شرط الاستئناف أو التحرر من علل الانحطاط والتبعية – الفصل السابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله شرط الاستئناف أو التحرر من علل الانحطاط والتبعية

وصلنا الآن إلى لغز الألغاز وسر الأسرار: كيف يمكن لهذين الابداعين اللذين يبدعان الموضوع وعلمه (الرياضيات العالية) أو الموضوع وعمله (الأخلاقيات العالية) أن يحصلا لو افترضنا الإنسان حبيس الطبيعة والتاريخ وليس له جناحان يسبحان في فضاء متحرر من المكان والزمان وذو سلطان عليهما؟ وكيف يمكن لمثل هذه القدرة التي تحصل للإنسان بفضل الإبداعين خلال تطبيقهما على الطبيعة وعلى التاريخ أن تكون في آن مصدرا للخير كله وللشر كله؟ لأن ذلك كذلك قلت إن الأمر يتعلق بلغز الالغاز وسر الاسرار. وسأنطلق من مثال الكل يمارسه في حياته يوميا وقد خصصت لهما عديد المحاولات سابقا. تكلمت كثيرا عما سميته رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة). كل أخيار العالم وكل شروره منهما. فالعلمة المزيفة والكلمة الكاذبة هما مصدر كل الشرور في العلاقتين العمودية والأفقية لما فهما من سلطان في التبادل والتواصل يمكن أن ينقلب فيصبح سلطانا على المتبادلين والمتواصلين. فالعملة والكلمة عندما تصبحان ذاتي سلطان على المتبادلين وعلى المتواصلين تكونان ما رمز إليه القرآن الكريم بمعدن العجل وخواره. فالعلمة الزائفة هي انتقالها من تعبير عن قيمة حقيقية إلى تعبير عن قيمة مزيفة هي ما يترتب على استعمالها للسلطان على الإنسان لتصبح أداة ربوية. وهي عندئذ مثل العلم عندما يصبح أداة شر بدل من أن يكون أداة خير. فالطب يكون أداة خير إذا يعالج المرض وهو أداة شر عندما يسمم الإنسان وكذلك العملة تكون أداة خير عندما تيسر التبادل كما سنرى وهي أداة شر عندما تصبح سلطانا لأصحابها على منتجي ما يتم تبادله بضاعة كان أو خدمة. والكلمة الصادقة شرط التواصل لكن الكلمة الكاذبة ليس هدفها التواصل بل الخداع. وكل من يفهم بعض الفهم في السياسة يعلم أن ما يدنسها هو اعتقاد الكثير من الساسة أن الخداع من شروط الدهاء السياسي. لكنهم يكذبون لأن ذلك من شروط السلطان على المسوسين وليس من شروط خدمتهم التي هي جوهرها. عندما تصبح السياسة مشروطة بالخداع في التواصل فهي تكون قد تغيرت من سياسة تخدم الجماعة إلى سياسة تستخدم الجماعة. وإذا اجتمع تحريف العملة من أداة للتبادل إلى سلطان على المتبادلين وتحريف الكلمة من أداة للتواصل إلى سلطان على المتواصلين تنتل التربية والحكم إلى مرجعية دين العجل. ولن أعتب على أي قارئ يعسر عليه متابعة هذه الحقائق اللطيفة في ما لهذا العالم الجديد الذي يمكن الإنسان من الطفو من عالم الطبيعة وعالم التاريخ إلى ما منطلقه يمكنه أن يكون الذات الفاعلة للخير والشر بحسب خياراته الحرة لاستعمال ما يستمده منهما من فاعلية بها تقاس خيريته وشريته وأهليته. فهما ما سميته التجهيز الذي جهز به الإنسان فطريا ليكون قادرا على تحقيق مهمتيه مستعمرا في الأرض (أي مكلف بتعميرها) ومستخلفا فيها (أي مكلفا بجعل التعمير خاضعا للقيم التي ذكرت) مع تركه حرا في اختيار التعمير بها فيكون تعميرا بحق أو بدونها فيكون تدميرا بحق فعير أهليته يوم الدين. وهذا ما يحصل فعلا وما يترتب على الرؤية القرآنية. والقرآن لا يكتفي بالتذكير بذلك بل هو يجعل التجربة شاهدة عليه في عرضه التاريخي لمسار الإنسانية المادي والروحي خلال نقد التحريفات بقانون التصديق والهيمنة وما من أحد يرى ما يحصل للإنسانية حاليا من تدمير يمكنه أن يشكك في ذلك. لكني لا أريد اليوم أن أتكلم على التحريف عامة وتحريف وظيفة العملة والكلمة بل اريد أن اقتصر على الدور الموجب للإبداعين الضروري للعلم(الرياضيات)والضروري للعمل (الأخلاقيات) بوصف تطبيقهما على الطبيعية والتاريخ شرطين في العلم لعلاج العلاقة العمودية والتبادل والعلاقة الأفقية والتواصل. فلا أحد يمكنه أن يشكك في أن الإنسان من حيث هو إنسان مجهز بالقدرة على النظر والعقد وهو لا يمكن أن يعيش بدونهما ولا يمكن أيضا ألا يكون مجهزا بهما وطبعا فوجودهما الفطري ليس كافيا بل لا بد من تربية تنميهما وقد تقتلهما. وفساد النظر في الغالب وقصور صاحبه علة لفساد العقد والعكس بالعكس. ولا أحد يمكنه أن يشكك في أن الإنسان من حيث هو إنسان مجهز بالقدرة على العمل والشرع ولا يمكن أن يعيش بدونهما ولا يمكن أيضا الا يكون مجهزا بهما وطبعا فوجودهما الفطري ليس كافيا بل لا بد من حكم ينميهما وقد يقتلهما وفساد العمل في الغالب وقصور صاحبه علة فساد العمل والعكس بالعكس. وما يفسد العمل والشرع هو الوصاية في الحكم لأن صاحب السلطة يقتل ما في فطرة المواطن ويفرض عليه ما في فطرته وهو عين الطغيان حتى لو كانت فطرة الحاكم سوية وهي لا يمكن أن تكون سوية بعد أن أصحبت تطلب السلطان على بدن بدلا من تحريره من كل عوائق العمل الذاتي بمقتضى فطرته. وإذن فالوسطاء يقتلون الإنسان بالسلطان على غذاء ذهنه والأوصياء يقتلونه بالسلطان على غذاء بدنه فيصبح عبدا لما يفرضه عليه الوسيط لاستعاد روحه وعبدا لما يفرضه عليه الوصي لاستعباد روحه. وذلك هو العنف الذي يملح إليه ابن خلدون بوصفه علة فساد معاني الإنسانية في الفرد وفي الجماعة. وبذلك يغرق الجميع في الطبيعة وفي التاريخ لأن التربية بالوسيط تقطع جناح الإبداع العلمي والعملي والحكم بالوصاية يلغي ما استطاع منهما التحرر من سلطان الوسيط بسلطان الوصي أي بقوة الحكم التي تسيطر على الأرواح التي نجت من السيطرة على الارواح بالسيطرة على الابدان. وبذلك تنحط الأمم: فإذا فقد الفرد حريته الروحية بسبب سلطان الوسيط حريته السياسية بسبب سلطان الوصي وهما طغيانان يمثلان بعدي دين العجل يفقد الإنسان القدرة على الطفو فوق الموجود ولا يبقى له من منشود إلا تقليد الموجود سواء في رؤية الوسيط أو في إرادة الوصي. والسر يحدده مفهومان تميز بهما الرؤية القرآنية بين ما صار يسمى اصطلاحا بفرض العين وفرض الكفاية. فليس من شك أن كل الجماعات البشرية بحاجة للتعاون وتقسيم العمل سواء كان في ما يعالج بالنظر والعقد أو في ما يعالج بالعمل والشرع ومن ثم يأتي التبادل بين البشر لثمرات العلاجين المقسومين. قسمة العمل تعني أن كل واحد من المتفرغين لعمل معين هو في الحقيقة نائب عن الجماعة كلها في القيام بسد تلك الحاجة المشتركة بينهم فيكون فرض الكفاية نيابة عن فرض العين في كل عمل تفرغ له من يقوم به نيابة عن البقية. وهذه النيابة هي التي تستمد منها قيم النيابات بمقارنة بعضها ببعضها. فتتراتب هذه النيابات بما قدر لها من قيمة في هذا الدور الذي يتعلق بسد الحاجات المادية