ه
“حبب لي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في النساء”
من سذاجات من يريدون اثبات الإعجاز القرآني دعوى أمية النبي بمعنى أنه لا يقرأ ولا يكتب لكأنه لو كان يقرأ ويكتب لكان ذلك كافيا لأثبات أنه هو مؤلف القرآن. فما يعنيني هو: هبه تخرج من أشهر جامعة فهل كان بمحض تكوينه الانساني يستطيع كتابته؟
وليس أيسر من اثبات كونه متعلما: فقد أشرف على تجارة خديجة. فلا يمكن لتاجر أن يكون أميا بمعنى جهل الكتابة والقراءة خاصة إذا كانت تجارته خارج بلاده لأنه انتقل إلى دمشق وقد كانت مستعمرة بيزنطية. وهي إذن تجارة دولية وليست محلية.
لكن ليس هذا غرضي من المحاولة بل غرضي لأن فهم دور الرسول الخاتم لا يمكن الاعتماد فيه على مثل هذه السذاجات. فلا يمكن أن يكلف بتعليم القرآن (الاسراء 105-106) ويقرأه على الناس على مكث من ليس له أهلية القراءة حتى بمعنى التلاوة من الذاكرة. فشرط ذلك القدرة على وصل النسق الكلي بكل نجم من نجوم القرآن إذ قراءتها لا تعني ترديد محفوظة بل شرحها ولا يكون من دون تنزيلها في سياقها النصي والخارجي.
ولا يمكن أن يضيف إلى المعلم المذكر الحاكم المرشد فيكتب دستورا فريد النوع لأنه حلف من أجل التعايش الـمقصور على وظائف الدولة دون تدخل في وظائف المجتمع الأهلي ومنها أخطر مسألة أعني مسألة التعدد الديني عقديا وشرعيا التي أخرجت عن تدخل الدولة التي تعنى بالرعاية والحماية الجماعية لا غير.
لا يمكن لأمرئ يمثل المربي المثالي -فذكر إنما أنت مذكر -والحاكم المثالي -لست عليهم بمسيطر-وكاتب دستور بهذه الفرادة أن يكون كما يصوره من أسقط عليه معاني الإعجاز الساذج بدل الإعجاز الحقيقي الذي يتأسس في القرآن الذي لا يستدل إلا بالنظامين الطبيعي والتاريخي أو الإعجاز الحقيقي.
كل ذلك لا يمكن ألا يعتبره من المفروغ منه عند كل من قرأ القرآن بعين فاصحة وبصيرة. ولذلك فليس هذا مطلوبي في هذه المحاولة. مطلوبي أعمق وأبعد غورا: أريد أن أفهم مقومات شخصية الرسول استنتاجا من معنى قوله صلى الله عليه وسلم إن الله قد حبب إليه من الدنيا ثلاثا هي: “الطيب والمرأة والصلاة.
ولا يمكنني فهم ذلك والكلام فيه من دون إضافتين. فلا بد من وصلتين: الأولى بين الطيب والمرأة وهذه هي الإضافة الأولى التي علي تحديدها والثانية بين الطيب والصلاة وهي الإضافة الثانية التي لا بد منها. ولا ابد أن أضع الطيف في الوسط بين المرأة والصلاة لأنه هو أصل العلاقة بين الوصلتين وبينهما كحدين للمقومات لهذه الابعاد الدنيوية في حياة الرسول.
فلا يمكن استمداد الوصلتين إلا مما يجمع الطيب بالمرأة والطيب بالصلاة. فتكون المعاني خمسة كما ينبغي أن تكون وتكون الذروة هي الطيب مجال الأنف والشم. والأنف منه الأنفة. والشم منه الشمم. وكلاهما يتصلان بالمنزلة الوجودية وعيا بها في الأذهان والوجدان وحصولا لها في الأعيان والكيان. فيكون لهذه الذروة المحددة لمنزلة الرسول الوجودية في ذهنه وفي عينه أصل الوصلتين بما قبل الطيب أو المرأة وبما بعد الطيب أو الصلاة. فكيف أفهم ذلك؟
وحتى يتأسس الجواب لا بد من تحديد منزلة الشم في سلسلة الحواس: فقبله البصر والسمع وبعده الذوق واللمس إذا رتبنا الحواس بالمسافة الفاصلة بينها وبين المحسوس من الأبعد إلى الأقرب من الحاس لحصول الاحساس. فتكون هكذا: البصر فالسمع قبل الشم والذوق فاللمس بعده. ويكون الشم هو الأوسط من حيث المسافة بينهما.
بوسعي الآن أن أجيب: فالوصلة بين المرأة والطيب هي مادة الإدراكين الملازمين للفنين المعبرين عن الجمال أي الرسم لكيان المرأة البدني والموسيقى لكيانها الروحي. والأول موضوع البصر. والثانية موضوع السمع. المرأة هي العمل الفني الإلهي الذي يجعل جسدها مادة الرسم الأسمى وروحها مادة الموسيقى الأعلى فتتحول المرأة إلى عطر الحضور الوجودي والاستحضار الكياني في الحب: ذلك هو العطر المقصود.
ترجمة الجمال التشكيلي للمكان (الرسم) والتنغيمي في الزمان (الموسيقى) هما كيان المرأة إذ ينقلب إلى عنفوان وجودي يهز كيان المحب (ويمكن اعتبار نسبة إلى الرجل إلى المرأة من نفس الطبيعة) هز الطيب للأنفة والشمم. ذلك هو القصد بالطيب الذي يتكلم عليه الرسول والذي لا يكون الطيب بمعنى الرائحة الطيبة إلا رمزه المحسوس. فرغنا من الوصلة الأيسر تحديدا.
الوصلة الثانية أعسر تحديدا لأنها تصل العطر بهذا المعني الكياني والوجداني بالصلاة. وهي ما يمثله الحسان المواليان من حيث المسافة الأقل بين الحاس والمحسوس بعد الشم أعني الذوق واللمس. فالذوق في دلالته المادية يتلق بالأكل والغذاء لكن دلالته المعنوية هي تذوق الجمال والجلال. واللمس يتعلق باتصال البشرة الحية التي هي أكثر كيان الإنسان نقلا للحس. وهو أصل كل الحواس إذ ما من حس إلا وهو لمس في الغاية سواء كان مباشرة كما هو هنا أو بتوسط حامل طبيعي بتوسط في البقية بين المحسوس والحاسة.
وما يتميزان به أنهما لفرط قربهما من كيان الحاس يعدان أكثر المدارك عدم قابلة للانقيال ومن ثم فهما الأكثر وجدانية. فقد يشاركني غيري الاحساس بنفس المرئي وبنفس المسموع وبنفس المشموم لكن لا أحد يمكن أن يشاركني في المذوق وفي الملموس لمباشرتهما المطلقة إذ لا بد فيهما من التلامس دون وسيط أجنبي عن الحاس والمحسوس. كلاهما مطلق التفرد ما يلامس لساني ولهاتي وبشرتي لي وحدي بخلاف ما يلامس باقي حواسي.
وهذا الحضور المطلق والمباشر الذي يتلامس فيه الحاس والمحسوس إلى حد التوالج والتشاجن والتطابق هو الشعور بالجلال وهو أسمى من الشعور بالجمال لأن الصلاة هي مناجاة الخالق والآمر. ومناجاته علاقة بيني وبين من هو أقرب إلـي من حبل الوريد. وطبعا ليس القصد الحبل بل شريان حياة العقل والروح.
وإذن فالرسول لما ذكر العطر بعد وسطناه بين المرأة والصلاة فد أضمر الوصلتين اللتين أضفناهما بين المرأة والعطر أعني الجمال وبين العطر والصلاة أعني الجلال. والجمال يمثله الرسم والموسيقى أو تشكيل الجسد وتنغيم الروح (المرأة هي هذان البعدان) والجلال يمثله ذوق الحياة وملامسة الوجود (الصلاة هي هذان البعدان).
فيكون الرسول بذلك وكأنه يقول إن ما أحبه من الدنيا هو عين ما يطلب في الآخرة وهو إذن يعيش في الدنيا غاية ما يعاش في الآخرة: ففي الآخرة السعادة المطلقة رمزها الجمال أي المرأة بالنسبة إلى الرجل والرجل بالنسبة إلى المرأة ورمزها الجلال أي رؤية الله للجنسين. والوسط بينهما هو الأنفة والشمم أو ما سماه ابن خلدون رئاسة الإنسان بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له: الجنة دليل جدارة الاستخلاف.
والمرأة في حياة الرسول عندنا منها خمسة أصناف: اثنتان ذكرتا في القرآن وهما خديجة (ووجدك عائلا فأغنى ونحن نعلم أن في ذلك إشارة لخديجة) أما عايشة فالإشارة إليها تبرئتها مما رميت به. ونعلم من سيرته دور أمه ومرضعته وأخيرا المرأة الوحيدة التي بايعته مع غيرها على الولاء قبل الهجرة أو بداية لمشروعها.
وهذه النماذج الخمسة هي التي تحدد حقيقة المرأة عامة ومنزلتها في القرآن والمقارنة بين المنزلة التي يحددها القرآن لها والتي آلت إليه في تحريفها عند الكلام على الضلع الأعوج تثبت ما بينته من تحريف “علماء” الملة لجوهر حقائق القرآن. فالأصل صار فرعا وفرعا معوجا فوق ذلك: فهو تخريف يقلب دلالة النساء 1 ويعارض دلالة الأعراف 189.
فالنفس الواحدة التي خلق منها الزوجان الذكر والانثى أنثى ليس لغويا فحسب بل فعلي كذلك. ومن ثم فالرجل والمرأة كلاهما من نفس النفس وليس أي منهما بتابع للثاني. لكن الأعراف 189 تتكلم على العكس إذ تجعل المرأة أصلا والرجل فرعا لأنها تشير كونها ومنها ولما تغشاها حملت منه حملا خفيفا مما يزيل كل إمكانية للتأويل (فلما تغشاها حملت حملا خفيفا). ليست بعد الرجل وليست ضلعا معوجا بل هو منها وهي أصله بنص القرآن ومن ثم فمنزلتها الفقهية محرفة ولا تفهمنا قول الرسول.
وختاما لو تخيل الإنسان اجتماع الإحساس الحاصل للإنسان عندما تعمل الحواس الخمسة معا في فعل واحد أي البصر والسمع والشم والذوق واللمس لفهم معنى العلاقة الحميمة في ذروتها ولفهم أنها في آن جوهر الحياة العضوية والروحية وأنها متعينة في حضور النساء الخمسة في حياة الرسول. وهذا وحده كاف للدلالة على عظمته.
فالأم والمرضعة غني دورهما عن البيان لأن الأولى شرط الوجود والثانية شرط البقاء والعنفوان. وخديجة شرط القيام المادي والسند الروحي في البداية وهو تواصل البقاء حتى في تحقيق الرسالة. وعائشة شرط البقاء الروحي في الغاية أو معنى البقاء. وأخيرا المرأة التي بايعته اسست لدور المرأة السياسي في المجتمع الإسلامي: وكلهن يثبتن ضروب التحريف للدور الموجب الذي سلب عن المرأة.
لكن التحريف الأشد والأخير على عنفوان الحضارة الإسلامية هو غياب معنى الجمال والجلال في حياة المسلمين بسبب تغييب الفنون التي تنقال والفنون التي لا تنقال والتي يتلاحم فيها الدنيوي والأخروي فلا يكون أحدهما منافيا للثاني بحيث إن الأمة صارت شعوبا من العبيد تصورت الآخرة ممكنة من دون تعمير يحكمها طواغيت محاطة بنخب كلاهما لا يتوقف عن لهيث الكلاب.