سألنا أستاذنا :
ما منطق الاستراتيجية الأمريكية والغربية في المنطقة العربية وما علاقة ذلك بمحيطها الإسلامي وبقاعدة أمريكا الإسرائلية بعد حرب 2003؟
أجاب:
الأفضل أن نبدأ بتحديد علاقة هذه الاستراتيجية بحرب 2003 بداية لها في سياسة الفوضى الخلاقة لإعادة خارطة ما أطلقوا عليه اسم الشرق الأوسط الكبير بصورة تمكن من تفرغ أمريكا خاصة والغرب عامة لمقتضيات النظام العالمي الجديد الذي باتت فيه امتيازاته مهددة من قبل من ليسوا منتسبين إلى حضارته (عمالقة العالم الجدد).
فإعادة تشكيل جغرافية المنطقة التي تحتوي على شروط بقاء الغرب سيدا للعالم تتطلب تهديم الموجود لتحقيق ما يشبه ما تحقق بعد الحرب العالمية الأولى في المنطقة العربية ولكن بعكسه تماما: أي إيجاد إمبراطورية من المنطقة تكون موالية (التي أعلنت عنها إيران مؤخرا) بدل محو إمبراطورية لم تكن موالية (الامبراطورية العثمانية).
فأمريكا تعلم أن إعادة البناء تقتضي هذا التفتيت. لا بد من تفتيت دول وطنية لم تحصل بعد على شرعية تاريخية فضلا عن الشرعية الناتجة عن قيام الدول بوظائفها. وتفتيتها سهل. لكنه قد يؤدي إلى عكس المطلوب فتتحقق وحدة عربية ذات مرجعية إسلامية. فما البديل؟ وهذا هو ما يظن الإيرانيون أنفسهم صانعيه وهم فيه مجرد أداة كما كانوا دائما في تاريخ الإسلام بخلاف الأتراك الذين أدوا دورا في حماية بيضته إلى بدايات الاستعمار.
وإذن فلا بد للغرب من بديل من المنطقة يحول يحول دون استئناف قلب الإسلام وجوهر قوته دوره. فأي وحدة عربية بمرجعية إسلامية يمكن أن تستأنف ما للغرب معه تجربة مؤلمة لا بد من منعها بكل الوسائل. وهذا البديل هو ما صرحت به إيران أخيرا مباهية ظنا أنها صانعته وهي كما أسلفنا مجرد أداة فيه كما كانت منذ نشأة الدولة الصفوية.
وهكذا فكما ترون جواب سؤالكم لا يحتاج إلى جهد: فأصحابه لم يخفوه. أما الخفي أو المعدوم فهو جواب سؤال آخر أعمق: ما استراتيجية العرب في مثل هذه الوضعية وهل هم واعون برهاناتها ؟ ليس للعرب استراتيجية أو بصورة أدق ليس للأنظمة العربية استرايتيجية لأنها في واد والشعوب في واد.
فالأنظمة لم ترتب المخاطر وتكتفي برد الفعل بترتيب معكوس: إنها تهمل الامبراطورية الإيرانية الإسرائلية أداة سلطان أمريكا والغرب على المنطقة وتنشغل بما تتصوره خطرا مباشرا عليها فتشارك في الحرب على مقاومي الامبراطورية الفارسية الإسرائلية مقاوميها الذين جعلهم التشويه المخابراتي الغربي الإيراني يبدون لهم أخطر عليهم منها.
ويحق للسائل أن يسأل: ألايهدد المقاومون الأنظمة العربية صراحة بالقول وبالفعل؟أليست داعش تدعي الخلافة وتسمي ولاة في كل بلاد العرب؟بلى: وهذا دليل صحة كلامي ولا يتنافى معه سواء صدقنا بدور التشويه أم كذبناه. فالمشكل ليس في وجود هذا الخطر أو عدمه بل في ترتيب الأخطار. ذلك أن الاستراتيجيات تنبني على ترتيب الأخطار وليس على حصرها في خطر واحد.
فهبنا سلمنا بهذا التهديد دون أن نجادل في أنه من شائعات توظيف المقاومة لعكس أغراضها بالاندساس فيها لتشويهها: فاي الخيارين أصوب ترك المقاومة-أيا كانت مقاصدها لاحقا- تقضي على حلم الامبراطورية الإيرانية أو على الأقل تحد منه أم مساعدة الإيرانيين على تحقيق حلمهم وحلم أمريكا دون أي إمكانية لمقاومته ؟
العجيب والمعجز تاريخيا هو أن غالب الشعب ميال للحل الأول لأنه بحسه العفوي يدرك أن الامبراطورية الإيرانية الإسرائيلية أخطر على الأمة شعبا وأنظمة من مشروع لا يحققه إلا الشعب تحقيقا طوعيا خاصة إذا تصالحت معه أنظمة حكمه.
لكن الأنظمة تخطيء إذ تخاف من خطر حتى لو سلمنا بأنه محتمل مع العلم أنه لا يمكن أن يتحقق من دون إرادة الشعب بعد أن تتحقق شروط الحرية التي لا مرد لها وكل معاندة ضدها تنتهي إلى خطر أكبر من أي خطر: فما من نظام يمكن أن يدوم ضد إرادة شعبه مهما استبد بالقوة والعنف والحيل. لذلك فلا معنى للخوف من إرادة الشعب والاطمئنان إلى خطر داهم يزداد يوما بعد يوم لاستعبادهم وشعوبهم: خطر الامبراطورية الإيرانية الإسرائيلية. التصدي الوحيد هو وحدة عرب السنة في إمبراطورية الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية أي تحقيق قيم الإسلام الحقيقية دون حاجة إلى حرب أهلية.
فمن الـمنطقي أن تحارب إيران وإسرائيل والغرب كل مقاومة لمشروع الإمبراطورية الإيرانية الصهيونية لتكوين شرطة المنطقة بعد تشويهها بالاندساس فيها وحرف خطها وفكرها حتى تسهل على نفسها عملية إتمام التهديم وإعادة البناء. لكن من السخف مواصلة الأنظمة العربية سياسة النعام والمساعدة في حفر قبورها بأيدها وبمالها.
فأين المنطق في المساعدة العربية لهذه الخطة التي تريد بها أمريكا تنظيم المنطقة تحت إمبراطورية إسرائيلية إيرانية ؟ هل تتصور الأنظمة العربية أن الامريكان وإيران بعد أن ينهوا المقاومة التي شوهوها بقصد سيبقون عليها أم هم لم يخفوا أنهم ينوون إعادة خارطة المنطقة إعادة لن تبقي علي أي من الدول العربية الحالية فضلا عن أنظمتها ؟
أمريكا وإيران يريدان شيئين: تفتيت الموجود وتحقيق نظام بديل لهم عليه اليد الطولى . والتفتيت يقتضي إزالة الدول الحالية ومعها الانظمة حتما. والنظام هو الامبراطورية الفارسية الإسرائيلية التي لم تعد مجرد نوايا لأنها بدأت تتحقق على الأقل في الهلال بأيدي مليشيات إيران العربية الراضين بالعبودية وبمساعدة الأنظمة العربية التي تتعامى عن الخطة.
لكن الشعب بحسه العفوي لكأنه فهم أنه لو اضطر للخيار بين إمبراطورية إيرانية إسرائلية تستعبده بإعادته إلى ما كان عليه في الجاهلية وإمبرطورية عربية إسلامية يمكن أن يطهرها من الاندساس الذي يشوهها لما تردد لحظة لتفضيل الثانية مع علمه بعسر هذا التطهير.
لكنه حاليا يفضل حلا وسطا يغنيه عن هذه المهمة شبه المستحيلة على الأقل حاليا فيريد حماية دوله الحالية وهو لن يتخلى عنها إذا هي لم تتخل عنة واجباتها الوطنية فحمته ورعته: ذلك أن المقاومة التي يخافونها هي شباب الشعوب الغاضب.
فإذا حمت الأنظمة شعبها ورعته زالت أسباب الغضب ولم يبق إلا طلب الأفضل فتسقط امبراطورية فارس وإسرائيل ولم نعد بحاجة لغير كنفدرالية عربية طوعية تمكن من شروط الحماية والرعاية لأن الدول القطرية عاجزة دون ذلك في عصر القوى العملاقة.
وهذا لا يتطلب أكثر من تطوير جامعة الدول العربية لتصبح جامعة الشعوب العربية: وتلك هي شروط التنمية العادلة والناجعة وتلك هي الحرية والكرامة شرطي الحماية والرعاية في كل دولة ذات سيادة حقيقية تغنيها عن الاحتماء بالأعداء.
هذا هو الحل الوحيد لحماية الانظمة والشعوب في آن: ويبقي على الأنظمة التي تصبح بهذا الحل أكثر شرعية بفضل ما يتوفر لها من شروط الحماية والرعاية المشروطتين بالحجم العربي على الأقل دون أن تخسر السيادة بل بالعكس لأن السيادة عندئذ لن تبقى كما هي الآن مجرد وهم وخلب: إني أكاد أموت من الضحك كلما رأيت أي وزير خارجية أو دفاع عربي مع “نظيره” حتى من إيران فضلا عن نظيره الأمريكي. فهو في موقع القزم أمام العملاق في حين أن الله قد من علينا بما يمكن من العكس.
فلا إيران ولا إسرائيل ولا حتى أمريكا تستطيع أن تستعمر أمة بحجم العرب إذا استبقوا الخطر بدل السلوك الغبي الذي يجعل العرب يسقطون في كل جب يحفر لهم لكأنهم صم عمي لا يعقلون.
ولأذكر بمثالين تاريخيين: أولهما من تاريخ بداية الدور العربي بمرجعية إسلامية (تأسيس دولة الإسلام) والثاني من تاريخ توحيد ألمانيا بمرجعية تحاكي المرجعية الإسلامية وإن بروح القرن الثامن عشر والتاسع عشر خاصة علما وأنها بدأت في السادس عشر خلال الصراع بين آخر خلافات الإسلام السني وبداية الإصلاح الديني في ألمانيا.
وفي هذا القول بداية شرح لعلة الجمع بين هذين المثالين -العربي والألماني-الجمع الذي قد يعيبه على الكثير من الذين يسيئون فهم التاريخ العربي الإسلامي والألماني المسيحي الحديثـين بعد سقوط روما.
فالعرب والجرمان شعبان بكران بقيا بعيدين عن المشاركة في الحضارة الإنسانية التي سادت في عصرهما قبل أن يحملا مهمة نشر رسالة سماوية: الإسلام بالنسبة إلى العرب رسالة بلغتهم وبنبي منهم والمسيحية بالنسبة إلى الألمان رسالة نقلوها إلى لغتهم وبنبي ليس منهم.
الجرمان أسقطوا روما وتمسحوا ثم نشروا المسيحية في أوروبا كلها إلى أن اصطدموا بالعرب الذين نافسوهم على أوروبا بعد نزول الإسلام ففتحوا أوروبا ونشروا الإسلام في الكثير من مناطقها غربا (الاندلس) وشرقا من خلف العرب على نشر الإسلام أي الأتراك (البلقان).
ومنذئذ إلى نشأة ألمانيا الحديثة كان تاريخ العالم حربا سجالا بين الجرمان باسم المسيحية والعرب والمسلمين باسم الإسلام ممثلين للدينين. وفي ذلك لم يكن للفرس إلا الدور الهدام في حين أن الأتراك من الله عليهم بأن نابوا العرب في مهمة حماية دار الإسلام-ربما لأنهم مثل العرب يستمدون منه وجودهم الحضاري بخلاف الفرس الذين ينقمون على العرب خاصة وعلى الإسلام عامة لشعوبية غالبيتهم والتنكر في تحريف حب آل البيت.
لذلك ففي هذه الحرب السجال بين الإسلام والمسيحية بتوسط الشعبين العربي والالماني خاصة كان التشيع الذي هو غطاء الشعوبية الفارسية في حلف دائم مع الصليبيين ومع المغول أي مع كل من يحارب الإسلام السني تماما كما نراهم الآن في الحلف مع مغول الغرب بعد الحلف مع مغول الشرق الذي حارب الخلافة العباسية وساهم في أسقاط بغداد (التي يدعون أنها عاصمة إمبراطوريتهم التي استعادوها).
تلك هي الخلفية التاريخية إلى أن أصبح موقف ألمانيا الحديثة في مسعاها التوحيدي عكس ما كان لأنها بدأت تعترف بقيمة الإسلام وتصادق صورته العربية الأولى التي صارت عندهم تمثل قدوة في بناء الأمم المبدعة: عظيم بروسيا يعتبر نفسه هارون رشيد الألمان.
فكيف اقتدت بالإسلام العربي الذي كان مفكروها يعتبرونه قد حقق معجزة بناء إمبراطورية عالمية في 50 سنة؟ القدوة الإسلامية تمثلت بالنسبة غليهم في استراتيجية الإسلام التشريعية غاية (تحقيق القيم القرآنية في التاريخ الفعلي) واستراتيجية التحقيق السياسية والتربية أداة (تحقيق التربية والعلوم وتطبيقاتها أدوات لاستعمار الإنسان في الأرض حتى يكون أهلا للخلافة التي خلق من أجلها).
فهم الألمان أن الإسلام لم ينجح إلا لأنه طبق هاتين الاستراتيجيتين اللتين خلصتاه من التحريف. هكذا فهوما فكرة الإصلاح وتوحيد الأمة المبقى على التعدد وخاصة النظام الاجتماعي الشرعي العادل: فموحد ألمانيا في منتصف القرن التاسع عشر لم يوحدها بالحرب ضد فرنسا والنمسا فحسب بل وكذلك ببناء نظام اجتماعي اقتصادي وتربوي ثقافي يحقق شروط القوة المادية والروحية وهو النظام الذي ما يزال ساري المفعول في ألمانيا إلى الآن.
ومعنى ذلك أن سر قوة ألمانيا الحالي هو هذه القيم التي نكص عنها المسلمون عامة والعرب خاصة فعادوا إلى الجاهلية التي لم يبق ناقصا لعودتها التامة إلا ما تحلم به إيران أي إعادة العرب إلى ما قبل الإسلام توابع أذلاء كالكلاب في نظر قائد فارس الذي هزمه جيس عمر: العلم والعمل والعدل الاجتماعي وحرية الضمير.
وليس يمكن منع الامبراطورية الفارسية الإسرائيلية إلا بطريقة واحدة: فهم ما فهمته ألمانيا التي حاكت ما حققه أجدادنا: وحدت إماراتها كما وحد الإسلام قبائل العرب مع المحافظة على التعدد والتنوع حتى يكون ذلك دافعا للتنافس في الخيرات.
ذلك أن تعدد العرب فيه مزيد إثراء وتنوع الأنظمة فيه دليل حيوية: كل الأقطار العربية تتنافس على بناء شروط التنيمة والحضارة وليس كما كان الأمر لما كانت البنية هي بنية مركز يجذب إليه بعض النخب وتبقى الأطراف هامشية في عسر البداوة (هذا الأمر تجاوزناه لم تعد مصر مركزا والبقية قبائل بل تعددت المراكز لصالح الأمة ولم تعد القاهرة إلا واحدة من العواصم وليس بالضرورة هي الأهم لأن العبرة ليست بالكم). وهذا العدد يقوي شروط الحماية (الحكم والتربية) وشروط الرعاية (الثقافة والاقتصاد) إذا فهم العرب أنها ليست في متناول أي قطر بمفرده فحققوا ولايات عربية متحدة يتداول عليها كل الحكام العرب بنظام شبيه بما يحصل في أوروبا حاليا.
وبذلك نصل إلى جامعة الشعوب العربية التي تحقق الحكم المستقر والتربية المبدعة علما وتقنية فتكون القوة السياسية التربوية شرط الحماية وتكون القوة الثقافة والاقتصاد شرط الرعاية. وبذلك يكون الإسلام شرط القوة الروحية لأمة لا يمكن لغيرها أن يسود عليها لأنها لا معبود له غير الله.
وحينئذ لن يستطيع اي شعوبي أو صهيوني أو صليبي أو تخريبي ان يتنمر لأن أمة عدتها قريبا نصف مليار بما لها ثروة وتراث لا تقهر بإذنه جل وعلا.
ولنضف أمرين آخرين : الأول أن الإسلام السني اليوم يقوم على خمسة أقوام هم:1- العرب 2-والأتراك 3-والهنود (بأصنافهم الثلاثة : قسما دولته المسلمة ومن يعيش منهم في الهند) 4-والمالاووين 5-والأفارقة من غير العرب. ويمكن أن نضيف إليهم الأقليات المنتشرة في القارات الخمس.
لكن علاقة الغرب الحالي بالإسلام السني ليس لها من عدوانية إلا عودة الماضي الأليم مع قومين من أقوام الإسلام السني : مع العرب والأتراك. فالعنصرية هي ضدهما لا غير : أي ضد شعبين يعتبرهما الأوروبيون بسبب الماضي خطرين عليهم (ولعل أهم علامة على ذلك الموقف من دخول تركيا للوحدة الأوروبية وحركة “الوطنيون الأوروبيون ضد أسلمة الغرب »= بيجيدا Pegida). وهو ما علينا تحليله لتحرير الغرب من مرضه إزاء ماض لم يعد منا أحد يعتبره مستقبلا.