والحاجات الروحية التي لا تسد إلا بهذا الحل المعتمد على تقسيم العلم وتوزيع ثمراته. وتلك هي علة اختراع العملة لتيسير التبادل بسبب ما في التقايض من شبه استحالة التطابق بين المنتجات والحاجات فيه. وبذلك تصبح العملة شبه رمز مطلق لقيم كل ما يسد الحاجات المادية والروحية لأن قيم الأشياء تعير بها ثم بتلك القيم التي يرمز إليها بها يمكن لصاحبها أن يحصل على ما يسد حاجته دون أن يكون مضطرا للمبادلة مع من ينتظر منه بضاعة تسد حاجته ليبادله ببضاعة تسد حاجته مقايضة وهي وضعيات نادرة. وكل ما قلناه عن التبادل يقال مثله عن التواصل فيصح على الكلمة ما يصح على العملة. لكن الآن الأمر لا يتعلق بتبادل الأمور المادية (بضائع وخدمات) بل بتواصل حولها (قيم الأشياء حتى بالمعنى الاقتصادي موضوع تواصل) وحول الأمور المعنوية الخالصة وخاصة أمور النظر والعقد وبالعمل والشرع. مدار الإشكالية كله هو في “النيابة” وما يترتب عليها أو في “التمثيل” وما يترتب عليه. فالعملة رمز “ممثل” أو “نائب” عن القيم التي لثمرات العمل المقسوم في الجماعة بمنطق نيابة فرض الكفاية لفرض العين إذ لولا حل النيابة لكان على كل إنسان أن يقوم بكل ما يقوم به المجتمع حتى يسد كل حاجاته. ولما كانت حاجاته المادية تسد بالعملة نائبة عن كل ما يسدها من ثمرات الإنتاج المادي (الاقتصاد) التي تنتجها الجماعة بفضل تقسيم العمل وكانت حاجاته الروحية تسد بالكلمة نائبة عن كل ما يسدها من ثمرات الإنتاج الروحي (الثقافة) التي تنتجها الجماعة كذلك فالعملة والكلمة هما أداتا كل سلطان. فإذا صارت العملة بيد سلطان وصي وصارت الكلمة بيد سلطان وسيط فقدت الجماعة سلطانها على ذاتها لأن ما كان أداة للتبادل صار سلطانا لمن هي بيده على المتبادلين وما كان أداة للتواصل صار سلطانا لمن هي بيده على المتواصلين. وذانك هما سلطان بعدي العجل. ولا نتحرر منه إلا بفهم هذه العلاقات. ولست مستغربا علة التحريف في فهم الرؤية القرآنية لأن كلام الله مثلا على الربا الذي هو جوهر سلطان العملة -انظروا الحرب على تركيا حاليا بمحاولة أصحاب السلطان الربوي والمضاربي بالعملة ضرب أداة التبادل فيها-والذهاب إلى حد قول الله إنه يحاربه بنفسه دلالة على خطره الاجتماعي. ونفس الأمر بالنسبة إلى الكلمة. فسلطان أصحابها يجعلها أداة الخداع الأولى بواسطة الاعلام الكاذب والملاهي المذهلة للعقل والفهم. وهي أيضا من أدوات الحرب على تركيا مثلا. فجل صحف أوروبا صارت تدعي أن حكم تركيا دكتاتوري ويعتبرون حكم بلحة العميل لناتن ياهو ديموقراطي. وما قاله القرآن في الوظيفة الربوية للعملة عندما تنتقل من أداة تبادل إلى سلطان على المتبادلين يقال ما يضاهيه قسوة في الوظيفة التضليلية للكلمة عندما تنتقل من أداة تواصل إلى سلطان على المتواصلين: كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. المقت أشد من الحرب معنويا لأنه من دوافعها. والحمد لله فقد أنجزت ما وعدت فأجبت عن الأسئلة التي بقيت معلقة وعلي أن أمر بعد هذا الفصل إلى الكلام في ما يترتب على الرؤية القرآنية من علاج للعلاقتين العمودية بين الإنسان والطبيعة والافقية بين الإنسان والتاريخ وشروط حصولهما بصورة تجمع بين التعمير والاستخلاف.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي