شرط شروط الاستئناف – مستقبل الإنسانية يحدده دور الإسلام الكوني

ه

الفصل الأول

لعل الغرق في الحدث يفسد على المرء عمله الأصلي: فلست معلقا على الاحداث تعليق خبراء الاعلام ونجومه.
ورغم أن احداث تاريخنا الراهن ليست أحداثا عادية وليست أعراضا لأحداث عادية إذ هي تعبر بحق عن مخاض تاريخي كوني صار الإسلام والمسلمون قلب رحاه رغم كونهم منفعلين أكثر مما هم فاعلون فإن الاقتصار عليها لا يناسبني. ذلك أن ما يعنيني قبل كل شيء هو كيف تصبح فاعليتهم التي هي الآن وإن بالقوة محرك التاريخ ببزوغ شروط الاستئناف تنتقل من القوة إلى الفعل.
والانتقال إلى الفعل يقتضي مرحلة غير مباشرة هي التي تحدد شروط فاعلية الإبداع المحقق لشروط التعمير بقيم الاستخلاف.
فالمشاركة في مثل هذه الأحداث التي تبرز دور الأمة الكوني يقتضي الامساك بما وراءها الذي يحدد دلالاتها ومعانيها. ولذلك فالعناية بها ينبغي ألا تحول دوني والخروج من مجراها والعودة إلى ما يعين مرساها فيحدد معناها: وهو هل يمكن الكلام على الاستئناف الكوني لدور الأمة من دون أن نكتشف ما فرطت فيه تفريطا كان علة انحطاطها وامتناع رؤية ما كان يمكن أن يبقيها رائدة؟
أعني من دون أن ندرك علة توقفها عن إبداع ما يعبر عما سماه ابن خلدون معرفا الإنسان بما يحفظ “معاني الإنسانية” فيحول دون فسادها؟
أو بصورة موجبة كيف يبقى الإنسان كما عرفه ابن خلدون مستوحيا مقومات التعريف من مفهومي الفطرة والاستخلاف “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”؟
جواب ذلك هو كيف يسترد الإنسان المسلم ما به دلل الله في القرآن على أهليته للاستخلاف ردا على تشكيك الملائكة فيها أعني القدرة على التسمية: أو وظيفية الترميز. فهذه القدرة قتلها ما حاولت وصفه عند كلامي على تحريف علوم الملة الغائية الخمسة وضمور علوم الآلة الخمسة كما بينت في محاولات سابقة.
والبحث في علل الجمود الذي آل إلى تحريف علوم الملة الغائية بصورة تحول دون تحقيق شروط التعمير وشروط الاستخلاف وإلى ضمور علوم الملة الآلية بصورة تحول دون القدرة على فهم نظام العالمين الطبيعي والتاريخي أو بصورة أدق على تجاوز الصورة الموروثة عن عالم ما قبل نزول القرآن سواء في ثقافته الدينية أو الفلسفية. وإذا كان التعطل الأول نتج عنه عدم فهم تجاوز القرآن لهذا العالم فإن التعطل الحالي لا يختلف عنه كثيرا لأن التعطل الذي كان رمزه الغرق في الصورة الأفلاطونية الأرسطية القائلة بالمطابقة المعرفية والقيمية يماثله التعطل الذي أصبح رمزه الغرق في الصورة الهيجلية الماركسية القائلة بهما وإن بصورة أقل عمقا رغم ما يظن من أن المنطق الجدلي تجاوز المنطق الثنائي.
وهذه محاولة لبيان التجاوز المطلوب شرطا للاستئناف وهو تجاوز شرعت فيه المدرسة النقدية العربية ولم يؤت أكله وتلك علة الانحطاط. ولا يمكن لأمة أن يكون لها دور في التاريخ الكوني ما لم يكن لها دور في اللحظات ذات الدلالة الكونية مثل لحظتنا الحالية: فلا مخرج من العولمة المادية وتحقيق العولمة الجامعة بين التعمير وقيم الاسخلاف وتلك هي رسالة الإسلام.

المنطق، أصله وفروعه الأربعة

قدمت منذ أكثر من عقدين ورقة حول الحكم بمعنييه فعلا معرفيا وفعليا قانونيا (سواء في الشريعة أو في القانون الوضعي). والبحث منشور في مجلة مغربية -مجلة الاحياء (الرابطة المحمدية للعلماء) وقارنت فيه بين ما سميته بمنطق الطرد في العلم وما سميته بمنطق السرد في الأدب.
وكانت المحاولة أولية انتهت إلى أن التجريد في العلم والتعيين في الأدب رغم ما يبدو من تقابلهما يؤديان نفس الوظيفة في الترميز لموضوع القول في الموجود أولاهما في العلم والثانية في الأدب من حيث لقاؤهما في العبارة عن موضوعهما.
فهما يبدوان متقابلين تقابل التجريد والتعيين لكنهما تلتقيان في العبارة عن „الموجود“:
• فمنطق الطرد (وهو الوجه الأول من منطق الوجود ويقابله نقيضه المظنون بديلا وحيدا) يستعمل النفاذ إلى البنى العميقة المجردة التي تمثله للمدارك العقلية غير المباشرة.
• ومنطق السرد (وهو الوجه الأول من منطق المنشود ويقابله بدائله اللامتناهية) يستعمل عرض الجزئيات الدقيقة التي تمثله للمدارك الحسية المباشرة.
فيكون للقول الرامز للموضوع فيهما شيء من ملامسته الدالة عليه في مسعيين كلاهما ينحو إلى الثاني في هذه الملامسة. وكتبت حينها أن ذروة التجريد في القول الطردي تلتقي مع ذروة التعيين في القول السردي. فيكون منطق العلم ومنطق الأدب نوعين من ظهور العلاقة بين الرمز والمرموز في عملية بناء صورة من الموضوع إما للعقل في العلم أو للحواس في الأدب.
لكن الصورة التي تبدو متجهة إلى الحواس بصورة تجعل المسرود وكأنه واقع حي يعيشه متلقي العمل الأدبي تصبح منفذا إلى ما يتجاوزها نحو عوالم لامتناهية في خيال المحسوس حتى إن كل قارئ يمكن أن يعتبر مخرجا سينمائيا لفلم يعرض في مخياله لسيناريو هو العمل الأدبي أو لنقل إن القارئ يصبح رساما لعالم يبدعه من خلال قراءته للأثر.
والصورة التي تبدو متجهة إلى العقل تصبح منفذا إلى ما يتجاوزها نحو عوالم لا متناهية في المعقول المتخيل فيصبح كل عالم يعيش في حيز آخر غير العالم المحسوس ومنه ينطلق نحو إبداع صورة علمية عن العالم.
فتتعدد الصور العلمية لا تبقي على وحدة العالم بل كل واحدة تبدع عالما لكأن العملية شبيهة بتعدد الهندسات ويكون كل عالم مختلفا عن الآخر. لكنها تلتقي إلا في الحيز الرمزي المعبر عن صور العالم التي تنبع من فعل الإخراج العقلي للممكن المتعدد لكأننا عدنا إلى الفاعلية السردية الحرة.
فليتقي الخيالان الترميزيان الأدبي والعلمي في التحرر من وحدانية العالم الذي نتخيله جامعا بين كونه موضوعا للحواس وموضوعا للعقل ويتبخر ما يسمى واقعا لينحل إلى اللامتناهي الذي يجعل الذات شبه ثقب أسود يبتلع كل شيء في استحالة الامساك بالذات وإدراك كنهها وكنه ما تبدعه بمنطق الطرد وبمنطق السرد وهما المنطقان اللذان يمثلان لحمة القرآن وسداه.
واليوم أريد أن أبين أبعادها في الكلام على المنطق عامة باعتباره ذا أصل هو هذه الفاعلية الترميزية لا متناهية الإمكانات وذا فروع أربعة عملا بالمبدأ الذي حددته في وضع نظرية المعادلة الوجودية وباعتباره هو الذي يعبر عن البنى المجردة التي تترجم ما نتخيله من نظام الموضوع الذي يطلب بناء شبكة رمزية مناظرة لما نفترضه شبكة وجودية بين عناصره المقومة:

  1. الفرع الأول هو منطق الطرد وهو المنطق الذي يعتبر مجرى الأمر الذي يحدد قانون مجراه خاضعا للضرورة وللثنائية المنطقية التي وضعها أرسطو والتي تعتمد على المبادئ الثلاثة أعني مبدأ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع: وهو ما كان يظن منطق العلم.
    وحتى ما توهمه هيجل تجاوزا له في المنطق الجدلي فهو نسخة باهتة منه لأنه في النهاية يرفع الثالث مثل ارسطو في الغاية. والامر كله هو في عكس الترتيب: فما يرفعه أرسطو في البداية (وهو مبدأ الهوية) ينتهي هيجل برفعه في الغاية وهو التوليف بعد النفي.
  2. الفرع الثاني هو منطق السرد وهو المنطق اذي يعتبر مجرى الأمر الذي يحدد قانون مدراه خاضعا للحرية والخيارات المتعددة في مجرى أحداث الرواية مثلا وهو ما كان يظن منطق الأدب. وهذا هو الوحيد الذي يتجاوز منطق أرسطو ومنطق هيجل لأنه يتحرر من المبادئ الثلاثة: فالهوية ليست ذات قيام بل هي نقطة لقاء في خيوط شبكة السرد وعدم التناقض لا معنى له لأن الأشياء لا تتقابل زوجيا بل شبكيا بلا حد وأخيرا فلا يوجد ثالث يرفع بل عناصر الشبكة تتحدد عند تشبيكها كما في توازي الاحداث في الرواية.
    وبعد أن قست منطق المقدرات الذهنية الأدبية على نظرية ابن تيمية في ما سماه منطق المقدرات الذهنية الرياضية والمنطقية (وهي التي سميتها هما الطردية في مقابل السردية للمقدرات الذهنية الأدبية) التي يمكن أن تجمع بين الوحدة التي في الأول أي في منطق الطرد والتعدد الذي في الثاني أي في منطق لسرد وضعت منطقين اثنين آخرين:
  3. الفرع الثالث ينتج عن أثر الثاني في الأول بما يجعله وكأنه غايته منطق الضرورة المتعددة أو الطرد المتعدد في المقدرات الذهنية النظرية كما فكر فيها ابن تيمية مع تطويرها بفضل تعدد الهندسات اللااقليدية. فيكاد العلم يصبح سرديا هو بدوره.
  4. الفرع الرابع ينتج عن أثر الأول في الثاني بما يجعله وكأنه غايته منطق الحرية المتحدة في المقدرات الذهنية العملية أو السرد المتحد كما توصلت إليها من خلال القياس على المقدرات الذهنية النظرية ولكن بعكسها سعيا للسرد نحو الطرد بدلا من سعي الطرد للسرد. فيكاد الأدب يصبح طرديا هو بدوره كما في الأديان حيث إن اللاتناهي في المتنوع يرد في النهاية إلى إرادة واحدة هي الخالقة للقصة والآمرة لأبطالها وهي الراوية للقصة وهي أحد أبطالها.
  5. أصل الفروع الأربعة يمكن اكتشافه بفهم هذا التأثير المتبادل بين الأول والثاني -ملاحظة وهو السر الذي يلغي تماما المنطق الجدلي لأنه يتجاوز العلاقة الصراعية بين القطبين فيجعلهما يتفاعلان بصورة تكون البنية الأدنى لكل موجود حقيقي أعني المخمس الناتج عن علاقة الزوجين الاثنين من كل شيء-ولا بد أن يكون لهذه الفروع الأربعة 1 و2 وأثر 1 في 2 وأثر 2 في 1 أصل يعلل الفرعين البسيطين والفرعين المركبين منهما.
    وهو أصل بعيد الغور لم أستطع تعريفه قبل اليوم: إنه النظام الذي يسعى إلى تحقيق التناظر بين الرمز والمرموز غاية مطلوبة دون أن تتحقق وهو موضوع الوسميات (السيميوتكس) الذي ظللت أبحث له عن تعريف إلى أن توصلت اليوم إلى هذه العلاقة التي حومت عليها في الورقة المشارة إليها ولم يكن بوسعي حينها تعريفها لأني لم قد وضعت نظرية المعادلة الوجودية أولا ولم أكن كذلك قد قست على نظرية ابن تيمية في المقدرات الذهنية العلمية نوعا آخر من المقدرات الذهنية هو المقدرات الذهنية الأدبية.
    لكني كنت حينها قد اكتشفت-خلال محاولة قراءة القرآن فلسفيا- ظاهرة عجيبة فيه وهي أن كل حكم ورد فيه يكون مشفوعا في شبه تعليل للحكم بصفتين أو اسمين من أسماء الله مثل “عزيز حليم” أو “سميع عليم” أو “عليم حكيم”. وتساءلت عن ذلك ولم أحر جوابا غير كونها للتعليل.
    والسؤال هو لماذا يقتضي التعليل إن سلمنا به يقتضي الجمع بين الصفتين أو الاسمين؟ فكان الجواب أبعد غورا وله صلة بهذه القضية التي تبين لها علاجها بمجرد أن وضعت النوع الثاني من المقدرات الذهنية وآليتي منطق الطرد ومنطق السرد. كما أن للأمر علاقة بالفعلين المتلازمين في الكلام على دور الله المزدوج دائما فـ”له الخلق والأمر” قضية ذات صلة بالموجود والمنشود وبعلاقة الإنسان بذاته وبما حوله مع العلم بأن الذات وما حولها متحاوطان بمعنى أن الذات جزء عيني من العوالم والعوالم جزء ذهني من الذات والعكس بالعكس بمعنى أن العوالم لو كان لها وعي يجعلها ذات موقف إدراكي من ذاتها ومما فيها ومما هي فيه لأدركت ما يدركه الإنسان ولكن في ترتيب معكوس فيكون هو جزءا من ذهنها وهي عين من الأعيان التي في ذهنه:
    ولما كان الخلق متعلقا بكيان المخلوق الخاضع لضرورة للتقويم وكان الامر متعلقا بفعل المكلف الخاضع لحرية المسؤولية فإن الأمر له صلة بالمنطقين منطق الطرد والضرورة ومنطق السرد والحرية.
    ومن ثم فالخلق من حيث هو موضوع المعرفة العلمية يقتضي النظر والعقد ليس بمنظور المعرفة الدينية فحسب بل وكذلك بمنظور المعرفة الفلسفية. فالعلم بالمنظور الفلسفي مشروط بعقيدتين:
  6. أولاهما تتعلق بوجود الموضوع وقابليته للعلم وهو المضمون العلمي.
  7. والثانية تتعلق بوجود الذات وقدرتها على العلم وهو الشكل العلمي.
    وقد يكون هذا المعتقد مجرد فرضية.
    لكن الإنسان لا يمكن أن يتخلص من الاعتقاد في وجود عالم خارج ذهنه حتى لو طبق كل مستويات الشك لأن وجوده الخارجي الذاتي (بدنه) لا يمكن رده لحضوره في ذهنه فحسب إذ حتى لو كان المحل تصورا ذهنيا لكان مع ذلك تصورا ذهنيا لوجود مغاير للوعي به الذي هو محل هذا التصور الذهني. فيكون للذهن مستويان واحد محل والثاني حال فيه.
    فلو أخذت “عليم حكيم” لوجدت علاقة بين شرط الخلق وهو معنى عليم أي صاحب العلم المحيط وشرط الأمر هو معنى حكيم أي صاحب الحكمة المطلقة. فيكون كل عنصر منهما دالا على عنصر من الموجود. وبذلك يكون الموجود مخمس التكوين ففيه حدان في موضوع الفعل ونظيران في ذات الفاعل:
  8. المخلوقية.
  9. والمأمورية
  10. والخالقية.
  11. والآمرية.
  12. والحصيلة هي الموجود الذي يتجلى في شكلين قيام وجودي وتشكل قيمي.
    ولأضرب أمثلة على أهمية هذه الإضافة:
    • فكل ظاهرة من الظاهرات الطبيعية الكبرى لها مسار خاضع للضرورة في المقياس المعتاد في الفيزياء النيوتونية.
    لكن الفيزياء ما بعد النيوتونية بينت أمرا يجعل ذلك ليس صحيحا مثلا في مجال لامتناهي الصغر ولا متناهي الكبر. فكل واحدة منها تنتهي في الغاية إلى ما يشبه الحلول المتعددة أو التي تبدو جامعة بين متناقضين مثل حركة الضوء هل هي موجية أم ذرية؟
    فلو تصورنا أن ذلك يعني أن الضرورة تنفتح على ما يفيد أنها هي بدورها تتضمن الحرية أو الخيارات المتعددة التي تبدو متناقضة.
    • وكل ظاهرة من الظاهرات الإنسانية الكبرى لها مسار خاضع للحرية في المقياس المعتاد في العلوم الإنسانية المبنية على مفهوم القوة العاقلة عند أرسطو. لكن العلوم الإنسانية ما بعد الخلدونية تبين أمرا يجعل ذلك ليس صحيحا مثلا في مجال التاريخ المديد سواء للظاهرات الصغرى والكبرى ما يعني أنها تنحو إلى ما يقربها من الظاهرات الطبيعية.

الفصل الثاني

تنبيه:

هذه المحاولات التي يكتبها الوالد ليست من جنس تحليله للأحداث بل هي أبعد غورا لأنها تحليل لما ورائها.
والهدف هو فهم معوقات النهوض وتحديد شروط الاستئناف. استأذنته في نشرها في مواقع التواصل حتى تكون مدخلا نظريا لشباب الثورة أو بصورة أدق لمن يمكن منهم أن يقود ذات يوم عودة الأمة إلى دورها التاريخي كما حدث أول مرة: فكل من كان من جند الإسلام في النظر والعمل كانوا من خيرة شباب العرب الذي ذاقوا معاني القرآن.

المنطق، أصله وفروعه الأربعة

في الفصل السابق الذي عالجت فيه أمس مسألة المنطق أصله وفروعه الأربعة وقدمت له بالعلاقة بين الأحداث التي تمثل منعرجا في تاريخ الأمم ذات الدور الكوني بعنوان” شرط شروط الاستئناف مستقبل الإنسانية يحدده دور الإسلام الكوني” لم أتعرض إلى أكبر عاهة جعلت فكر الأمة عاجزا دون تحقيق المهمتين التي يتحدد بهما كيان الإنسان العضوي والروحي-التعمير والاستخلاف-رغم أن البحث كله ليس هو بدوره إلا مقدمة لعلاج أكبر عاهة أصابت فكر الأمة بالشلل.
فهذه العاهة هي التفتت الذي لا يستند إلى وعي نظري حقيقي بما يوحد العناصر التي تنتسب إلى أي مجال من مجالات البحث في علوم الملة الغائية الخمسة والآلية الخمسة. وهذه العاهة هي جوهر اشكالية العلاقة بين الوحدة والتعدد التي بينا في الفصل السابق أنها سر التعدد المنطقي بوصفه نظام الترميز عامة في علاقته ما نفترضه نظام المرموز به إليه في الموجود وفي المنشود.
وهي إشكالية إذا أسيء فهمها تؤدي إلى الوحدة القاتلة بنفي التعدد أو التعدد القاتل بنفي الوحدة لبقائها في إطار المنطق البدائي الذي عالجها في الفكر الأرسطي ودعمها ما جعله صريحا في ما توهمه هيجل وماركس تجاوزا له بما سموه المنطق الجدلي لأن كلا منهما ينتهي إلى نفس النتيجة الأرسطية:
• فهيجل ينتهي إلى التوليفة التي هي نفي للتناقض المزعوم بين الموضوع ونقيضة في مستوى التصورات وأرواح الشعوب في العلاقة بالقيم المعنوية.
• وماركس ينتهي إلى نفس النتيجة في مستوى التصورات وطبقات المجتمع وهي بنحو ما أرواح الشعوب في مستوى العلاقة بالقيم المادية.
وهذه الوحدة بين المنطق الأرسطي والمنطق الذي يزعم متجاوزا له في الجدل الهيجلي أو الماركسي ليست مجرد صدفة بل هي تتأسس على وهم المطابقة بين نظام الرمز الذي نقول به ما نعلم عن الوجود ونظام المرموز الذي هو نظام الأشياء في نظرية ماهياتها. فسواء قلنا بالتعريف الأرسطي أو بالتعريف الهيجلي للماهية استنادا إلى كونها تقال بقضية حملية بالمعنى القديم للقضية الذي يسميه هيجل المعنى الاستريائي نسبة إلى العقل من حيث هو رأي Verstand (موضوعها الذات ومحمولها الجواهر الثواني) أو بالمعنى الحديث الذي وضعه هيجل ويسميه بالمعنى التأملي نسبة إلى العقل من حيث هو نهى Vernunft بخصوص علاقة المحمول بالموضوع في القضية هل هو أعراض لجوهر ثابت هو الموضوع أم هو عين صيرورته بحيث يكون الجوهر الموضوع هو عين صيرورته في أعراضه الذاتية.
وذلك هو الفرق الوحيد بين المنطقين الأرسطي ذي القيمتين والهيجلي ذي القيم الثلاث (1-تاز 2-انتي تاز 3-سنتاز) بتجاوز عدم التناقض والقول بالثالث الموضوع بدل المرفوع.
وفي الحقيقة فأرسطو أيضا يضع الثالث وهو الحد الأوسط في كل استدلال ولا يرفعه إلا في الحدود الماهوية لأن عدم التناقض شرط التقدم في الاستنتاج وهو يعني ثبات الماهية الذي يفاد بثبات التعريف لا أكثر ولا أقل. لكن لا وجود لاستدلال من دون الحد الأوسط (إذ لا بد من ثلاثة حدود الأكبر والأصغر والأوسط) ومن ثم فهو يضعه بعد رفعه. ولذلك فهيجل لم يضف شيئا كل ما في الأمر أنه جعله صريحا.
ولو كان هيجل قد تحرر حقا من منطق أرسطو لما عاد إلى القول بالمطابقة مثله ولما عارض كنط الذي نفاها لأن القول بها يجعل منطق النظام الرمزي ذا بعد وجودي وهو أساس القول بالمطابقة فلا يختلف نظام المرموز عن نظام الرمز إلا إذا صادرنا على المطلوب. فنحن نضع نظاما ترميز لنقول ما نفترض عليه المرموز وكأنه ماهية ثابتة في حين أنه توصيف فرضي ومؤقت دائما.
ولا يمكن أن ندعي التطابق بين النظامين وإلا لكان كافيا أن نتصور نظاما رامزا فنعتبره هو النظام المرموز ونكتفي بالمنطق الصوري أو بما يسميه ابن تيمية بمعنى أعم يشمل الرياضيات كذلك بالمقدرات الذهنية. وبهذا المعنى فالهيجلية نكصت دون ثورة كنط.
لكن الأهم من ذلك كله هو أن الحداثة العربية المزعومة نكصت بنكوص هيجل لما قبل كنط وطبعا لما قبل النقد التيمي فعادت إلى ما كان عليه فكر الأمة في القرون الوسطى بل أكثر تخلفا منه لعدم التمكن منه ومما يمثل فكر أرسطو وفكر هيجل في المسألة المنطقية وعلاقتها بالميتافيزيقا.
وهو من ثم بدون أدنى شك دون فكر ابن تيمية وابن خلدون اللذين ينفيان القول بنظرية المعرفة المطابقة التي نكص إليها هيجل وماركس عودة إلى ما قبل ثورة كنط النقدية التي لم تكتف بالتحرر من القول المطابقة بل جعلت ذلك شرط التمييز بين:

  1. علوم الطبيعة
  2. وعلوم الإنسان
    أو بين تأسيس علوم الطبيعة النظرية على الضرورة وعلوم الإنسان العملية على الحرية بما في ذلك الدين والأخلاق والوسيط بين النوعين عني جميع الفنون الجميلة. وحتى من يزعمون الميل إلى ما بعد الحداثة فهم لم يخرجوا من الحل الهيجلي الماركسي حتى لو تذرعوا بمهارب نيتشة التي يبالغون في ثوريتها وهي في الحقيقة لم تتجاوز هيجل وماركس في شيء:
    • فهي لم تتجاوز هيجل لأنها ترجع إلى “مثلجة” الفلسفة وعودتها إلى ما قبل ارسطو من حيث العلاقة بالميثولوجيا اليونانية وإلى أرسطو من حيث محاولة جعل ذلك منطقا جدليا هو عين الميتافيزيقا الأرسطية في محاولة تأسيس الرؤية المنطقية.
    • وهي لم تتجاوز الماركسية أنها ترجع إلى ترجمة ما وضعه هيجل إلى ما سماه المادية الجدلية والتي ليست إلا ترجمة لرد التأريخ الحضاري إلى التاريخ الطبيعي لأن الصراع الطبقي لا يختلف في شيء عن الصراع بالمعنى الدارويني مطبقا على الإنسان الذي يرد إلى الحيوان وإن كان في مرحلة أرقى لا تختلف عن جعله عضويا من سلالة القرود وحضاريا من مرحل ترقي المادة جدليا.
    أما القول بالسرد الأدبي بدل الطرد العلمي (راجع الفصل السابق المحال عليه في البداية) فلا يعني التحرر من القول بالمطابقة بل هو جعلها أمرا ثابتا لأن نفي وجود أحد طرفي العلاقة بين الرمز والمرموز لا يعني تجاوزها بل هو يعني بلوغ الغاية في القول بها.
    فعندما تنفي أحد حدي العلاقة في التطابق لم تتحرر من القول بالمطابقة بل أطلقتها فجعلت العلم ليس فعل ترميز لموضوع نجهل نظامه الوجودي بل أنت أنكرت أحد أمرين:
  3. إما وجوده تماما.
  4. أو البلوغ إليه.
    فنفي وجوده وراء المعرفة أو القبول بوجوده مع نفي قابليته للعلم موقفان معلومان في المدرسة السفسطائية. لكن السرديات اختارت الأمرين معا فأرجعت المسرود إلى السرد-وهو السفسطة التي تصور أرسطو أن منطقه يخلص منها بما تسلمه في التأسيس الميتافيزيقي لمبادئ العقل واعتبارها عين مبادئ الوجود ثم في الاستثمار المعرفي في التحليلات الأواخر- لكأن كل شيء مقدرات ذهنية ولا علاقة له بغيرها ما دام غيرها قد رد إليها في البداية والغاية.
    لكن مشكل اصحاب السرديات هو أن السرديات هي بدورها موضوع سرد فالسرد الثاني للسرد الأول مختلف عنه ومن ثم فنحن أمام ما بعد اللغة الذي يفترض موضوعا لا يمكن أن يرد نظامه إلى نظام ما بعده. وفي الحقيقة فما بعد الحداثة لا تختلف عن النكوص الهيجلي إلا بكونها أدخلت نفي الموضوع المستقل عن رمزه في رمزه.
    ولما كان العلم بالرمز له رمز مختلف هو ما بعد الرمز فإن العلاقة بين نوعي الترميز لم يلغ في السردية بل إن بنية الموضوع المرموز وإن كان هو بدوره رمزا فهو غيره وهو ذو قيام مستقل عن فعل الترميز الذي يريد إدراك حقيقته والعبارة عنها بنظام ترميز هو ما بعد الترميز في نسبة “علم” ما بعد الطبيعة إلى “علم” الطبيعة. لا مخرج من ثنائية النظامين وفعل أحدهما في الثاني ما يجعل المسألة مربعة فضلا عن الأصل وهو عين إشكالية أصل المنطق وفروعه الذي انطلقنا منه.

مشكل علوم الملة

فرضيتي التي أعمل عليها منذ شروعي في تفسير القرآن الكريم هي أن ما حدث في الحضارة الإسلامية علته الغرق في معضلات المنطق الأرسطي وبدايته الميتافيزيقية وغايته الابستمولوجية أو بصورة أدق عدم التفطن إلى ضرورة البحث في بدايته الميتافيزيقة أو تأسيسه وغايته الابستمولوجية أو استثماره المعرفي.
والمحاولة الوحيدة لتجاوزه صراحة (محاولة ابن تيمية) لم تؤت أكلها بل هي فشلت لأنها لم تفهم وهي ما تزال غير مفهومة لأني لما أسمع المتكلمين في المسألة يتوهمون أنها تتعلق بالمنطق بمعناه في التحليلات الأوائل وليس بأسسه الميتافيزيقية وبثمرته خلال التطبيق على معرفة الوجود في التحليلات الأواخر أدرك أن الباحثين في المسألة مجانبين تماما لما تكلم فيه ابن تيمية ولحقيقة الإشكال الذي عالجه.
ولعل أبرز الأمثلة عن عدم إدراك ذلك ومواصلة الفشل هو كل ما حاوله الجابري في بعث الرشدية متوهما أنها عقلانية وأنها مصالحة بين الدين والفلسفة بالفصل بينهما وأنها تعتمد على البرهان بخلاف غيرها ممن يعتمد على البيان أو العرفان. فكل هذه المفهومات دليل قاطع على عدم الخروج من الإشكالية التي حاول ابن تيمية إبرازها والتي كانت عقول فلاسفتنا في القرون الوسطى ومحاولي بعث فكرهم دون قدرته على تبينها والبحث فيها.
والأخطر من ذلك كله وهو ما يدفعني للبحث في هذه العاهة هو أن علوم الملة الغائية الخمسة استعملت المنطق الأرسطي دون وعي بأساسه الميتافيزيقي وخاصة دون فائدته الجوهرية أعني البحث عن النظام الموحد للمجال الذي يراد استعماله فيه علما آليا. كانوا يستعملونه استعمال من تعلم مكانيك السيارات مثلا بالممارسة ومحاكاة ممارسيه وليس بالنظر والفهم لما يجعله على ما هو عليه بحيث يكون ميكانيك السيارات أو من جنس استعمال المهندسين المدنيين للرياضيات في بناء الجسور أو الطرقات استعمال آلة وليس استعمال من يفهم هذه الآلة فيأخذها أخذ العامي لوصفات الطبع دون روحها العقلية.
ولهذه العلة فالوحيد -رغم أنه لم يكتب في المنطق ولم يبرع في حفظ الأشكال وتفريعها- الوحيد الذي أدرك حقيقة المنطق عامة وليس الأرسطي وحده ودوره هو ابن تيمية. فهو بخلاف ما يتوهم من تكلموا على نقده للمنطق لم يجادل في صحة الأشكال المنطقية الأرسطية ودقتها الرياضية بل بحث في أسسها الميتافيزيقة وفي طبيعة علاقتها بالوجود عندما تنطبق عليه موضوعا للمعرفة ومدى دلالتها على حقيقته من حيث هو موضوع له حقيقة مستقلة عما يفترضه عليها أساس المنطق:

  1. هل يوجد تعليل مقنع لما يفترضه أصحابه من المطابقة بين ما في النظام الرمزي المنطقي وما في النظام الوجودي للموضوع الذي يطبقون عليه النظم المنطقي؟
  2. وهل في هذه الحالة يمكن الزعم بأن المنطق واحد أم هو متعدد بحسب تعدد النظم الوجودية المحتمل لأننا لا نعلم مسبقا إن كان النظام في الموجودات واحد أو متعدد؟
  3. وما علة افتراضنا النظام الوجودي واحدا قياسا على ظننا النظام المنطقي واحدا إذا لم يكن ذلك مصادرة على المطلوب؟
  4. وماذا لو كان ما نتصوره نظاما وجوديا لا يختلف عما وراء النظام اللساني المسمي للأشياء متعدد مثله فنكون نحن الذين نضع حدود الأشياء المسماة بحدود الأسماء المسمية لها ولا يكون العلم إلا من هذا الجنس بمعنى أنه لغات صناعية؟
  5. فيكون المنطق هو علم اللغات الصناعية وما في اللغات الطبيعية من صلة بها إذا قيست بها ويكون الجامع بين المسألتين سؤالا واحدا هو ما طبيعة الترميز وما قوانينه؟
    فتكون حصيلة هذه الأسئلة هي المنطلق الحقيقي نحو علم الوسميات أو علم السيميوتيكس. وطبعا لا يمكن أن أزعم أن المسألة كانت بهذا الوضوح في ذهن ابن تيمية لكن كل العلامات تدل على أنه كان واعيا بأغوارها التي يمكن اعتبارها أبعد حتى مما أحاول بيانه وذلك لعلتين:
  6. لأنه استعمل ذلك كله في ردوده على المتكلمين والفلاسفة
  7. والأهم لأنه جاء إلى نقد المنطق من هذا الباب.
    فقد أدرك ابن تيمية حقيقة المشكل المنطقي إدراكا يجانبه كل الذين “ارتموا” على مسألة “نقد المنطق” عنده وكأنها كشف حتى صارت موضة قل من لم يتكلم فيها مدعيا لنفسه اكتشافها. لكنهم لم يكتشفوا شيئا إذا تصوروا أن نقده هو ما ورد في الكلام على المنطق من حيث هو فن الاستدلال الصوري (التحليلات الأوائل) وحتى من حيث ما هو مشترك في التطبيق المادي (التحليلات الأواخر). فهذه الاعتراضات كلها معلومة ولا ينكرها أحد من مستعمليه فلاسفة كانوا أو متكلمين.
    كل من اعتبر ذلك مهما في النقد التيمي للمنطق الأرسطي وهو فعلا جزء منه لم يدركوا طبيعته. فهو لم يتعرض للتحليلات الأوائل بأدنى نقد مختلف عما هو معتاد إذا القصد مسائل الحد والبرهان. النقد المميز لفكر ابن تيمية ليس هذا بل هو نقده لأسس المنطق الميتافيزيقة ولثمراته المعرفية. وذلك لأن البداية التأسيسية والغاية الاستثمارية للمنطق هي التي تجعل الفلسفي وكأنه نقيض الديني في حين أن القضية في الحالتين واحدة سواء في الفلسفي أو في الديني:
    • إلى أي حد يمكن أن يكون المنطق الأرسطي قادرا على قول الوجود من دون مصادرة على المطلوب: أي التطابق بين نظام الرمز ونظام المرموز؟
    • وإلى أي حد ليست هذه العملية ناتجة عن عدم التمييز بين نظام الأسماء ونظام المسميات ردا للثانية إلى الأولى إذا اعتبرنا كل ترميز لا يتجاوز كونه مواضعة لتسمية شيء بما نعلم عنه من فنرمز له بتناظر بين النظامين؟
    وذلك هو مشكل الرمز والمرموز أو مشكل السيميوتكس: هل ما نعلمه من الشيء يرد إليه الشيء فيكون نظامه عين نظام ما رمزنا إليه به؟ وإليكم النص المركزي في أصل النقد التيمي كله. وهو ليس من كتاب الرد على المنطقيين بل هو من كتاب درء التعارض الذي يجمع بين علمي الكلام والفلسفة في مسألة العلاقة بين ما يسمى نقلا (الدين أو موضوع الإيمان) وعقلا (الفلسفة أو موضوع العلم) ويقبل التعميم على علمي الفقه والتصوف لأن ما به يتوهم الثاني تجاوز الأول في مسألة العلاقة بين القانون الأخلاق من نفس طبيعة ما تدعي الفلسفة تجاوز العلم به الإيمان.

نص ابن تيمية

„وبسبب الغلط فيه (في طبيعة وجود الكلي الذي هو من المقدرات الذهنية) ضل طوائف من الناس حتى في وجود الرب تعالى وجعلوه وجودا مطلقا إما بشرط الإطلاق (أفلاطون وشيعته) وإما بغير شط الإطلاق (أرسطو وشيعته) وكلاهما يمتنع وجوده في الخارج. والمتفلسفة:

  1. منهم من يقول بوجد المطلق بشرط الإطلاق في الخارج كما يذكر عن شيعة أفلاطون القائلين بالمثل الافلاطونية.
  2. ومنهم من يزعم وجود المطلقات في الخارج مقارنة للمعينات وأن الكلي المطلق جزء من المعين الجزئي كما يذكر عمن يذكر عنه من أتباع أرسطو صاحب المنطق.
    وكلا القولين خطأ صريح. فإنا نعلم بالحس وضرورة العقل أن الخارج ليس فيه (إلا) شيء معين مختص لا شركة فيه أصلا (……..) وأمثال ذلك من أغاليطهم اتي تقود من اتبعها إلى الخطأ في الإلهيات حتى يعتقد في الموجود الواجب أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق كما قاله طائفة من الملاحدة أو بشرط سلب الأمور الثبوتية كلها كما قال ابن سينا وأمثاله”.
    وهذا رده على موقف الملاحدة وموقف ابن تيمة وصلا بإشكالية المنطق التي دفعته إلى نقده أصله وثمرته: ” وهذا الكفر المتناقض وأمثاله هو سبب ما اشتهر بين المسلمين أن المنطق يجر إلى الزندقة. وقد يطعن في هذا من لم يفهم حقيقة المنطق وحقيقة لوازمه ويظن أنه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوت حق ولا انتفاءه وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر. وليس الأمر كذلك بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات”. (درء التعارض تحقيق ص. 224-225 محمد رشاد سالم دار الفضيلة 2008). مسألتان إذن وهما ليستا مما يتعلق به كلام الذين ارتموا على الكلام في مسألة نقد ابن تيمية للمنطق لأنها تبدو عديمة الصلة به:
  3. السفسطة في العقليات: نترجمها بلغة دقيقة هي اعتبار منطق الأسماء (الرمز) هو عينه منطق الأشياء المسماة (المرموز) أو رد المرموز إلى الرمز. ومنه تنطلق الفلسفة لأنها تصورت أن الانتقال من اللغة الطبيعية إلى اللغة الصناعية (المنطق) كافيا لجعل المطابقة بين النظام الرمزي الذي نعبر به عن الأشياء مطابقا للنظام الموجودي الذي نفترضه نظام الأشياء. وهذا هو مضمون كتاب الميتافيزيقا الأرسطي الذي يعتبره صاحبه دحضا للسفسطة فإذا به يصبح عند ابن تيمية تأسيسا لسفسطة أعمق هي القول بنظرية المطابقة بين علم الإنسان والوجود وهي علة المقابلة الوهمية بين العلم والإيمان لتصور العلم الإنساني محيطا.
  4. القرمطة في السمعيات: نترجمها بلغة دقيقة هي ما يترتب على المسألة الأولى وهي نفي ما يسميه القرآن الغيب أي ما به يتجاوز الوجود علم الإنسان وهو موضوع الإيمان. ولذلك استعمل ابن تيمية عبارة الكفر في وصفه قول الباطنية وقول ابن سينا في هذا النص. ومن ثم فالمنطلق ليس مجرد أداة إلا إذا عزل عن أساسه بداية (الميتافيزيقا) وفائدته غاية (التحليلات الأواخر).
    وهو ما يعني أن المنطق من حيث هو نظام الترميز ينبغي أن يتعدد بتعدد ضروب تأسيسه بداية (علاقة نظامه بنظام موضوعه) وضروب الاستفادة منه غاية (نظريات المعرفة التي تحصل بواسطته). ونظرية المعرفة تجمع بين البداية التأسيسية والغاية الاستثمارية. وهي تنقسم إلى نوعين:
    قائل بالمطابقة وهو الأصل السفسطائي الذي يؤدي إلى الغاية القرمطية لأنه يضمر القول بالعلم المحيط وينفي وجود مفهوم حد يحول دون المطابقة وهذا المفهوم هو الغيب في الدين وهو محدودية العلم الإنساني في الفلسفة.
    القائل بعدم المطابقة الأصل المتحرر من وهم الإحاطة وهو التحرر من الأصل السفسطائي الذي يؤدي إلى التحرر من الغاية القرمطية فيصبح الدين منفتحا على منطق للترميز المؤسس لإبستمولوجيا أقرب إلى حقيقة المعرفة العلمية.
    وينتج عن ذلك ضرورة وضع نظرية الوسميات التي تحدد طبيعة العلاقة بين النظام الرامز للنظام المرموز فرضيا والأول يمكن اعتباره من جنس المقدرات الذهنية والثاني يمكن اعتباره من المعطيات التجريبية التي تبقى دائما فرضية لأن الاطلاع على المعطيات التجريبية لا متناهية وهي تتطور بتطور أدوات الإدراك ومن ثم فعلوم الآلة جوهرية لأنها من جنسين:
    • جنس علوم الألة الصورية أو الترميز وهي تبدع آلات “لغوية” تعبر عن معان مجردة ونتائجها تبقى فرضية دائما: وتلك هي المقدرات الذهنية.
    • وجنس علوم الألة المادية وهي تبدع آلات “تقنية” تمكن من تقوية المدرك الحسية ونتائجها تبقى فرضية دائما: وتلك هي المعطيات النقلية.
    والتناظر بين النظامين يبقى دائما فرضيا وهو من جنس كل نظام لغوي الذي يمكننا من الكلام على الأشياء انطلاقا مما ندركه منها دون زعم المطابقة المطلقة بينهما. وعدم المطابقة أقرب إلى حقيقة المعرفة التي تصبح بالجوهر مسارا تاريخيا هو التقارب المتدرج بين نوعي المدارك التي نسمي أولاهما عقلية والثانية نقلية ومجموعهما هو العلم.

غاية البحث

ما ننوي فحصه بدقة صارمة في الفصول الموالية هو إذن عاهة العاهات التي تعاني منها علوم الملة العشرة أعني الخمسة الغائية والخمسة الآلية لنبين أنها خالية من النظام الموحد لمجموعات العناصر التي يتألف كل واحد منها والتي تنتظم بها مجموعة العلمين الغائية والآلية:
ففي العلوم الغائية الخمسة أي التفسير وفرعيه النظريين أي الكلام والفلسفة والعمليين أي الفقه والتصوف لا نجد ما يوحد أيا من هذه العلوم ولا مجموعتها غير العادة أو التراكم الفوضوي للكلام فيها بدءا بالمتن الذي يتم منه الانطلاق سواء كان مدونا أو شفويا.
وفي العلوم الأداتية الخمسة أي الوسميات وفرعيها النظريين أي المنطق والرياضيات وفرعيها العمليين أي اللغة والتاريخ لا نجد كذلك ما يوحد أيا من هذه العلوم ولا مجموعتها إلا ما نجده في العلوم الغائية.
وما أعنيه بالأصل الموحد لأي علم ثم للمجموعة التي عناصرها هذه الأصناف الفرعية مع أصلها الذي سميته هو موضوعي اليوم وهو ما سأضرب عنه بعض الأمثلة تمهيدا لعلاج مفهوم الأصل الموحد لأي علم ولأي مجموعة من العلوم من طبيعة واحدة وأعني هنا الجنسين أي الغائي والآلي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي