل فشل الرسالات السابقة الناتج عن تحريف الوسطاء لمضمونها والأوصياء لتطبيقها. وإذا كانت علة فساد معاني الإنسانية في الفرد هي الوساطة في التربية وكانت على فساد معاني الإنسانية في الجماعة هي الوصاية في الحكم كان ذلك دليلا على أن المفعول واحدا: القضاء على الحرية الروحية في الأفراد لتيسير السيطرة على الجماعة سياسيا أو العكس والوسيط والوصي متحالفان في هذا الداء. إلى حد الآن يبدو الكلام وكأنه عرض لما ورد في القرآن بوصفه رسالة خاتمة تخاطب الإنسانية كلها خطاب تذكير بالكلي في كيان الإنسان بمقتضى تجهيزه ليؤدي وظيفتين هما تعمير الأرض وتحقيق قيم الاستخلاف منزلة وجودية كونية للإنسان من حيث هو إنسان. فما هو الفلسفي إذن في مثل هذا الكلام؟ والجواب مضاعف: 1. في ما هو كوني من رؤية الوجود وفي ما جهز به الإنسان ليحقق شروط قيامه لا أرى فرقا بين الديني والفلسفي عندما نخلصهما من الوساطة والوصاية فنتعامل مع هذين الأمرين من منطلق حريتنا الروحية والسياسية. 2. لكني مع ذلك سامر للعلاج الفلسفي الخالص دون إحالة على القرآن. ولأبدأ بالفرد الذي يعتبر سويا بمعنى أنه حاصل على ما يجعله قائما بذاته رغم أن لقيامه شروطا كلها ترد إلى كونه منتسبا إلى الجماعة في علاقتيها بالطبيعة والتاريخ. لكنه في هذا الانتساب لا يفقد مقوماته الذاتية التي تجعله قائما بذاته وذا علاقات تفاعلية مع غيره من الافراط في إطار الجماعة. فما هي هذه المقومات التي بفضلها يكون الفرد ذا قيام ذاتي؟ سبق أن تكلمت عليها كثيرا إنها: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. فكيف تعمل هذه المقومات حتى تكون بحق مقومة؟ هل للإرادة معنى دون حرية؟ هل للمعرفة فائدة دون دراية بقوانين موضوعه؟ وهل توجد قدرة إذا عجزت دون غايتها؟ وهل للحياة معنى دون ذوق؟ وهل للوجود أفق دون رؤية؟ قوام الفرد هو إذن حرية الإرادة وفاعلية العلم وثمرة القدرة وذوق الحياة والرؤية الوجودية. ولا علاقة للفرد بذاته وبغيره سواء في جماعته او في غيرها ولا بالعالم الطبيعي والتاريخي من دون هذه المقومات بهذه الشروط: جوهر الفردية لكن هذه المقومات بهذه الشروط لا تعمل فرادى لأن الفرد ليس إرادة بمعزل عن البقية ولا علم بمعزل عن البقية ولا قدرة بمعزل ولا حياة بمعزل عن البقية ولا أخيرا وجود بمعزل عن البقية. وإذن فلابد من اكتشاف طبيعة عملها المشترك أو تكاملها في تحقيق شروط القيام الفردي ذي العلاقات التي وصفنا. وهنا يكمن الإشكال: هي خمسة مقومات وقد نتحير في اكتشاف طبيعة دورها في تحصيل وحدة الكيان الفردي الذي تكون مقوماته هذه وكأنها أعضاء في وحدة شخصيته التي بها يتفرد فيكون هو من هو وغير كل من عداه. وفرضيتي للحل هي اعتبار واحدا منها أصل الوحدة والبقية فروعا هي في آن شروط الاصل وغاياته. وقد رأيت كفرضية عمل أن اعتبر القدرة هي الأصل الذي له وجهان أحدهما يلتفت إلى ما قبله في القائمة المقدمة أي إلى العلم والإرادة والثاني يلتفت إلى ما بعده في القائمة المقدمة أي إلى الحياة والوجود. وسأسمي الالتفات الاول مقوم القدرة المادية والالتفات الثاني مقوم القدرة الروحية. فيكون وجها القدرة المادي والروحي هما جوهر قيام الإنسان وشروطه وثمراته في آن ومناط علاقاته بذاته وبغيره في جماعته وفي غيرها ومع العالم الطبيعي والتاريخي: فلا يكون الإنسان ذا قدرة مادية (اقتصادية خاصة) من دون إرادة وعلم ولا يكون ذا قدرة روحية (ثقافية خاصة) من دون رؤية وجود وذوق حياة. وبهذا المعنى فقيام الإنسان من حيث هو واحد هو قدرته المادية والروحية. وقدرته المادية إرادة وعلم وقدرته الروحية رؤية وجود وذوق حياة. وإذن فما أن يفقد الفرد عنصرا من هذه العناصر حتى تفقد فرديته شيئا من قدرتها ومن ثم شيئا من وحدتها التي تجعلها سوية في علاقتها بذاتها وبغيرها. ورغم القول بأن الفرد قائم بذاته منفصل عن غيره من حيث قيامه كفرد فإن هذه المقومات التي تتألف منها القدرة بوجهيها تجعله وكأنه حصيلة هذه المقومات من حيث هي مضمون العلاقات مع الذات ومع الغير. فالإرادة والعلم والحياة والوجود تتحدد بما بين الذوات من توازنات لكأن الفرد يصبح نقطة لقاء فهو نقطة لقاء أصحاب الإرادات في الجماعة وهي علاقة بالذات وبالغير ونقطة لقاء بين اصحاب العلم فيها ونقطة لقاء بين أصحاب الذوق فيها ونقطة لقاء بين اصحاب الرؤى فيها. وتكون نقاط اللقاء هذه محددة لمنزلة الفرد في عين ذاته وفي أعين اصحابها الذين هم بدورهم نقاط لقاء بنفس هذه المعاني. والحصيلة -بالمعنى الفيزيائي للكلمة Résultante تشبه حصلة القوى في الجماعة وهي حصيلة القدرات في الجماعة وبها تتحدد منزلة أي فرد فيها خارجيا في أعين الافراد الأخرين وداخليا في عين الفرد نفسه. فيكون كل فرد وكأنه سمكة في بحر مضطرب لأن هذه العلاقات حصيلتها شبه مجال مغناطيسي للقدرات. ولست أدري لماذا كلما عالجت مسألة وجدت أبن خلدون قد سبقني إليها وإن بصورة أجمالية وعلي أن اعترف له بالجميل: فهو في سيرته الذاتية (الرحلة) قدم نموذجا فيزياء لعمل العصبيات. فقاسه على ما ينتج عن رمي حصوات في بركة ماء. فهي تحدث أمواج دائرية تتقاطع فيتكون شبه مجال مغناطيسي لتقاطعاتها. واعتقد أن مثاله بليغ جدا لأن دينامية الماء Dynamique hydrolique تجمع بين معنيين لابد من التعبير عنهما في الظاهرة التي أريد التعبير عنها: ففيها الحركية والسيلان في آن. كيان الفرد متحرك وسائل وكل من يدعي أن له شخصية ثابتة لا تتغيرولا تسيل فهو أكبر كذاب: في كل آن الفرد في شان. فإذا سكن الفرد وفقد السيلان لم يكن ذلك دليل على سلطان على الذات بل هو دليل على موتها وهو ما يعنيه ابن خلدون بأن فساد معاني الإنسانية يؤدي إلى أن الفرد يصبح عالة أي إما يبقى منه هو كيانه الآلي الذي يتحرق بما يتلقاه من أوامر خارجية لأنه أصبح مطلق العبودية لمن يعيله ويحميه. والأدهى هو الخطأ في فهم ظاهرة العالة أو الاستسلام لما يأتي من خارج الذات وهو نظير الخطل بين الفقر المادي والفقر الوجودي. وذلك هو فساد معاني الإنسانية التي تجعل العبودية إيمانا بالقضاء والفقر المادي إيمانا بالفقر الوجودي. وهما في الحقيقة كفر بهما وخلط يؤسس سلطة الوسطاء والاوصياء. ذلك أن القضاء والقدر يتعلق بما هو فوق قدرة الإنسان وليس بما هو من مجال قدرته وإلا لما كان للتكليف وللحرية والمسؤولية معنى. فما فوق طاقة الإنسان مما يحصل في الوجود عامة وفي وجوده خاصة يمكن نسبته إلى القضاء والقدر أما ما دون ذلك فلا ينسب إلى قدرة الإنسان كما شرحناها. ولهذا اعتبرت شعار شباب الثورة بجنسيه المأخود من الشابي أكبر دليل على أن الثورة كانت بالأساس ثورة روحية تفيد أن الشباب تخلص نهائيا من الفهم العقيم الذي فرضه الوسطاء بالتواطؤ مع الأوصياء لجعل تحكمهم وسلطانهم وجرائمهم من القضاء والقدر حتى تستسلم الشعوب لاستبدادهم وفسادهم. ونفس العلاقة بين الفقر المادي والفقر الوجودي. فأولا لا يمكن للإنسان أن يصل وعيه للثاني إذا بقي سجين الاول. فمن يغرق في الفقر المادي أي من يفقد شروط سد الحاجات الدنيا لا يمكنه أن يفكر في القيم الروحية فيدرك أنه ينبغي أن يكون رب المال لا مربوبه فضلا عن أن يخضع لأربابه.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي