لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهشرط الاستئناف أو التحرر من علل الانحطاط والتبعية
ما كان يمكن أن يصدر عن الرؤية القرآنية لو لم تحرف التحريف الذي درسناه في علوم الملة الغائية الخمسة (لم نتكلم في علوم الآلة) يمكن أن يعد تخيلات لو لم نجد بذوره في أعمال ثلاثة سميناهم أصحاب المدرسة النقدية: الأول ساءل الفلسفة عامة والثاني الابستمولوجيا والثالث الأكسيولوجيا. فلست أتكلم على الغزالي وابن تيمية وابن خلدون معتبرا إياهم حققوا المطلوب أو أعود إليهم بوصفهم غايته إنما هم كانوا بدايته وهي بداية تشبه الوضع قبل الأجل فلم يخرج تثمر مولودا شديد القوى قابل لأن يغير التاريخ الفكري للأمة وكان وكأنه رماية لم تصب الهدف. فلا الفلسفة تغيرت بعد الغزالي بل هو نفسه عاد فغرق في شكلها السائد بل وأكثر من ذلك ظن الكشف بديلا ولا الابستمولوجيا (نظرية المعرفة في النظر) تغيرت بعد ابن تيمية لأن وجه فكره الجدالي والفقهي هو الذي طغى ولا الأكسيولوجيا (نظرية القيم في العمل) تغيرت بعد ابن خلدون إذ لم يقدم البديل. لكن محاولاتهم هي التي تثبت أن الرؤية الإسلامية لم تكن غائبة بإطلاق بل كان غيابها هو الغالب كما يتبين من علوم الملة التي لم تكن قادرة على علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة شرطا في التعمير ولا على علاج العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ شرطا في الاستخلاف. ولجوئي إليهما في كل محاولاتي له غايتان: 1. سميتها جبر الكسور للوصل بين الماضي والحاضر لئلا يكون الاستئناف وكأنه ينطلق من عدم. 2. هم يمثلون الشذوذ الذي يثبت القاعدة: فنقد الميتافيزيقا ونقد الابستمولوجيا ونقد الأكسيولوجيا بالرؤية القرآنية عندهم فلسفي بخلاف الرفض العقدي العقيم صحيح أن الدوافع عقدية دون شك. فالغزالي ينقد الميتافيزيقا وابن تيمية الأبستمولوجيا وابن خلدون الأكسيولوجيا أعني الثلاثة التي كانت سائدة بمنظور قرآني ولكن ليس بأسلوب المتكلمين ولا الفقهاء ولا المحدثين ولا المتصوفة بل بمنظور فلسفي خالص حتى وإن كان دافعهم عقدي. ولا ضير في ذلك فلا يوجد نقد مبدع ليس له دوافع من هذا الجنس. فالنقد الجدي الذي يفتح آفاقا جديدة ومنعرجات معرفية لا يحصل إلا بشرطين: 1. أن يكون لصاحبه رؤية بديل. 2. وأن يثبت وجاهة رؤيته ببيان في الرؤية السائدة من سد للأفق وخاصة من منع المنعرج الممكن في بديله. فالدوافع نوعان يشتركان ي التحفيز. لكن أحدهما عقيم فلا يبدع العلاج ولا غايته المعرفية وهو ينتهي بموقف سد الذرائع بدل علاج المشكل كما في غالب حلول الفقهاء والمحدثين. أما الثاني فهو منطلق كل فكر مبدع في كل حضارة لأن الأنسان يختار الهموم التي ينشغل بها في بيئة معينة ذات قيم مؤثرة. وقد يكون مفيدا للشباب بجنسيه أن يعلموا أن أكبر مؤسس لحداثة الفكر الفلسفي أقصد ديكارت كان دافعه الأساسي دينيا إذ هو في شبابه -مازال في الثانوية-خاطب مبعوث البابا بالقول إنه على يقين أن أثبات وجود الله عقليا أيسر من أثبات وجود العالم الخارجي طبيعيا كان أو تاريخيا. وكتب من هذا المنطق محاولته الاولى في التأملات قبل أن يصبح بنفس هذا الدافع صاحب الرؤية الجديدة للمعرفة العلمية ودور الرياضيات فيها وتأسيس مشروع شبيه بمشروع أفلاطون حيث يكون العقل الإنسان “إلها صانعا”(رمزيا) هدفه أن يجعل الإنسان “سيدا ومالكا للطبيعة”. ولو أضاف إلى هذه الرؤية “بقيم الاستخلاف” لكانت رؤيته قرآنية خالصة. فالخليفة لا يتوهم أنه سيد مالك بل يعتقد أنه بالعلم وتطبيقاته يكون معمرا للأرض وخليفة فيها فلا يفسد ولا سفك الدماء في الفرصة الثانية التي أعطيت له ليثبت عكس ما قالت الملائكة وما يتوعده به الشيطان(برمزية القرآن). وهذا ما أريد اثباته وبيان غيابة في علوم الملة تحريفا للرؤية القرآنية وعلة لما حل بالأمة من تخلف في ثمرات التربية بسبب سلطة الوساطة مشفوعا بتخلف ثمرات الحكم بسبب الوصاية. وليس بالصدفة أن كانت نشأة الحداثة في الغرب مواكبة للشروع الفعلي في التحرر من الوساطة والوصاية. وبعبارة موجزة ما حصل في الحضارتين الغربية والإسلامية مسار متعاكس: هم بدأوا بسيطرة الوساطة في التربية والوصاية في الحكم وانتهوا إلى التحرر منهما ونحن بدأن بالحريتين الروحية من الوساطة والسياسة من الحكم وانتهينا إلى الوقوع فيهما. لذلك هم نهضوا ونحن انحططنا: حقيقة رغم مرارتها. لكن الحداثة بخلاف بدايتها عند كبار مؤسسيها سرعان انحطت هي بدورها لأنها تحولت إلى استعمار للأرض وليس تعميرا لها لأنها توهمت التعمير ممكن من دون قيم الاستخلاف فتحولت إلى إيديولوجيا لاستعمار البشر والحجر فتحولت إلى تدمير بدل التعمير وتلك هي فرصتنا الثانية للاستئناف. والفرصة الثانية هي بيان علاج العلاقة العمودية مع الطبيعة تعميرا واستخلافا وعلاج العلاقة الافقية مع التاريخ استخلافا وتعميرا لأن المقابلة بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان ليس بنسبة التعمير للأولى دون الاستخلاف ونسبة الاستخلاف للثانية دون التعمير للتداخل الجوهري بين الامرين. فالتعمير من دون قيم الاستخلاف هو التدمير عينه: ومعنى ذلك أن حضارة الغرب لم تفشل في التعمير عند النظر لوجود الإنسان من زاوية بعده المادي لكنها فشلت فشلا ذريعا عند النظر إليه من زاوية بعده الروحي. ذلك أن التنافس بين البشر على ثمرات التعمير صار إجراميا فدمر الإنسان والطبيعة في آن. وإذا كان التعمير من دون قيم الاستخلاف وهما وهو علة انحطاط الحداثة التي تحولت إلى تهديم فإن الاستخلاف من دون التعمير هو بدوره وهم وهو علة انحطاط حضارتنا التي تحولت إلى تبعية مطلقة للمهدمين ومن ثم مهدمين بالوكالة في التربية وفي الحكم وفي أخلاق العيش المشترك. ولذلك فكلانا محتاج إلى الثاني ولا يمكن أن يحسم الأمر بمواصلة الاقتتال بين الحضارتين وأظن أن كبار مفكريهم فهموا ذلك بخلاف مفكرينا الذين ما زالوا يتصورون أننا نمثل الاخلاق والقيم: وهم المخرفين. رؤية القرآن نعم. لكن ما يحكم المسلمين اليوم ليست هي بل نسخة مسيخة من دين العجل السائد. والمسخ هنا ليس مجازيا: يكفي أن ترى ما تفعل إيران والانظمة العميلة مع الإنسان والحيوان والعمران حتى ترى نسخة مسيخة مما تفعل إسرائيل بالفلسطينيين ووطنهم وتراثهم وعمارتهم بل هي أسوأ بكثير لأن اسرائيل تحاول نفاق العالم بتمثيلها للحضارة والأخلاق في حين أنهم مستغنون حتى عن ذلك. ما تفعله الانظمة العربية بشعوبها وصنوف عقابها لها تجويعا وترويعا وتعذيبا وتهديما لدورها واعتداء على أعراضها مثاله الأبرز نراه في سوريا وفي مصر وفي اليمن وفي كل بلاد العرب بحيث إن النخب النافذة ليست إلا نسخة مشوهة لأنها أبشع من النخب الاستعمارية الغربية في العالم كله. والنخب النافذة التي يمثلها الوسطاء (المتحكمون في الأذهان) بنوعيهم أي علماء الدين وسفهاء الحداثة الخادمون للنخب النافذة التي يمثلها الأوصياء (المتحكمون في الأبدان) والمتحالفون لسحق الإنسان في كل مكان. لكن هؤلاء عندنا ليسوا إلا عبيد أولئك المسيطرون على العالم سيطرة مافياوية. ومن حسن حظي أن الوقائع تثبت بصورة عجيبة نظرية العجل الذهبي أي سلطان المال الفساد والثقافة الفاسدة (إعلاما وملاهي) في العالم بوصفه البنية العميقة لنوعي الانظمة الثيوقراطية والأنثروبوقراطية (العلمانية). فالإقليم يهدمه نظام ثيوقراطي (إيران) ونظام انثروبوقراطي (إسرائيل). وفضلا عن كون النظامين كليهما مبني على أسطورة دينية هي شعب الله المختار عند إسرائيل و”آل البيت المختارة” عند إيران فإن الثيوقراطيا الإيرانية لا تؤمن بالدين والأنثروبوقراطيا الإسرائيلية لا تؤمن بالإنسان. الله الصفوي والإنسان الصهيوني وثن يخفي بعدي دين العجل. ولان القرآن فضح هذه البنية العميقة -دين العجل أو الحكم بمعدنه (الذهب=العملة) والتربية بخواره (الإعلام والملاهي) فهو عدوهم الالد. لكن المسلمين بمجرد أن يدركوا ما تكشفه هذه الرؤية القرآنية فإن استئنافهم يصبح راجحا لأن إمكانه ثابت في القرآن نفسه إذ نحن بمقتضاه شهداء على العالمين. ظننت الفصل الخامس فصلا أخيرا في المحاولة ونويت تخصيصه لعلاج العلاقتين العمودية والأفقية بمقتضى الرؤية القرآنية. لكن ذلك كان سيكون فاقدا للتأصيل إذا لم يتقدم عليه بيان ما تتميز به هذه الرؤية القرآنية من حيث تحديدها لمآلات الإنسانية قبل التركيز على ثمراتها النظرية والعملية. وهو ما يعني أن هذا الفصل شبه تأصيل للمقصود بالرؤية القرآنية عامة ويتفرع عنه تحديد شروط التعمير المتلازم بالاستخلاف وذلك هو العلاج السوي للعلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة وللعلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ. لا بد إذن من أتجاوز الفصل الخامس حتى أفي المسألة حقها.