شروط الاستئناف، استراتيجية التحرر والبناء الحضاري – الفصل التاسع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شروط الاستئناف

في الفصل التاسع من بحثنا في شروط الاستئناف نبدأ بتشخيص داء الزوجين الاولين من قاعدة الهرم: نخبة الإرادة السياسية ونخبة الرؤية الوجودية.

هل النخبة العربية التي تدعي تمثيل الإرادة السياسية في الحكم وفي المعارضة تتصف بالإرادة حقا وبتمثيل إرادة الجماعة فعلا أم هي اسم بلا مسمى؟

قد لا يصدق القارئ أنها لا تتصف بالإرادة ولا تمثل إرادة الجماعة وذلك لأنها تخضع لإرادة من تستمد منه وجودها وبقاءها وممثليه في كل بلد عربي.

فلو كانوا حائزين بحق على صفة الإرادة لما خضعوا لحماية سيد يعتبرهم موظفين عنده إذ هو لا يحمي من كان ذا إرادة غير تابعة والتبعية نفي للإرادة.

وكونهم تابعين لسيد يحميهم فهذا يعني أنهم لا يمثلون إرادة الجماعة وهو يحميهم فوجودهم وبقاؤهم ليس بإرادة الجماعة إذا ما استثنينا عملاءه فيها.

لذلك فلا تصح عليهم صفة الإرادة الذاتية فضلا عن صفة تمثيل الإرادة الجماعية. وهذان النفيان يعنيان أمرين:

  1. لم تتحقق الصفة في أحيازهم الذاتية

  2. والامر الثاني لا تعنيهم رعاية الجماعة ولا حمايتها. ورعاية الجماعة وحمايتها هما عين رعاية الأحياز الخارجية وحمايتها فالسياسي العربي عميل لحاميه.

والعمالة للحامي تعني إطلاق يديه في الاحياز الخارجية (المكان والزمان والتراث والثروة والمرجعية) يفعل بهاما يناسب مصالحه بتوظيف استبداده وفساده.

لكن ذلك قد يعتبر مجدر اتهام مني كناقد غير موضوعي: لذا أقدم المعيار الثاني.

فما معنى دور السياسي في رعاية الجماعة وحمايتها بعلاقته بالأحياز؟

المعيار الثاني هو حقيقة الإرادة: فخاصيتها أنها كسياسية لا محدودة ولا محدوديتها تعني شمول كل المعمورة. الإرادة السياسية توسعية بلا حد.

ومثالها هو السياسة المحمدية: كانت الرسالة تعني أن دولة الإسلام ليس لها حدود. إنها في تمدد متواصل لتشمل المعمورة: دولة رسالة شاملة للإنسانية.

ما يحدها هو إرادة منافسة. ومن ثم فالإرادة صفة غايتها التوسع الدائم وأدتها تحقيق شروط التوسع لأن جغرافية العالم حصيلة توازن قوة الإرادات.

فما يسمي دولة لا يمكن أن تكون محمية إذ هي لسان السيادة وما يسمى سياسي لا يمكن أن يكون عديم الإرادة بحيث يقبل أن يكون طرطورا في محمية.

وبهذا المعنى لا توجد دولة عربية كلها محميات ولا يوجد ساسة عرب كلهم طراطير. المحمية تابعة لدولة وليست دولة والمحمي تابع لسياسي وليس سياسيا.

وما أظنني بحاجة لأكثر من هذا للدلالة على أن الساسة العرب اسم بلا مسمى وأن الدول العربية اسم بلا مسمى. فهي عديمة السيادة وهم عديمو الإرادة.

ولكن لا بد من التنبيه لأمر قد يبدو مكذبا لما أقول: فأحيانا يبدو السياسي العربي وكأنه صاحب إرادة لا تقهر ودولته ليست محمية بل قوة عظمى.

وهذه المظاهر من خدع الاستعمار: فهم يحاربون العرب بعضهم بالبعض فيجعلون أكثرهم تبعية لهم يبدو وكأنه صاحب سيادة بما يسمحون له به من عنتريات.

كذلك فعلوا بالقذافي وبصدام وبناصر إلخ.. من زعماء الأقوال وعدماء الأفعال بدليل الحصيلة: الخراب التام.

مصر اليوم دون مصر الملكية رغم فسادها.

والعراق وليبيا وتونس والجزائر وهلم جرا كلهم بعد ثلاثة أرباع القرن ما يزالون مثل الصومال إذا تجاوزت الفترينة التي يخدعون بها شعوبهم.

ولن يصدق الكثير من القراء أن إيران لا تختلف عمن ذكرنا: عنتريات يحتاج إليها الحامي الذي يريد أن يضفي المصداقية على محميه ليحقق وظيفة يريدها.

فعبد الناصر وصدام والقذافي وبورقيبة وبقية الحكام العرب ومثلهم حكام إيران يؤدون وظيفة في استراتيجية المستعمر نرى الآن نتائجها في حال الأمة.

حرب أهلية عربية بين من يدعون القومية والحداثة ومن يدعون الإسلام والأصالة نصف قرن. فما الحصيلة: أضاعوا القومية والحداثة والإسلام والاصالة.

وتبين الآن أن القومية طائفية وأن الحداثة رذائلها دون فضائلها وأن الإسلام قشوره دون لبه وأن الاصالة تقاليد الجاهلية بغباء قبلي وجهالة بدوية.

وأصبح كاريكاتور الإسلام والأصالة يدعي كاريكاتور العلمانية والحداثة وأصبح كاريكاتور القومية والحداثة يدعي الإسلام والأصالة الطائفيتين.

ولا يجمع بين الصفين إلا انتسابهم للثورة المضادة التي تحارب التأصيل والتحديث المبدعين لأن أصحابهما ثارا على التبعية لشعب حر يريد دولة سيدة.

لكن الثورة التي تعبر عن إرادة الشعب لم تجد قيادات سياسية مدركة لشروط السيادة إذ سرعان ما أصبحوا مثل من قبلهم راضين بنفس المحميات التابعة.

لم يفهموا أن الرضا بالأحياز في شكلها الحالي يجعل كل بلاد العرب بالضرورة محميات: فالمستعمر وطد ما يسمونه بالدولة الوطنية حتى تكون محميات.

والمثال بين في تقسيم سايكس بيكو وفي تفتيت الخليج الذي صارت فيه كل قبيلة دولة اي محمية بريطانية سابقة وأمريكية لاحقا. وقس عليه المغرب الكبير.

ومعنى ذلك أن الثورة هي بدورها من يقودها ليس أهلا لتمثيل إرادة الشعب الذي ثار: يريد الحرية والكرامة وهما مستحيلتان ما ظلت بلادنا مفتتة.

السياسي إذا كان بحق متصفا بالإرادة وممثلا بحق لإرادة الجماعة هو الذي يعلم شروط مطالبها فيسعى لتحقيقها وإلا فهو زائف وعميل وطرطور كسابقيه.

وهكذا يتبين أن المشكل هو في الرؤى الوجودية: فأصحابها (رجال “دين” و”فلاسفة” علمانيين) ليسوا أصحاب رؤى وجودية ولا ممثلين لرؤى الجماعة وقيمها.

من ذلك أن متفلسفة أردنية نشرت مقالا في جريدة الغد بعوان “خداع أبو يعرب” ظنت أن قولي بكونية الإسلام وإرادة حكم العالم ذما. وهو عندي مدح.

فهذه حقيقة كل سياسة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية: ماذا تفعل أمريكا غير هذا؟ وما تنوي الصين غير هذا؟ إلخ.. غباوتها تريها المحميات دولا.

قد يقربها ذلك من الحماة. لكنه لن يجعلها إنسانة حرة بل مجرد عميلة لعملاء ككل من يدعون رأيا فلسفيا أو دينيا لإضفاء الشرعية على الوضع الحالي.

فالتفاف جل رجال الدين وجل المثقفين العلمانيين حول الانقلاب أفضل مثال عن إرجاع مصر إلى عقلية القبول بالتخلي عن الحرية والكرامة لشعب ثار.

فهل يصح أن نسميهم أصحاب رؤى وجودية أي ساعية لتحقيق حرية الإنسان وكرامته؟

طبعا لا. إنهم عين من وصف ابن خلدون بمفهوم “فساد معاني الإنسانية”.

حصيلة هذا الفساد: “وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين”. ليس أسفل منهم.

كل هؤلاء لا يمثلون رؤية وجودية تؤمن بحرية الإنسان وكرامته فتمثل إرادة الشعوب التي ثارت بل هم كـ”الفيلسوفة” الأردنية: عبيد تبعية المحميات.

وإذا صح ما تقوله “الفيلسوفة” على الاخوان من أنهم يريدون حكم العالم فمعنى ذلك أن لهم حقيقة الطموح السياسي الكوني في جميع الأمم وهو مدح لا ذم.

ليس لي انتساب حزبي لا للإخوان ولا لغيرهم. لكن هذا هو معنى الإرادة السياسية في كل الحضارات. أما رايها فمجرد دفاع عن طراطير الثورة المضادة.

والشعب لما ثار طلبا للحرية والكرامة لم يجد بعد في قياداته من يفهم أن الحرية والكرامة ليست ممكنة لما جعلت أحيازه فارضة عليه قزمية المحميات.

ما يسمونه دولا هو قطع مشوهة من جغرافية الامة وتاريخها تلغي شروط التنمية المادية والروحية فتجعل شعوبها عبيدا للطراطير وحماتهم و”فلاسفتهم”.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي