لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشرط الاستئناف أو التحرر من علل الانحطاط والتبعية
أعود إلى محاولة “شرط الاستئناف أو التحرر من علل الانحطاط والتبعية” بعد علاج مسألتين عاجلتين اضطررت إليه واحدة من الأحداث الراهنة (الهجوم على عملة تركيا) والثانية ذات صلة مباشرة بالمحاولة ولكن اردت فصلها لأنها تصل بين شروط التحرر من علل الانحطاط والتبيعة وتحريف القرآن. خصصت الفصل الخامس منها إلى الرؤية الإسلامية التي حرفت تحريفا حال دون علوم الملة الغائية وعلاج شرطي التعمير والاستخلاف لتحقيق مهمتي الإنسان في الوجود كما تعرف الرؤية الإنسان وتحدد وجوده في الدنيا فرصة ثانية يختبر فيها من حيث الاهلية للاستخلاف بتعمير الأرض بقيمه. فأجلت بذلك الكلام في علاج العلاقيتين حتى أتحرر مما قد يظن قولا بالإعجاز العلمي في كلامي عليهما في حين أن الأمر لا يتعلق بعلم مستمد من القرآن بل برؤية يمكن أن ينتج عنها علوم تتأسس على تلك الرؤية. ما في القرآن رؤية لعلاقة الإنسان بالعالم وليس علوما محددة به. تأويلات الإعجاز تحكمية. وأجدني مرة ثانية مضطرا لتأجيله لشعوري بعدم إيفاء مسألة المحل الذي يكون فيه الإنسان موجودا خلال علاجه مسائل النظر والعقد ومسائل العمل والشرع والشعور بأنه خارج الطبيعة والتاريخ ومتحرر من المكان والزمان حقها فبقيت معلقة وحسمها ضروري للكلام في علاج العلاقتين بمنطق الرؤية القرآنية. والتأجيلان لا يعنيان أن البحث لم يتقدم بل بالعكس فتقدمه هو الذي أوحى بضرورة هذين التأجيلين لكونهما يستكملان شروط العلاج السوي لإشكالية العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة أو إشكالية علوم الطبيعة خاصة وإشكالية العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ أو إشكالية علوم الإنسان خاصة. فبيان طبيعة ما في القرآن بخصوصهما بوصفه رؤية وجودية للعالم ومنزلة الإنسان فيه وما يترتب عليها من إشارات حول شروط قيامه ومقامه فيه وطبيعة دوره شرط ضروري وكاف لنفهم أن ما سأقوله عن نوعي العلوم ليست طلبا للإعجاز العلمي. فليس في القرآن قوانين صيغت صوغا فنيا لمعنى القانون. ذلك أن القوانين العلمية لا تستعمل اللغة الطبيعية وكل محاولات تأويل لغة القرآن الطبيعية بافتعال ترجمتها إلى لغة علمية مطلق التحكم ولا يختلف عن التحكم الباطني في محاولة تأويلها لغرض التوظيف الذي سخر منه الغزالي في الفضائح بل هو أبشع منه لأنه يزعم العلمية ولا يكتفي بالمذهبية. وهو ليس أبشع فحسب لأن الباطنية تدعي أن تأويلها هو إظهار الباطن وراء الظاهر وتعتبر هذا الباطن هو العلم الفلسفي الحقيقي -وهي عقيدة يشترك فيها كل المتكلمين والفلاسفة الذين يرون رد ما يسمونه نقلا إلى ما يسمونه عقلا-بل هو أخطر لأنه يلغي كل إمكانية لعلاج العلاقتين بالعلم والعمل. وخطره يتمثل بالذات في الجواب الفاسد عن سؤالنا: فهذا النوع من التأويل للغة القرآن الطبيعية إلى لغة يزعمونها علمية ومغنية عن طلب المعرفة العلمية من معينها يخلق عالما زائفا يحل فيه الإنسان متوهما أنه عين العالم الذي يحل فيه من يطلب المعرفة العلمية والعمل المطبق لها لعلاج العلاقتين. ويمكن تعريف هذا المحل البديل من المحل الذي نطلب تحديده لفهم شروط علاج العلاقتين العمودية والأفقية بأنه محل الفكر السحري الذي يعتقد أن التعامل مع ما يحيل إليه الرمز يكفي فيه التعامل مع الرمز: فيكون علاج ما يحيل عليه الكلام مثلا يكفي فيه علاج الكلام لكأن المسمى قانونه قانون الاسم. وهذا هو منطق السحر حيث يتصور الساحر أن التعاويذ والبخور يمكن أن تغير الاشياء وأن غرز الإبر في الدمى المشابهة للشخص المستهدف بالسحر له مفعول في الشخص المستهدف أو كما في العلوم الزائفة التي نقدها ابن خلدون حساب الجمل يمكن أن يكون علما رياضيا بالشخص في التنجيم مثلا. والحصيلة ثرثرة وأكداس من الكتب التي ليس فيها إلى كلام لا أثر له في العلاقتين بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين التاريخ. وبهذه الطريقة يدنسون القرآن ويفسدون رؤيته للوجود ومنزلة الإنسان فيه. فلا علاقة مثلا لحساب الجمل والأعداد إلا علاقة ترميز وتشفير لكتابة الأعداد بالحروف لا غير. وكل ما كان يسمى علم الحروف تخريف في تخريف ومثله التنجيم إذ حسبان اسم ام الشخص بحساب الجمل لا علاقة له بمصيره لأن اسم أمه من صدف التسمية في اسرته وعلاقة الحروف بالأرقام من تحكم كتابتها وكل ما يبنى عليها من جفر وكلام على المستقبل من بدائية الفكر وسطحيته وليس علما أصلا. وكل كلام على الإعجاز العددي في القرآن إذا تجاوز الكلام على بنية النص وما فيه من نظام يقبل الوصف الرياضي ككل عمل وراءه ناظم عقلي لا معنى له ولا علاقة له بالطبيعة والتاريخ ومن ثم فلا يعتد به في تفسير وقائع الطبيعة وأحداث التاريخ. وفيه مع ذلك حط من شأن القرآن وليس رفع أبدا. ولست غافلا على أن القوانين العلمية بعد أن تكتشف بلغتها الخاصة تقبل الترجمة إلى لغة طبيعية ككل شيء قابل للشرح باللسان الطبيعي شرطا في التعليم مثلا لكن العكس ممتنع. أعني أني لا أستطيع أن استنتج من كلام طبيعي غير مسبوق باكتشاف علمي يمكن أن يكون مصدرا للاكتشاف العلمي. وذلك لعلتين: 1. اللغة العلمية رياضية وليست طبيعية وهي لا تصبح علمية لمجرد كونها لغة بل لا بد من أن تستمد منها فرضيات علمية لا تصبح معتبرة قوانين إلا إذا أيدتها التجارب بمنطق حساب الاحتمال شديد الرجوح بمعنى أن أنها صمدت أمام محاولات تكذيبها التجريبي وتظل صالحة إلى أن يتم تجاوزها ثم وهذه هي العلة الأهم: 2. لغة العلم دلالية وليست معنوية ولهذا ضاعفت أبعاد دراسة اللسان الثلاثة اضفت المعنوي للدلالي والبلاغي للسنتاكسي وميزت بين التداولي في اللسان الطبيعي والتداولي في اللسان العلمي. ما يعني أن العلم دلالي وسانتاكسي وتداولي في اللسان العلمي حصرا. فعندما يحاول القائلون بالإعجاز العلمي غصب النصوص لاستخراج دلالة علمية لما يتجاوز الدلالة العلمية لأنه معنوي ولأن المعنوي أوسع من الدلالي فهو يضيق أفق الرؤية متوهما بذلك أنه يثبت قيمة مضافة للقرآن ولا يدري أنه يفقره فيلقي انفتاح أفقه بحصره في أفق ضيق هو أفق الدلالة حصرا. وأفق الدلالة لا يخرج من العالم الطبيعي والتاريخي ولذلك فعلوم الملة بهذا المعنى لا يكون فيها الفكر خارج عالم الطبيعة والتاريخ وذلك لعلتين أيضا: 1-فهم يعتبرون الوصول إلى الحقيقة ممكن بمحاكاة الموجود كما تدركه الحواس العادية 2-وهم يفهمون الرؤية القرآنية برد المتعالي إلى المتداني. ورد المتعالي إلى المتداني نوعان: إما الرد الحشوي أو الرد التعطيلي في الكلام على الله ذاتا وصفات على سبيل المثال. ذلك أن الرد الموجب هو قيس المتعالي على المتداني والرد السالب هو تعريف المتعالي بنفي المتداني فلا يبقى إلى العدم. وإذن فكلاهما يرد الوجود إلى الإدراك إيجابا أو سلبا. في الحالتين لا وجود لعالم آخر غير العالم الطبيعي والعالم التاريخي لأن ما وراءهما يقاس عليهما فيعدم إما برده إلى الطبيعة والتاريخ في الرؤية الحشوية أو بنفي هذا الرد بدعوى التنزيه في الكلام على الله مثلا فلا يبقى خارج العالمين إلا العدم الحاصل من النفي الذي هو جوهر الفكر الباطني. وإذن فالفكر الذي بنى علوم الملة الخمسة ليس له غير العلم الزائف الذي يتوهم أن أمرين: العلم محاكاة للموجود كما يتجلى للإدراك الغفل واللغة الطبيعية قابلة لأن تمكن من علاج العلاقتين العمودية والافقية. وهو في ا لحالة الأولى ذو رؤية سحرية بالتعاويذ وفي الثانية ذو رؤية دعوية بالوعظ. إلى حد الآن لم أتجاوز التعريف السلبي للمحل الذي نبحث عنه: نعلم الآن أنه ليس هذا المحل الزائف الذي يعتقد أنه العودة إلى العالم الطبيعي والتاريخي بتأويل الكلام الطبيعي ومن ثم فالفكر لا يخرج منهما بل هو يبقى حبيسا فيهما حتى لو توهم أنه يتكلم إلى أسمى الموجودات موضوعا للدين مثلا. وهذا المحل الذي لم يخرج من العالم الطبيعي والتاريخي إلى وهميا لا ينتج علما وعملا يعالجان العلاقتين بل ينتج سلطة لأصحابه على الأذهان رغم عجزه في كل سلطان على الأعيان وهو ما يحوجه إلى العنف الذي هو سلطان على الأبدان: الجهل بالقوانين والسنن يعوض لطف العلم بعنف الجهل. والحصيلة مما أسلفت هي أن ما نبحث عنه محلا يقيم فيه الفكر عندما يبحث في قوانين الطبيعة وسنن التاريخ فيصبح فوق العالمين هو المحل الذي عرفه القرآن بأن جعل الإنسان مريدا وعالما وقادرا وحيا وموجودا وهذه المقومات هي التي يكون الغوص فيها مقفزا وجوديا لعالم الإبداع الرمزي الفاعل. وكما سبق أن بينت فعالم الإبداع الرمزي الفاعل نوعان: الاول وهو الأعم هو عالم الإبداع الرمزي الفاعل في عالم المعاني التي لا يكون فيها الموجود ذا قيام خارجي سابق عن علمه بل علمه هو الذي “يخلقه”. والثاني وهو الاخص وهو عالم الإبداع الرمزي الفاعل في عالم الدلالات وفيها الموجود سابق. وكلا النوعين مضاعف: فالنوع الأول يتعلق خاصة بأداة علوم الطبيعة وهو الرياضيات الأسمى التي تبدع علمها وموضوعه وكلاهما بلغة ابن تيمية مقدرات ذهنية. والنوع الثاني يتعلق خاصة بأداة علوم الإنسان وهو الأباديع الأدبية الأسمى التي تبدع علمها وموضوعها. ولكل من هذين النوعين تطبيق: فتطبيق الرياضيات هو معنى كونها أداة علوم الطبيعة. وتطبيق الأباديع الأدبية هو معنى كونها أداة علوم التاريخ (أو الإنسان). لكن الطبيعة والتاريخ في ذاتهما لا يعلمهما إلا الله: ومعنى ذلك أن ما نعلمه منهما هو ما يناسب حاجتيها المادية والروحية بأداتينا هذين. العالم الذي يحل فيه الإنسان في العلم والعمل على علم هو عالم الرموز الفاعلة وهي التي وصفنا أعني الإبداعات الرياضية والأدبية التي تخلق هذا العالم المشروط في الولوج لعالم الطبيعة ولعالم التاريخ وهما كامنان في الإنسان الخليفة بوصفه متعاليا يقبل التحييث في علاقة مع أصل التعالي الله. فالإنسان بكيانه العضوي محله الطبيعة والتاريخ وهو مشدود بقيود المكان والزمان. لكن كيانه العضوي في آن يشعر بان الطبيعة والتاريخ والمكان والزمان كلها قائمة في كيانه الروحي. فنحن اليوم 7 مليار إنسان. لكن كل واحد من هؤلاء له في كيانه 7 مليار تصور للعالمين الطبيعي والتاريخي. ويمكنه مضاعفة هذه العوالم بلا حد. لكنه عنده قدرة على إبداع عالمين يمكنانه من السلطان على هذا الخلق اللامتناهي الخيالي بصورة تجعله يميز بين الممكن المطلق والممكن الحاصل. والممكن الحاصل هو الطبيعة والتاريخ والممكن المطلق هو ما لا يقدر عليه وينسبه إلى مثاله الأعلى الله. لكن النوعين من الإبداع الأسمى للموضوع وعلمه (الرياضيات) أو للموضوع وعمله (الأخلاقيات) متفاعلان. فلا يمكن تخيل الفنون من دون الرياضيات وخاصة أساس كل الفنون أعني رضيات المكان والشكل (الرسم والنحت) ورياضيات الزمان والصوت (الموسيقى والشعر) ولا يمكن تخيل ذلك من دون الأخلاقيات. والأخلاقيات المبدعة للقيم وعملها غير الاخلاق بالمعنى العادي. إنها المقومات وقيمها أعني الإرادة وقيمتاها الحرية والعبودية والعلم وقيمتاه الحق والباطل والقدرة وقيمتاها الخير والشر والحياة وقيمتاها الجمال والقبح والوجود وقيمتاه الجليل والذليل. وهذه رياضيات العمل وتلك أخلاقيات النظر.