لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشروط الاستئناف
نخصص هذا الفصل الخامس للزوج الذي يبدو بيده الحل والعقد في شروط البناء التي من دونها لا يمكن الكلام على استئناف دور الإسلام في التاريخ الكوني.
وكلامنا يتعلق بدوره الفاعل لأن الإسلام والمسلمين منذ بداية الانحطاط إلى الأن اقتصر دوره على رد الفعل والصمود للبقاء لعقم فكر الإمة وعجز فعلها.
وهذان الزوجان هما السياسي وصفته الإرادة والاقتصادي وصفته القدرة: علاقة الإرادة بالقدرة في الصفات هي علاقة السياسي بالاقتصادي في النخب.
وهذا التناظر ليس نفسيا: صفة الإرادة والقدرة تقال على الفرد نفسيا. فالإرادة تكون دائما أوسع من القدرة وغالبا ما يتصف الفاشل بإرادة دون قدرة.
ما يعنينا منه هو الوجه الخلقي. فإذا علمنا أن التطابق التام بين الإرادة والقدرة مقصور على {الفعال لما يريد} أي الله جل جلاله فهمنا القصد.
فالخلقي في هذه العلاقة هو الجهد المبذول لتحقيق شروط المقدور عليه من الأفعال وتجنب إرادة غير المقدور عليه بمقتضى طبيعته: وتلك هي الحكمة العملية.
والحكمة العملية هي النسبة التي تحقق مفهوم الإرادة التي نصف بها السياسي والقدرة التي نصف بها الاقتصادي في علاقة التصور بالإنجاز في عملهما.
ولأكن منصفا فأميز بين السياسي والاقتصادي بالفعل والسياسي بالقوة (المعارض). والناقد لأمراضهما مثل المعارض حكمه: المتفرج فارس (مثل تونسي).
وقد قال أحد أدباء فرنسا قولة شهيرة تعبر عما تعنيه “المتفرج فارس”: La critique est aisée, l’art est difficile النقد يسير والفن عسير.
لذلك فسأكون قدر المستطاع منصفا لعلمي بان المتفرج فارس وأن النقد يسير والفن عسير. وما يشفع لي هو أني أجعل المنقود صاحب النقد: تصوره وإنجازه.
وأول أمر ينبغي البدء به تعريف السياسي بانتسابه إلى النخب التي يتميز أفرادها بغلبة الإرادة على صفاتهم الأربع الأخرى في مزاجهم النفسي وطبعهم.
وأن الاقتصادي يقبل التعريف بالانتساب إلى النخبة التي يغلب على صفاتها القدرة وليست مريدة فحسب فعلا وتصورا وهو الغالب على مزاجهم وطبعهم.
وسأسأل عما يبدو مفارقيا: هل عندنا سياسيين (بالفعل وبالقوة)؟ وهل عندنا اقتصاديين (بالفعل وبالقوة) أم ما عندنا هم أشباه منهما دون خصالهما؟
وقبل الجواب فلأذكر بأن غلبة صفة من الصفات لا تعني غياب بقية الصفات بل لا بد من وجود القدر الضروري لتحوز الصفة على دورها في شروط فاعليتها.
ولأوضح: فالسياسي تغلب عليه الإرادة لكن الإرادة لا تعمل من دون العلم والقدرة والحياة والوجود أي المعرفي والاقتصادي والفني والرؤيوي.
فالإرادة عزم على الفعل القادر وشرط ذلك المعرفة والاقتصاد والفن والرؤية. والسياسي يحتاج لأصحابها ويحتاج لمعرفة من هم اصحابها فله منها بصيص.
وكان المسلمون-كما هو بين من الأحكام السلطانية- يعتبرون ذلك من شروط الاهلية للترشح للخلافة بل أحيانا يبالغون فيشترطون شرطي الاجتهاد والجهاد.
وذلك لأن السياسي لا يمثل إرادته حتى وإن عرفناه بها بل يمثل دعوى تمثيل إرادته لإرادة الجماعة التي يسوسها فيكون مسؤولا عن رعايتها وحمياتها.
والإرادة في حقيقتها هي الطموح الذي لا حد له ليس للغايات وحدها بل لشروطها وأدواتها وارادة الجماعة تطمح لتحقيق شروط الرعاية والحماية القصوى.
وشروط الرعاية والحماية القصوى تعني أن كل جماعة بحاجة إليهما في الداخل والخارج. فالتمانع على الأحياز داخلي وخارجي: الطموح تنافس متمانع.
والتمانع على الأحياز داخليا وخارجيا يجعل الرهان فيه على ثمرتيها أي الثروة والتراث. فيكون دور الإرادة السياسية الجمعي ارفع طموح وقدر منهما.
فدينامية السياسي بما هي سلطة غايتها تحقيق الشروط التي تقرب الإرادة من القدرة. والقدرة هي القوة التي ترعى وتحمي القدرة التنافسية: الاقتصاد.
وكما أن السياسي لا يقرب الإرادة من القدرة إلا بالقوة الاقتصادية فإن الاقتصادي لا يقرب القدرة من الإرادة إلا بالسياسي: فيتخادمان لهدف مشترك.
فإذا تخادما وتوحد الهدف باعتبارهما يمثلان إرادة الجماعة وقدرتها أمكن للجماعة أن تكون ذات سيادة لأنها ترعى ذاتها وتحميها بإرادتها وقدرتها.
أعتقد أني قد مهدت بما فيه الكفاية لأشرع في عرض الموجود على المنشود لبيان الهوة بين واقع السياسي والاقتصادي عندنا وواجبهما بمعيار حقيقتهما.
ذلك أني أكره ما أكره هو كلام المفكرين على الواقع باسم الواجب دون تحديد حقيقة الأمر الذي يتعلق به النقد دون العلم بأن واجب الشيء هو حقيقته.
ولا معنى لواجب آخر غير مطابقة الشيء لحقيقته ما أمكن له وخاصة بالنسبة إلى الإنسان. فحقيقته هي أن منشوده يتجاوز موجوده دائما: وتلك هي حريته.
السياسي والاقتصادي موجودهما ومنشودهما إنساني مثل أي إنسان لكنه يتعين في الصفة الغالبة عليهما ككل انسان: فما منشود الإرادة ومنشود القدرة؟
يقاس منشود الإرادة ومنشود القردة بقوة الإمكان الناقل من موجودهما في الوضع الداخلي والخارجي إلى منشود الرعاية والحماية بحسب حاجة الجماعة.
ولما كانت حاجة الجماعة ليست بمعزل عن التنافس داخليا وخارجيا على ثمرة الأحياز مصدر شرطي سد الحاجات كان الأمر متعلقا بتمانع وتنافس بين الناس.
ومن ثم فكلما كانت الجماعة أقوى إرادة وقدرة في لقاء التمانع والتنافس كانت أكثر إرادة وقدرة في مجالي الرعاية والحماية ومن ثم ذات سيادة أكبر.
فتكون المحميات فاقدة لشروط السيادة: لأنها جميعا عديمة الإرادة (الطموح) والقدرة (الإنجاز) في مجالي الرعاية والحماية: مشكل سياسي واقتصادي.
ما معنى مشكل سياسي واقتصادي؟
معناه أن من يتصدرون الفعل السياسي تمثيلا للإرادة والفعل الاقتصادي تمثيلا للقدرة ليس لهم حقيقة الإرادة والقدرة، واتصاف نخبة بصفة غالبة لا يلغي الصفات الاخرى. فما عليه موجود النخبتين السياسية والاقتصادية بالقياس إلى منشودهما لا يقتصر عليهما: أزمة عامة.
صحيح أن المسؤولية الأولى تقع على عاتقهما خاصة إذا أهملا الاعتماد على النخب الاخرى أي العلماء والفنانين وأصحاب الرؤى. لكن التقصير شامل.
ذلك أن بقية النخب أي العلماء والفنانين واصحاب الرؤى إذا كان مسماهم مطابقا لاسمهم لا يمكن أن يسكتوا على سياسي واقتصادي يهمل المنشود الجمعي.
صحيح أنهم ليسوا مسؤولين على السياسة والاقتصاد مباشرة لكنهم كنخب وكمواطنين مسؤولون على وجود مثل هؤلاء المسؤولين المباشرين لهذين الدورين.
فالمسؤولية السياسية والاقتصادية فرض كفاية لكن كون المسؤولين هم أولئك وليس غيرهم أي اختيارهم أو حتى السكوت عنهم مسؤولية الجميع فرض عين.
وهذا هو دور المعارض والناقد. وهو ما أحاول أن أسس له فلسفيا وليس مجرد مناكفات سياسية. فالمعارض سياسي بالقوة والناقد يتجاوزهما بمنطلقه.
ومنطلقه سياسي بالمعنى الأعم الذي يجعل السياسة منتسبة إلى حق عام للمواطن حق مساءلة دور من ينوب الأمة باختيارها لأداء ما هو فرض كفاية منها.
لكن منطلقه ليس سياسيا بهذا المعنى العام فحسب بل هو أيضا من منطلق علمي: أحاسب السياسي والاقتصادي بمعيار الفرق بين موجود الوظيفة ومنشودها.
الموجود دون المنشود والفرق يحدد حرية الإنسان وعمله بالإرادة السياسية وبالقدرة الاقتصادية وبالمعرفة العلمية وبالإبداع الفني أو برؤية الوجود.
وسنطبق هذه المعاني على علاقة العلم بالحياة أو المعرفة بالفنون شرطين مكملين للشرطين الاولين للتمانع بالإرادة السياسية والقدرة الاقتصادية.
فيتبين دور راس الهرم وقمته: الرؤية الوجودية التي تمثل مرجعية الجماعة ورؤيتها لمنزلتها في الأحياز الخارجية وتجسدها في الأحياز الداخلية.