لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شروط الاستئناف
ظلت ألمانيا إلى حدود منتصف القرن التاسع عشر منقسمة إلى إمارات في وضع لا يختلف عن وضع العرب الحالي إلا بصلاح رجالاتها ونخبها الذين وحدوها.
وقد وحدها بيسمارك بدهائه وخطته التي استفادت من بروسيا ببعدي السياسة تربية وحكما تجاوزت حروب الثورة الفرنسية التي غيرت أوروبا كلها.
فكيف حققت سياسة بيسمارك القوة المادية والروحية. بشروط الرعاية تكوينا وتموينا:
نظام تربية عالية الاختصاص
نظام تنمية اقتصادية اجتماعية
وهو ما مكن ألمانيا باللحاق السريع بالقوى الأوروبية الاخرى التي كانت متقدمة كثيرا على ألمانيا. فهي كانت ما تزال زراعية إلى نهاية القرن التاسع عشر.
ألمانيا البيسماركية هي التي اكتشفت طريقة التسريع في التنمية: ثورة نظام البحث العلمي والنظام الاقتصادي الاجتماعي. وحالهما علة التخلف العربي.
ولو ضربت مثال تونس لوجدت إضافة إلى فساد نظام الحكم فساد نظام التعليم والاقتصاد أي نظام الرعاية بتكوين الإنسان وتموينه ماديا وروحيا.
فمرض تونس ليس الاستبداد والفساد السياسي وحدهما بل الاستبداد والفساد النقابي كذلك. وفي الحقيقة فالداء هو تواطؤ السياسي والنقابي في الرعاية.
فعندما قامت الثورة وتم انتخاب حكومة بحرية وشفافية لم يكن دور النخبة السياسية في الثورة المضادة هو الحاسم بل النخبة النقابية: قتلت الانتاجين.
كانت متغلغلة في التكوين (التربية) والتموين (الثقافة والاقتصاد) حيث كانت مشاركة مع النظام السابق في كل شيء بل ومسيطرة على التربية خاصة.
ولما شعرت أن الثورة بدأت تغير الموازين وتفصل بين السياسي والنقابي قررت إيقاف آليات الإنتاج الاقتصادي والتربية بما لا يتناهى من الإضرابات.
كنت مستشارا لرئيس الحكومة ففهمت أن الإصلاح مستحيل من دون تحرير التربية من سيطرة النقابي على التكويني وما نتج عنها من استبداد وفساد لا يقدر.
ومعنى ذلك أن حلول باسمارك الثورية في التربية وسياسة العلاقة بين الاقتصادي والاجتماعي مستحيلة ما لم تتغير الثقافة النقابية في تونس.
وطبعا فلست غافلا أن ذلك حتى لو حصل لن يجعل تونس مثل المانيا بسبب الحجم: فتونس مثلها ممثل كل الدول العربية محمية لمستعمر يحكمها عملائه.
لكن كل بداية للتغيير تقتضي البدء بمسألة الرعاية: التكوين والتموين وجعل الشباب يدرك شروطهما حتى يعلم أن التقزيم القطري هو علة كوننا محميات.
فكم دون الرعاية التكوينية يستحيل حل مشكل الرعاية التموينية وهما شرط الحماية في كل دولة لأن الحماية شرطها البحث العلمي والقوة الاقتصادية.
وكون البحث العلمي الأساسي والقوة الاقتصادية المؤثرة مشروطين بالتحرر من القزمية وكان هذا التحرر ممتنعا على المحميات يجعل الثورة بداية حتمية.
ولا ثورة من دون شباب واع بترتيب الأمور كما يقتضيها التوالي السببي لذلك كان من الضروري وضع المفهومات والنظريات التي تمكن من تكوين الشباب.
وهذا هو الغرض من هذه المحاولات: فالاطلاع عليها والمواظبة في جهد فهم بنى فرضياتها المنطقية هو بحد ذاته تكوين يغير ثقافة الشباب ليصبح مبدعا.
ذلك أن من خاصيات أسلوب هذه المحاولات المنهجية السقراطية: المتعلم هو الذي يكتشف بنفسه النسيج المنطقي للإشكالات فيصل لحلولها بجهده الشخصي.
والمعلم مجرد دليل يساعد على تبين معالم الطريق بالأسئلة التي يطرحها كلما وصل المتعلم إلى عقدة قد توقفه عن البحث لتشاجن خيوط النسيج النظري.
وإذن الأمر كله يعود إلى تكوين الإنسان (تربويا واجتماعيا) وتموينه ماديا (الاقتصاد) وروحيا (الثقافة) بات العلم بفاعلية الإنسان بداية كل علاج.
والعلم بالإنسان هو الانثروبولوجيا (=نظرية الإنسان) وهي نظرية تنبني عليها كل فلسفة وكل دين تجاوزت الخصوصية الثقافية إلى الكونية الإنسانية.
وبهذا التجاوز إلى الكونية تتفاضل الفلسفات والأديان. والإسلام يمثل الكونية الدينية والفلسفة الإسلامية الكونية الفلسفية. فما دليل التجاوز.
فعنوان مقدمة ابن خلدون “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني”. لم يقل علم العمران المسلم أو العربي بل العمران البشري والاجتماع الإنساني.
وقبله استدرك الفارابي على أرسطو في تصنيف الجماعات: أرسطو يذكر الأسرة والقرية والمدينة. الفارابي يضيف الإنسانية كلها. وهذا تأثير القرآن.
ذلك أن الأديان كانت قومية (المسيحية قومية ولم تتجاوز القومية إلا مع أحد الحواريين في رسائله إلى غير اليهود) أو حتى قبلية (دين اليهودية).
وحتى عندما فتح بولس المسيحية لغير اليهود بخلاف كلام المسيح (بعثت لنعاج إسرائيل الضالة) فقد أبقى الرسل حصرا في اليهود دون سواهم (باسكال).
الإسلام يقول إن كل أمة لها رسول بلسانها (كونية توزيعية) والإسلام رسالة لجميع البشر (كونية نوعية): وهي كونية بداية (الفطرة) وغاية (الإسلام).
ومن ثم فكل ما سنتكلم عليه من مسائل الرعاية والحماية ليس خاصا بحضارة دون حضارة بل هو يتعلق بالكوني في كل حضارة معتبرا الفروق بينها عرضية.
والتفسير الوحيد لضياع هذه المعاني من ثقافة المسلمين منذ الفتنة الكبرى هوما وصفته بتعطيل الدستور القرآني وفرض حالة طوارئ بقوانين استثنائية.
وكان الأمر مفهوما خلال الحروب الاهلية الاربعة التي نتجت عن الفتنة الكبرى أو الانقلاب الدامي على عثمان. لكن الحروب انتهت واستقرت الدولة.
ومحاولة الرجوع الى الدستور لم تدم طويلا وفشلت (عمر بن عبد العزيز) وبناء عليه اسست علوم الملة على لتبرير القوانين الاستثنائية بعكس الدستور.
أعلم أن هذا التوصيف المبني على فلسفة القانون الدستوري وعلاقة الدستور بالقوانين الاستثنائية في حالات الطوارئ لن يرضى به فقهاء السلاطين.
إذا أنهم لو رضوا به لفقدوا وظيفة الوساطة التي تتنافى مع الإسلام: فلا يوجد في الإسلام من يرث النبي فيما لم يدعه: وساطة روحية وسياسية.
فالدستور القرآني حرر الإنسان من الوساطة الروحية (الكنسية) والوساطة السياسية (ولي الامر): علاقة المؤمن الروحية بربه وعلاقته بأمره مباشرة.
نعم السنة ما تزال مؤمنة بذلك في الأقوال لكنها تعمل عكسه في الأفعال. أما الشيعة فصريحة: الوساطتان من الدين: الإمام معصوم والحكم حقه الإلهي.
والفرق في الأقوال يجعل شرعية السلطة الروحية فوق السلطة السياسية (المرشد فوق رئيس الجمهورية) لكن الحقيقية هي أن ما فوقهما هو الحرس الثوري.
لا فرق بين مصر وإيران: كلاهما تحكمهما مافية عسكرية وميليشياوية. أما السعودية فتبدو السلطة للأسرة الحاكمة ودونها سلطة الدين أي عكس إيران.
لكن الحقيقة غير ذلك: توجد لوبيات يحركها الحامي ومن يرضى عنه من الأسرة الحاكمة ولذلك فمن يعين الملك مجهول لأنه دولة عميقة بدأت تتجلى الآن.
فمن اغتال فيصل سابقا ليس شابا مجنونا إذ أصبح مفضوحا بتعيين ولي العهد الأخير وترشيحه للملك ولإسرائيل وأمريكا الدور الأول بتوسط لوبي ليبرالي.
واعتقد أن ذلك سينجح لعلتين: فالنخب الشابة درست في أمريكا وما يعدهم به المترشح بعد حرمان غبي مارسه رجال الدين في أبسط الحقوق يجعله محبوبا.
ومن غرائب الدهر أن آخر بلاد العرب اختلاطا بالغرب ستتغرب أكثر من التي سبقتها إلى الاختلاط بالغرب وذلك لعلتين: الثروة والنموذج الأمريكي.
بلاد المغرب العربي مثلا اختلطت أكثر بالغرب. لكنه كان منحصرا في قلة قليلة والنموذج كان فرنسيا وإيطاليا واسبانيا وليس واحدا عولميا كالخليج
الكتيب
وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها