لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشروط الاستئناف
حددنا في الفصول السبعة الاول حول شروط الاستئناف استراتيجية التحرر والبناء الحضاري معايير التقويم والامور التي تحتاج إليه لتشخص الأدواء.
واقتصرنا على إشارات وجيزة حول الوضع المتردي في المجالات التي سيطرت عليها الأمراض التي أجملها ابن خلدون فيما سماه فساد معاني الإنسانية.
فلنذكر مفهوم فساد معاني الإنسانية الناتج عن التربية والحكم العنيفين أي بوجهي السياسة التي هي عنده صورة العمران ففيه تشخيص أولا ننطلق منه.
نشرع في التشخيص باعتماد التقييم على أساسين:
ما تحقق من حقيقة الصفات في أحياز الموصوف الذاتية له.
دوره في تحقيقها في الأحياز الخارجية.
ما القدر من حقيقة الصفة في السياسي والعالم والاقتصادي والفنان وصاحب الرؤى المتوفر فيهم بالترتيب الارادة والعلم والقدرة والحياة والوجود؟
المعلوم أن السياسة ببعدها عند ابن خلدون هي التربية والحكم أي في المجمل ما عرفناه بوظائف الرعاية ووظائف الحماية في كل دولة ذات سيادة حقيقية.
ومعنى ذلك أن ما قدمته في هذه المحاولة إلى حد الآن هو التأسيس النظري للحكم الخلدوني الذي اجمعه في عبارة غريبة في عصره “فساد معاني الإنسانية”.
فهي عبارة تعني المعاني التي بصلاحها يكون الإنسان إنسانا وبفسادها يفقد إنسانيته. وهي جوهر القيم الكونية التي يشترك فيها الإسلام والحداثة.
فلنورد النص:
“ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم 1-سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها 2-ذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل 3-وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط ا لأيدي بالقهر عليه 4-وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا 5-وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعادة في أسفل سافلين”
الأمر المهم في نص ابن خلدون أنه لا يكتفي بالفرد والجماعة نفسيا وخلقيا بل يعدد مجالات التأثير ويصلها بأحياز الفرد وفي علاقته بالخارجي منها.
وابن خلدون لا يكتفي بذلك بل يتكلم على الرعاية والحماية عندما بين أن الفرد يصبح عالة على الغير فيهما ويحدد حصيلة فساد هذه المعاني الخمسة.
فالحصيلة: “وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين”
وهذه الحصيلة هي الدافع الأساسي للبحث الذي نقوم به: فنحن نريد فهم علة كون الفرد والجماعة بهذه الحال التي وصفها ابن خلدون في كل بلاد العرب.
فحالنا هي حال اليهود عندما كانوا مضطهدي العالم كما يصفهم ابن خلدون مبينا أن ذلك ليس صفة عرقية ولا ثقافية بل هو نتيجة تربوية وسياسية.
وفي التعليل الخلدوني أمل كبير: تعليل فساد معاني الإنسانية في الفرد (أسلوب التربية) وفي الجماعة (أسلوب الحكم) بعدي السياسة يحدد طريقة العلاج.
فإذا حددنا ما يحتاج إلى الرعاية وما يحتاج إلى الحماية أمكن القول إن فساد معاني الإنسانية يتعلق بالأحياز في كيان الإنسان وبها في محيطه.
فتكتمل نظرية ابن خلدون على أسس مضمرة في مقدمته لكنها في الحقيقة واردة فيها دون نسقية لأن أفكار المبدع تتدفق بفورات بحاجة إلى الانتظام.
نظرية الصفات المعبرة عن الأحياز في الفرد وتصنيف النخب بحسب غلبة واحدة منها على المنتسبين إليها ونظرية الأحياز تساعدان في تنظيم تشخيصه.
ولنبدأ بالمبدأ العام: كل نخبة تتحدد بغلبة إحدى الصفات الخمس على الفرد المنتسب إليها لكن الغلبة لا تنفي وجود بقية الصفات لأنها من مقوماته.
فهي معاني الإنسانية المقومة لكيان كل فرد وغلبة أحدها المحدد للنخبة يجعل الصفة الغالبة شبه منظور أحيازها الذاتية للعلاقة بالأحياز الخارجية.
فكل فرد تغلب فيه صفة الإرادة يميل للفعل السياسي الذي هو إرادة فرد يعتبر نفسه ممثلا لإرادة الجماعة وهكذا بالنسبة لكل فرد تغلب صفة.
فمن تغلب عليه صفة العلم يمثل علم الجماعة ومن صفة القدرة قدرة الجماعة ومن صفة الحياة حياة الجماعة ومن صفة الوجود رؤى الجماعة: إذن معياران.
وجود الصفة في النخبة وتمثيلها للصفة في الجماعة. ووجود الصفة في النخبة يتعين في أحياز كيانها وتمثيلها للصفة في الجماعة تتعين في أحيازها.
ورأينا أن تحديد أحياز الجماعة أيسر من أحياز الفرد: فهي جغرافيتها وتاريخها وتراثها وثروتها ومرجعيتها. لكن أحياز الكيان الفردي أعسر تحديدا.
فالجغرافيا غير الطبيعية مكان صورته حضارة. والتاريخ غير الطبيعي زمان صورته حضارة. والتصوير هو التراث والثروة وتوحدها المرجعية أو رؤى الوجود.
رؤى الوجود والسياسية المترتبة عليها متعينة في مرجعية الجماعة وإرادتها في تصوير الأحياز أي المكان والزمان لجعلهما جغرافيا وتاريخ حضارة.
ويكون فنون الجماعة وعلومها هما الصورة نفسها التي تحققت في الأحياز مكانا وزمانا لإنتاج تراث الجماعة وثروتها بعمل الذوق غاية والعلم أداة.
والتراث والثروة هما الإنتاج الثقافي والإنتاج الاقتصادي تبدعهما الجماعة لتحقيق شروط الرعاية تكوينا وتموينا والحماية داخليا وخارجيا: الدولة.
والإنتاج مادته الأحياز وصورته الأفعال وهي بعدة الصفات: أفعال الإرادة وأفعال العلم وأفعال القدرة وأفعال الحياة (الذوق) وأفعال الوجود (الرؤى).
والأفعال التي هي ثمرة الصفات هي تعين الأحياز في كيان الفرد جسده الحي مكان وروح زمان يبدآن طبيعيين فيتم تصويرهما ليصبحا حضاريين مثقفين.
وتثقيف البدن والروح (بمعنى التثقيف اللغوي) بالرعاية تكوينا وتموينا. فالجماعة تحل في الفرد ما يستمد من الأحياز الخارجية في كيانه بدنا وروحا.
والأفراد كل في نوع من النخب الخمسة هم الذين بصفاتهم ينقلون الأحياز الخارجية من الطبيعية إلى الحضارية بأعمالهم. فيكون الفرد وسطا بينهما.
فهو يحول ما يستمد من الأحياز الخارجية إلى الأحياز الداخلية فينتج شروط تواصل الحياة بالتوالد وشروط تواصل الحضارة بالإبداع: حامل حياة وحضارة.
لكن ما يضفي المعنى على هذه الوساطة ويعطي للفرد دلالة الخلود فلا يكون مجرد قطعة غيار في آلية الحياة والحضارة هو سر المعادلة الوجودية.
فمن دون ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ من تعال لا يمكن أن يكون الفرد أكثر من مجرد قطعة غيار في مجرى الحياة عضويا وفي مجرى الحضارة رمزيا.
وهذان الماوراء هما قطبا المعادلة: الله والإنسان. وبهما تنقلب دلالة الطبيعة والتاريخ. فهما يتحولان إلى أداتين وبدون القطبين هما غايتان.
فتكون المعادلة مؤلفة من قطبين هما الله والإنسان ومن وسيطين هما الطبيعة والتاريخ ومن قلب هو التواصل بين القطبين مباشرة وبتوسط الوسيطين.
وكل معنى حقيقي للصفات الخمس التي تثمر الافعال الخمسة يستمد من هذين القطبين وما بينهما من علاقة: أساس السياسة تربية وحكما لمعاني الإنسانية.