لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شروط الاستئناف
نخصص هذا الفصل العاشر للزوجين الثانيين من قاعدة هرم الصفات التي صنفنا بها النخب في كل أمة وحضارة والافعال التي تناظرها فرض كفاية فيهما.
فبعد الإرادة والوجود صفتين تميزان نخبة السياسة ونخبة الرؤى الوجودية يأتي دور العلم والحياة صفتين تميزان نخبة العلماء ونخبة الفنانين.
نريد أن نقيم هذين النوعين من النخبة في لحظتنا العربية:
هل لنا نخبة علمية ونخبة فنية تبدعان علوما وفنونا؟
أم إن ما لنا منهما مجرد أسمائهما؟
وهنا أيضا الجواب يكون بتطبيق نفس المعيارين: حقيقة العلم وحقيقة الفن ثم دورهما في الأحياز الذاتية لأصحابهما وفي الخارج من أحيازهم وجماعتهم.
لو اكتفينا بظاهر الأمر وبالأسماء لكانت الامة اليوم في ذروة الإبداعين العلمي والفني. فعدد الطلبة في جامعات العرب اليوم: أكبر من سكان إسرائيل.
إسرائيل من قادة العالم في الابداعين والعرب لا ذكر فهم في أي منهما. وطبعا ليس الأمر كله رهن الأفراد والنخب فما تقدم في الزوجين الأولين حاسم.
ومع ذلك فلا ينبغي حصر المسؤولية نخبة السياسة ونخبة الرؤى الوجودية دينية كانت أو فلسفية: فأصحاب السلطان على “محاضن” العلم والفن مسؤولون كذلك.
وغالبا ما يكونون أكثر استبدادا وفسادا لأن من شرط تنصيبهم على المحاضن أن يكون دون سادتهم من الساسة وأصحاب الرؤى خلقيا ومعرفيا لأنهم أدواتهم.
وأكاد أجزم أن تسعين في المائة من الشهادات مزورة إما تزويرا كليا لأنها مشتراة أو تزويرا جزئيا لأنها من جنس ما يعطى للأجانب تفضلا واحتقارا لهم.
فالكثير من الدارسين في فرنسا-من جيلي- شهاداتهم اسم بلا مسمى: التباكي بدعوى أنهم مقاومون للأنظمة أو احتقار الاساتذة لبلد الطالب (سيضر بلده).
وكلما كان بلد الطالب أغنى غلب اشتراء الشهادة وكلما كان أفقر غلب التباكي والاحتقار. لكن فحتى الباقي عشرة في المائة أكثر ممن بنوا الغرب الحديث.
ففي فرنسا كان عدد الحاصلين على الدكتوراه في فرنسا قبل الحرب الأولى باعتبار النسب مع السكان أقل من عددهم في جل بلاد العرب اليوم.
ما الثمرة؟
والأدهى أن المستوى في تنازل في كل بلاد العرب حتى صار فيها لا يتجاوز محو الامية. ما عليه التعليم في مصر وتونس من تراجع أمر مرعب ومذهل.
أبهة التجهيز المادي في بعض البلاد العربية لا فائدة منها. فالإبداع العلمي والفني ليس مثل استيراد لاعبي الكرة: يشترى صاحبها بالمال والتجنيس.
لا بد من شروط ذكرناها في كلامنا على السيادة. إذا لم تكن الجماعة ذات حجم وطموح لتحقيق شروط السيادة فلا يمكن أن تبدع في أي مجال مهما صرفت.
ولأضرب مثال تونس: كل دخلها الوطني لا يكفي لبحث علمي قادر على المساهمة الفعلية في الإبداع العلمي والفني بمدى عالمي إلا بندرة الكبريت الأحمر.
وهذه مسألة الحجم تسليما بوجود الطموح. وحتى لو وجد الحجم والطموح فإن استبداد نخبة السياسة ونخبة الرؤى وفسادهما لن يجذبا الكفاءات بل يطرداها.
لكني أعتقد أن الأمر ما يزال متعلقا بغلبة من لهم صفات العلم والفن اسميا وليس فعليا وسلطانهم على التكوين والتموين من أجل الرعاية والحماية.
فهم توابع نخب السياسة والرؤى ومن ثم فالغالب عليهم روح الاستبداد والفساد لأنهم في الحقيقة لا يرون إلا ما يستمدانه منهما من سلطان سياسي.
فاستمداد السلطان السياسي من سلطان علمي وفني كاذبين هما السائدان في المحميات العربية: ما المنتظر إذا كان السيسي يعين رؤساء الجامعات؟
وإذا كان حاكم أبو ظبي وحاكم السعودية هما اللذين ينتخبان علماء الدين ورؤساء الجامعات فما الحصيلة التي يمكن أن ننتظرها: الارذل بدل الأفضل.
هذا إذا سلمنا أن النظام التكويني يعطي الأفضل. لكن الأفضل نسبي وهو موجود حتى بمقتضى المواهب الطبيعية التي توجد في أي نظام تعليم مهما تردى.
بعد هذه اللمحة العامة فلنعد للتشخيص بالاعتماد على معيارينا: كيف تكون صفة العالم اسما مطابقا لمسماه؟ وهي تحقق في كيانه وأحيازه الذاتية.
والمعيار الثاني: كيف يكون العلم ذا ثمرة في الأحياز الخارجية أي مساعدا على سد حاجات الذوق بمستوييه وتحقيق الرعاية والحماية شرطين للسيادة.
وحتى نفهم جيدا دلالة هذا المعيار الثاني ينبغي أن ندرك أن الاعداء يفهمونها: مرسي لم يعزل لكونه إخوانيا بل لكلامه على السلاح والغذاء والدواء.
فأي سياسي أو عالم له وعي بشروط السيادة وخاصة سعي لتحقيقها رأسه مطلوبة علما وأن ذلك حتى لو وجد ليس كافيا ما ظلت الأحياز مفتتة لمنع شرط الشروط.
وشرط الشروط هو حجم الاحياز: الحجم الجغرافي والحجم التاريخ وحجم التراث وحجم الثروة طبيعة المرجعية وديموغرافيا المؤمنين بها والساعين إليها.
وشرط الشروط هذا بداية لا تفيد إذا لم يتحقق ما وصفنا في الفصل السابق (السياسة والرؤية: المشروع والإرادة) وما نصف في هذا الفصل والذي يليه.
ما حقيقة الفعل العلمي سواء كان مبدعا أو حتى مطبقا لما سبق إبداعه؟
لا بد أن ينتسب إلى المسائل والحلول التي تنتج عن غايات الذوق بمستوييه.
وهي أمور أطنبنا في علاجها عند كلامنا على دور الترميز الغائي والأداتي وكلها مسائل وحلول كوينة ومحليتها مقصورة على موادهما دون قوانينهما.
لكن ما يلاحظه أي مطلع على “منتج” الجامعات العربية هو أنها لم تصل إلى الكونية ولم تفهم دور الترميز العلمي فضلا عن الفني الذي هو إبداع صرف.
فالعلم يغلب عليه الاتباع للظن أن كونيته تلغي تعدده فيكون بحوثا شبه متحدة المنهج والغاية لكن الفنون بعكسها لها كونية الذوق المتعدد للإنسان.
والجمع بين الكونية الصورية (نظام الترميز) والمحلية المادية (راهن المسائل) من أعسر الابداعات ومن ثم فالفنون العربية لم تصل إلى تحقيق أدنى شروطه.
وكبار المبدعين يجمعون بين الإبداعين العلمي والفني المباشرين أو حتى غير المباشرين: فأرسطو مثلا في كتاب الشعر مبدع غير مباشر في فن الشعر.
وهو في آن مبدع علميا في الفن لأنه وضع نظرية التراجيديا والكوميديا وحدد محاور نقدهما بمقتضى حقيقتهما كما نظر لها. وكان لي شرف تدريس كتابه.
فأكبر مبدعي ألمانيا في الأدب لم يخلدوا إلى واقعية الترجمة الذاتية لأقزام الأدب بل كان لهم دور في الإبداع العلمي وعلم الفن ودوره: جوته وشلر.
العلم والفن كليان بالصورة والطريقة ومحليان بالمادة الترميز. وبهما معا يكون لهما دور أحياز الفرد الذاتية وأحياز الجماعة: مكانها وزمانها وثمرتهما.
فتكوين الإنسان فردا وجماعة وتموينه كلاهما رهن ما يبدعه الإنسان الذي لم تفسد فيه معاني الإنسانية ولم يصبح عالة على إبداع جماعات اخرى.
فالعلم شرط العلاقة العمودية لتواصل الجماعة مع الطبيعة فتضمن بقاءها البايولوجي. والفن شرط العلاقة الافقية لتواصل البشر فتضمن بقاءها الثقافي.
وتنقل العلاقة العمودية المكان بإبداعات العلم إلى جغرافيا حضارية. والعلاقة الأفقية تنقل الزمان بإبداعات الفن إلى تاريخ حضاري: دور غائب عندنا.
فما يجري هو استيراد ثمرات العلوم وثمرات الفنون دون الابداعين العلمي والفني: فالإبداع لا يستورد بل ينتج عن تكوين وتموين متحررين من التقليد.
لكننا رأينا أن ما يسيطر على لحظتنا هو حرب الدعشنتني صداما حضاريا بين كاريكاتور التحديث (العتيبية) وكاريكاتور التأصيل (البغدادية): المأزق.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها