سياسة السبسي – مأساة الرضع ليست الأولى ولن تكون الأخيرة

ه

لما كتبت في مأساة الرضع (اضغط هنا) وما تدل عليه مما سميته في محاولات سابقة فساد الانتخاب ببعديه في مجتمعاتنا بعد الانتخاب في التكوين والانتخاب في التعيين (في المهن والمسؤوليات) اكتفيت في فورة غضب بتحميل العجوز النائم في قرطاج بأنه “راس القرطلة الخامجة” لأن كل تعطيل للإصلاح بعد الثورة هو سببه.
التعطيل الذي جاء منه لم يكن مقصورا على الوجه السياسي الصرف في إدارة الدولة في السنة الأولى من الثورة ولا من إدارة المعارض في السنتين الثانية والثالثة ولا في العودة إلى إدارة الدولة منذئذ بل من استعمال عاملي منع الإصلاح من الاصل أعني مرض اليسار والقوميين ومرض النقابات والمافيات.
ذلك أنه يدين بعودته إلى رئيس المافية ويدين بقوته ضد سعي الثورة إلى الإصلاح إلى الناقمين على من اختارهم الشعب وعلى ثقافته ليس من هذين الداءين في الداخل بل إلى من يريدون الإبقاء على الاستعمار واستغلال ثروات البلاد والتبعية الثقافية والسياسية لمافيات فرنسا وصهاينتها.
وإذن فقد كنت منصفا معه لأني لم أحمله ودود ما يستدعي الإصلاح.
فهذا له فيه دور خلال العهدين البورقيبي والابن علوي لكنه دوره لم يكن دور القيادة كما في دوره منذ أن عينه رئيس مافيات تونس بعد صاحب الهستيريا السياسية وبسند فرنسي بين وأعني القيادة في ظاهر الركح السياسي لكنه دمية بيدهما. فـما أريد الكلام فيه اليوم هو المآسي التي لم تنفجر بعد وهي أدهى وأمر مما رأينا في الصحة:

  1. مأساة التربية بكل مستوياتها ونظام الانتخاب فيها أصلا لكل فساد في الجماعة.
  2. ومأساة الانتخاب في نظام تقسيم العمل الاقتصادي العام والخاص.
  3. ومأساة الانتخاب في نظام تقسيم العمل الثقافي
  4. مأساة البطالة المقنعة.
  5. ومأساة المآسي هي انخرام وظائف الدولة العشرة التي هي عين الجنجرينا التي تنخر كيان الدولة.
    فالخمسة المتعلقة بالحماية أي القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلام والاعلام السياسي والخمسة المتعلقة بالرعاية اي التربية النظامية والتربية اللانظامية والتموين المادي والتموين الرمزي والبحث العلمي كلها في وضع الصحة أو أكثر.
    وهذه المأساة الخامسة هي مأساة المآسي لأنها في نفس الوقت معلول وعلة لما تقدم عليها أي للأربعة التي ذكرتها أولا: فهي علة ومعلول للتكوين والانتخاب فيه ونفس الشيء بالنسبة إلى التعيين بصنفيه الاقتصادي والثقافي والانتخاب فيه وإلى مأساة البطالة المقنعة التي أصابت الدولة بالشلل المطلق.
    فما معنى علة ومعلول؟
    معناها أن العملية صارت منتجة لذاتها: إذا كان الانتخاب في التكوين فاسدا فيترتب عليه فساد التعيين لأن خريج النظام التعليم لا ينتخب بمعايير سوية فيكون التعيين في العمل ضرورة تابعا له لأن ذوي السلطان فيه أي الدولة النقابات بنوعيها هي التي تعين جماعتها في الوظائف.
    ومن يعين بهذه الصورة يصبح هو المتحكم في كل المنظومة التي عينته فيصبح دوره الأول والأخير تعميم نظام الانتخاب الذي أوصله إلى السلطة في الدولة وفي المجتمع. وكل ناقص سيعين من هو أنقص منه فيصبح المنحنى متجها إلى النزول وليس إلى الصعود في كل شيء: ذلك هو منطق التردي وقانونه.
    وليت التردي وقف عند هذا الحد.
    فهم لا يكتفون به بل جعلوا النظام نفسه في حرب على كل من يفلت منه بما يشبه المعجزة التي تكون في الغالب إما لغفلة منهم أو ربما لذكاء منه ومداراة. المهم أن الحرب على التميز تصبح جزءا لا يتجزأ من هذا النظام فيكون طاردا لكل من تتوفر فيه شروط الكفاءة والأخلاق.
    والأدهى أن هذه العملية التهديمية النسقية ليست محلية فحسب بل هي محلية واقليمية ودولية. ولعل المثال الأبرز للعيان كان في بطانة الباجي سواء لما حكم في السنة الاولى أو لما عارض في السنتين المواليتين أو لما حكم في الأربع سنوات الأخيرة. فكل من أحاط بهم نفسه هم من سقط المتاع في كل شيء.
    وسأضرب مثالا عالجته بنفسي بوصفي وزيرا مستشار مسؤولا عن ملف التربية وهو ربما أقل الأمثلة سوءا. فكل ما حدث في التربية منذ سنتين علته اتفاقية أمضاها كاتب دولة عينه هو وأكاد أجزم أن المركز الثقافي الفرنسي هو الذي اختاره له أسبوعا واحدا قبل رحيل حكومته الاولى بعد الثورة فضلا عن عزل كل المديرين من البكوش لعلل إيديولوجية.
    وهي اتفاقية تكلف الدولة ما لا يطاق بالنظر إلى ميزانيتها المحدودة جدا وتحدد التقاعد في 55 سنة باسم المهنة العسيرة -لكأنه توجد مهن يسيرة-دون شروط الاتفاق القانونية الثلاثة أي راي وزارة المالية وإدارة الدولة والمحكمة الإدارية. فدعوت لرفض الاتفاقية أو على الأقل لإعادة التفاوض فيها.
    لكن الخوف من النقابة حسم. وقد تمسكت بضرورة الغاء الاتفاقية لكلفتها ولعدم توفر شروطها القانونية وعدم شرعية من اقرها في مرحلة كانت فيها الحكومة حكومة تسيير أعمال. لكنها حسمت بالتصويت بين أربعة كان رئيس الحكومة واحدا منهم فبقيت فيها وحيدا أدعو لرفضها.
    ولا يدل ذلك إلى على شيء واحد هو أن من كان يحكم قبل الثورة كانت مستهترا بالمسؤولية ومن جاء بعده وجد أمامه لغما فتردد في تنحيته فانفجر لاحقا وتعطلت التربية سنتين بيضاويين رغم أن الوزراء يزعمون انهم تداركوهما لمنع البياض فكان السواد وطبعا فهذا ليس هو السبب الوحيـد لتردي التعليم.
    ويمكن اعتبار الجامع لكل علل التردي في التعليم هو ما رمزه سعي الرئيس إلى تطبيق نفس المبدأ على وظيفة الرئاسة نفسها: فالمدرسة تحولت بمنطق يعقوبي إلى أداة صراع إيديولوجي جعل من كلفوا بإصلاحها هم سبب إفسادها وذلك خاصة منذ بداية معركة ما يسمى بتجفيف المنابع حربا على ثقافة الشعب.
    وإذا كانت هذه الحماقة قد أفسدت نظام التعليم الذي كان مفخرة تونس على الأقل في الأجيال الأولى بعد الاستقلال فإن الحماقة التي يقدم عليها الرئيس تعمل بالدولة كلها ما علموه هم بالتعليم. وبدلا من محاولة تعديل تطرف بورقيبة التحديثي العنيف كما نصحته زاد الطين بلة فأراد المزايدة عليه في ما لم يجرؤ عليه.
    وإذا كان الرئيس تفرض عليه بطانته أو يسيء اختيارها وكان انتخاب الوزراء تحدده السفارات والمافيات واللوبيات النقابية للعمال والأعراف فلا يمكن تصور الحكم قادرا على إصلاح شيء فضلا عن إصلاح ذاته. ومن فهو “راس القرطلة الخامجة”. وطبعا في غياب الانتخاب السوي لا إصلاح حتى لو صلح الحكم.
    فالوزير مثلا لا يمكن أن يكون شمسا تضيء في كل مكان فيتابع كل ما يجري في وزارته وفيها من الموظفين الآلاف وأحيانا مئات الآلاف كما في الصحة والتربية أو في الديوانة أو في المطارات أو في الأمن. فإذا لم يكن الانتخابان صالحين بحيث يكون الرجل المناسب في المكان لمناسب فإن الرقابة الخارجية لا تكفي للنظام.
    فرقابة أي سلطة مهما كانت حازمة تبقى من الوزع الأجنبي أي الذي يأتي من خارج ضمير المعني بالمسؤولية المباشرة. فإذا كان صاحبها فاقدا للوزع الذاتي أو الضمير المهني والكفاءة والاخلاق فإن كل مراقبة أجنبية تكون غير كافية بل هي قد تحدث التواطؤ الناتج عن إفساد المراقبين فيعم الإفساد النسقي للوزع عامة الذي يقتل الضمير والمراقبة في آن.
    مثال ذلك في حالتنا هذه عزل الوزير قد يستعمل نفاقا للقول إننا دولة حديثة يتحمل الوزراء فيها المسؤولية التي من جنس وزير السيسي الذي استقال بعد حادثة القطار. لكن ذلك لا معنى له لأن الوزير لا يمكن ان يراقب من يخلط الأدوية في المستشفى بل المسؤول هو نظام الانتخاب تكوينا وتعيينا. وأخيرا فلست ظالما لرئيس الدولة عندما حملته المسؤولية الأساسية وخاصة لمنعه الإصلاح مرتين:
  6. لكذبه في زعمه المصالحة وهو يستغل أهم علل الاستئصال أعني الحرب على ثقافة الشعب لأنه حصر المصالحة في تبرئة الفاسدين.
  7. وفي زعمه رئيس كل التونسيين وهو لا يعمل إلا مع من تعينهم له المافية وسفارة فرنسا وربما الثورة المضادة العربية.
    فأول من أفسد مهابة الدولة هو لأنه كان يسمي من كانوا يحكمون خلال حكم الترويكا بـ”الامارك” وهي شبيهة بما قالته رئيسة البلدية عن “ما وراء البلايك”. ولأنه كان يشجع النقابة في اضراباتها ومطالباتها بالزيادات المشطة لتعجيز الترويكا ولأنه جمع كل الحاقدين للإطاحة بالتجربة الديموقراطية.
    ثم لا ننسى أنه أطاح بحكومة الصيد لما بدأت تتصرف كحكومة مستقلة عن نزوات المافيات التي تستعمل حزبه وسذاجة ابنه وأطماعه الدنيا المماثلة لأطماع اسرة ابن علي. وهو الذي سعى للإطاحة بحكومة الشاهد لنفس: لا يريد حكومة بل “خاتم” في اصبعه. وقد كنت ولا زلت أعتقد أن النهضة أخطأت لما حالت دون سعيه للإطاحة به ليس لأنه على حق بل لأن ذلك كان سينهي دوره ودور حزبه قبل الانتخابات.
    لكنهم كعهدي بهم لا ينظرون إلى بعيد فلا يستبقون الاحداث بمنطق “دعها حتى تقع”. تصوروا أن بقاءهم في الحكم إلى حلول الانتخابات مفيد لهم ولتونس. لكنه ضار لهم ولتونس. ذلك أنهم قد يكونوا أعادوا الزخم لحزبه الذي سيلتئم بشكل جديد ولن يبقى لهم إلا تحمل مسؤولية كل ما افسده نظام السبسي لأن الشاهد سيفسر فشله بعسر التخلص من النهضة.
    ولما كانت كل الأحزاب تريد تصفية الحساب مع النهضة نقمة عليها وعلى ما ترمز إليه فسيصدقه الرأي العام خاصة إذا احبطت ثورة الجزائريين الحالية. فكل صواعق الإعلام ستعمم هذه الحجة وستجد النهضة نفسها هذه المرة وحيدة لأن الحزبين الآخرين اللذين عملا معها تفتتا وانضم الكثير من جماعتهما إلى أحزاب أكثر حقدا عليها من اليسار والقوميين والندائيين.
    والسبسي الذي كان يمكن أن يستفيد من الثورة التي كانت قابلة لأن تجب ما سبقها فيكتب اسمه في تاريخ تونس بما كان يمكن أن يجعله من عظائها. لكنه أراد أن يكون قزما فكان له ما اراد. وقد نبهته لما دعاني للكلام معي. وظننته صادقا لما قص علي حياته فصارحته بما كنت أعتبره شرطا في تخليد اسمه. لكنه تعود على سماع الطبل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي