لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شروط الاستئناف
لا بد أن القارئ قد لاحظ أني لم اقيم السياسي والاقتصادي العربيين.
اكتفيت بتحديد معايير التقييم وتركت للقراء حزر النتيجة وهي شديدة البينونة.
فالمسافة بين الموجود والمنشود لا تحتاج لتقدير لأنها بلغت حد التناقض: لا شيء في السياسي والاقتصادي العربيين له صلة بالسياسة والاقتصاد أصلا.
ولأستدرك: فبالأقوال هم جميعا أكفأ من كل ساسة العالم واقتصادييه وبمظاهر سلطان السياسة والثروة لهم بهرج يتجاوز حكام القوى العظمى واقتصادييها.
وهي من المزايا التي يخولها لهم الحامي حتى تبدو المحميات وكأنها دول ذات سيادة والتبعية في الخردويات وزائف العمران وكأنها قوة اقتصادية فعلية.
لكني لن أطيل في التقويم لأن المجال يوجد من أدرى به مني وسأقتصر على الكلام فيما لي به صلة مباشرة وهو الثنائي الثاني: نخبة المعرفة ونخبة الفن.
وحتى لا يساء فهمي فلابد ملاحظتين:
حكمي على الساسة والاقتصاديين العرب لا يعني الإطلاق بل هو يقتصر على من بيدهم السلطان في المجالين.
ويترتب على هذا الملاحظة الأولى أن ظهور المفضول وغياب الافضل ليس ناتجا عن دينامية عادية علتها من برز في المجالين أم للأمر علاقة بالحامي؟
ولأضرب مثالين من تونس والجزائر.
ففي الجزائر من حال دون تحقيق رغبة الشعب في التغيير وجعل هذه الرغبة تمثل بداية سنوات الجمر العشر التي عاشتها.
وطبعا ما حدث في مصر وفي سوريا واليمن وليبيا من جنسه. لذلك اعتبرت الربيع العربي والحرب عليه بدآ في الجزائر وليس في تونس كما يتوهم الكثير.
والمثال من تونس وقد عشته بل وحاولت المساهمة فيه قدر مستطاعي: لما كدنا نقع فيما وقعت فيه مصر بالانقلاب كان الخيار بين رجلين خير وشرير.
لكن الشرير أبعد الخير وتبعه غالبية المشاركين فيما سمي بالحوار الوطني: من استبعد احمد المستيري هو من كان مستعدا لإغراق تونس بنموذج السيسي.
وطبعا لم يكن ذلك لأنه الأفضل ولا لأنه الأقوى لو كانت المعركة محلية أي مقصورة على القوى السياسية في تونس ودون تدخل الحامي ومافياته.
لذلك فالمشكل ليس محليا بل هو دولي لمجرد أن بلادنا كلها ما تزال محميات ولن تتحرر من هذا الوضع ما ظلت الأحياز محكومة بما حدده لها الاستعمار.
فكل بلد عربي لا يمكن الا يكون محمية لأنه اقتطع من كيان الأمة حتى يكون مستضعفا بالجوهر لأنه بحجم يحول دون القوتين شرطي الحماية والرعاية.
قدمت هذين الملاحظتين لأنهما من باب اولى أكثر فاعلية فيما هو الأداتين الأساسيتين لجعل السياسي والاقتصادي قادرين على السعي إلى حقيقتهما.
فالسياسي والاقتصادي لم يمكن أن يتجاوزا الموجود إلى المنشود من دون أداتيهما الأساسيتين أعني العلوم والفنون كما بينا في كلامنا على الترميز.
فالعلاقة العمودية مع الطبيعة (القوة المادية) مصدرها ابداع العلم.
والافقية بين البشر (القوة الروحية) مصدرها ابداع الفن: الأقزام لا يقدرون عليهما.
وتلك هي العلة التي جعلتني أقول إن الفاعلية الجوهرية في التاريخ الإنساني هي فاعلية الترميز العلمي والترميز الفني: مصدر قوة الرعاية والحماية.
وقوة الحماية والرعاية هما شرط السيادة. فيكون منع القوة القادرة على إبداع أدوات الرعاية والحماية يسبق استبعاد النخب التي مسماهم يطابق اسمهم.
وما يصح عن استبعاد السياسي والاقتصادي الحقيقيين يصح من باب أولى على استبعاد العالم والفنان الحقيقيين. هم موجودون والدليل نجاحهم في الهجرة.
وما يزيد الطين بلة هو أن العلمي والفني كلاهما أصبح في الدولة الحديثة وخاصة بسبب كلفة البحث العلمي والإبداع الفني لم تعد في متناول الأفراد.
فأصبح العلم والفن تحت وصاية السياسة والاقتصاد. فساد النخب التي بيدها سلطة السياسة والاقتصاد التي تعين من يحكم المؤسسات العلمية والفنية.
فيكون الولاء لهم-وهم الان ما يزاولون نفس الجماعة إما لأن السياسيين هم المسيطرون على الاقل في الظاهر او العكس في الباطن-هو المعيار لا الكفاءة.
وبذلك يتمر التردي السياسي والاقتصادي إلى العلمي والفني فيصبح المنطق هو منطق استبعاد من يطابق اسمه مسماه واستقراب من له الاسم دون المسمى.
والشهادات ليست كافية للتمييز بين المسميات لأنها مجرد أسماء قد تشترى المال أو بالوسائط. وخراب التعليم العلمي والفني مآله فقدان الابداعين.
فيصبح التعليم محو أمية ولا يخرج في الغالب إلا العاطلين والطبالة من أجل الحصول على الرزق الذي صار بيد الساسة والاقتصاديين ممن وصفنا خصالهم.
وبذلك نفهم اتجاه المنحنى المشير إلى حصلة التنمية المادية والروحية في بلاد العرب: هي إلى نزول وليست إلى صعود في أي مجال من مجالات البناء.
وقد يوهم الكثير أن البلاد التي نرى فيها نموا عمرانيا مبهرا بلاد تنمو كما تصدق نفسها في دعايتها: هكذا كانوا يقولون عن العراق والجزائر.
لكن المؤشرات المستعملة كلها زائفة: فمن يعمر ببيع الخام لا يعمر بل يدمر. ذلك أن الثورة التي لا تتجدد لا ثروة. ولا يتجدد إلى ثمرة الابداعين.
وما قلته عن العراق والجزائر أقول مثله على كل بلاد الخليج: فيوم ينضب البترول لن يتسوح أحد في صحارى الإمارات ولو جمعوا كل فائعات …العالم.
وما قلته عن العراق والجزائر أولى بالخليج: إذا نضب البترول بات العيش في ناطحات سحاب الصحارى ليس في متناول أصحابها: تبريدا وتصعيدا وتنويرا.
والعلة في كل بلاد العرب -من العراق إلى المغرب-هي التحديث المقلوب. بدلا من البدء بالبدايات نبدأ بالغايات. فتستورد بدلا من أن تعمل.
وبذلك تكون الجامعات طواحين إيديولوجية وليس معامل إبداعية لما تتقوم به أنشطة إبداع الثروة والتراث شرطي كل قوة مادية وروحية للجماعات السيدة.
كلما سمعت عربيا يفاخر بأن بلده قضى على الأمية أفهم أن من أكبر الأميين: فهب كل التونسيين حصلوا على الدكتوراه فلن تصبح تونس دولة: ستبقى محمية.
فالعلم المبدع والفن المبدع أولهما مفتاح العلاقة مع الطبيعة لإنتاج التنمية المادية والثاني مفتاح العلاقة مع الإنسان لإنتاج التنمية الروحية.
وكلفة المفتاحين لا يقدر عليها بلد دخله القومي الخام عاجز عن البحث العلمي والبحث الفني القاطرين للتنمية: وكلاهما اليوم مقطور بالبحث الأساسي.
والبحث الأساسي لم يعد يكفي فيه-كما كان في عهد أفلاطون وأرسطو-قلم وورقة بل التجهيز العلمي ثروة تونس كلها لا تكفي لأدنى أدواته في مجال واحد.
والمجالان الرئيسيان اليوم في العلوم للعلاقة بالطبيعة وفي الفنون للعلاقة بالإنسان هما نظريات غزو الفضاء وأدواته وغزو المجتمعات وأدواتها.
وغزو المجتمعات وأدواتها سلاح للغزو المادي وفن للغزو الروحي. وكلها صناعات عملاقة لا يقدر عليها أي بلد عربي يعتبر نفسه دولة وهو محمية.
وإذا لم يفهم أحد هذه الحقائق وأراد أن يعلم ابناءه تعليما حديثا دون أن يفكر في حل هذه المشاكل فهو في الحقيقة يعد كوادر لحامية يستقطبهم.
فيكون دوره تمويل تنمية الحامي وليس تنميته: خذ مثال قطر. فهي قادرة على كلفة التعليم الراقي. لكنها لن تقدر على شروط الاستفادة من مخرجاته.
فالاستفادة من مخرجاته تقتضي تجهيزات البحوث الأساسية في الفيزياء والكيمياء وتطبيقاتها في غزو الفضاء والأرض ومن عليها: وهو ممكن للعماليق وحدهم.
وما ظل العرب لم يفهموا ما فهمته دول أوروبا رغم حجمها وظلت كل قبلية تظن نفسها دولة لكنها مهما أخلص حكامها لن تغير واقع كونها محمية تابعة.
وطبعا فلست أقصد أنه على قطر مثلا أن تلغي أفضل ما تفعل لأن مخرجاته ستكون لغيرها. ما أقصده أن السيادة لها شروط يحددها العصر واساس كل تنمية.
والعصر اليوم يحدد شروط الحجم وشروط الأدوات: والحجم للأحياز والادوات للإبداع العلمي والفني الاساسيين والمطبقين في الرعاية والحماية: السيادة.
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها