“سلفية الحداثة العربية”، حلفاء الطغاة والبغاة والمافيات

هذه محاولة لا تدعي تقديم اجوبة بل هي تطرح تساؤلات موجهة خصيصا إلى حدي المعادلة السياسية في بلاد العرب عامة وبلاد الربيع منها على وجه الخصوص. وعلتها بالأساس المأزق المصري وقد دعاني إليها موقف حسني الناطق بلسان عنان الذي حيل دونه والترشح: موقفه الذي يصوغه بمنطق القومية المصرية.

الاستاذ حسني زميل محترم سبق أن التقيته مرتين في الاردن إن لم تخني الذاكرة وأذكر أنه وقع بيننا نقاش ظننته علميا حول تذكيره بالنظرية الخطية للتطور في عشر مراحل فجعله إيديولوجيا لظنه أنني اخواني وأني ضد طه حسين إلخ.. من التحليل الإيديولوجي الذي يسمونه علم اجتماع.

لكن ذلك لم يثر للود والاحترام المتبادل قضية. فالخلاف بين الباحثين ليس مدعاة للتعادي. ولما سمعت أنه من صف مرشح جديد فهمت منه أن جيش مصر بدأ يدرك الورطة التي وقع فيها فرحت بل ولم أكتف بالفرحة فكتبت ما مفاده أن قبول الأستاذ حسني هذا الدور فيه ضمانة على جدية التوجه لدى عنان.

وقد أيد عنان توسمي الخير في جيش مصر عندما أعلن ما يشبه البرنامج خلال إعلان نية الترشح. لكن ما جعلني أعود إلى مسألة المأزق الأخطر -ليس مأزق الجيش في مصر فحسب -بل مأزق أدعياء الحداثة والدولة الوطنية في عصر العماليق هو موضوعي ولم تكن تشنجات حسني الأخيرة إلا محفزا للإقدام عما أجلته.

ما سأحلله لا يعني الزميل حسني بعينه فما قدمت به المسألة كان لغايتين:

  1. تعيين سياق الإشكالية في الأزمة المصرية الحالية-وهي أزمة ممثلة لأزمات كل بلاد العرب وكل بلاد الربيع منها على وجه الخصوص.

  2. ثم وهذا هو الاهم بيان طابعها الناتج عما سميته معركة كاريكاتوري التأصيل والتحديث.

ذلك أني لم أفرح بترشح عنان محبة في استبدال عسكري بعسكري بل لظني أن النخبة السياسية ستتجاوز ما يحول دونها والفاعلية الجدية عندما ترى تطور الأمور في الجيش وأن عدو مصر ليس إحدى القوى السياسية كما يتوهم أدعياء الحداثة أو أدعياء الأصالة بل هو ما يحول دون وجود قوى سياسية أصلا.

وما سيذهل القارئ هو أني اكتشفت حقا أن هذا الذي يحول دون وجود قوى سياسية في مصر وفي غيرها من بلاد العرب عامة والربيع منها خاصة هو وجود هذين الكاريكاتورين المتحالفين دائما مع الشيطان إن لزم الأمر حتى لا توجد قوى سياسية يتوفر فيها شرطان: التعايش والقبول بالاحتكام إلى الشعب حقا.

وهذان الكاريكاتوران هما كاريكاتور التأصيل وهم المتكلمون باسم الأصالة والمتحالفون مع الطغاة بوهم استبعاد العلمانية ولا يدرون أن الطغاة يحكمون بأفسد علمانية والمتكلمون باسم الحداثة والمحالفون مع الطغاة بوهم استبعاد الإسلامية ولا يدرون أن الطغاة يحكمون بأفسد دين.

وما هالني هو أني اكتشفت أن الزميل حسني لم يخرج من هذه المعادلة التي يمثلها الفكر السياسي الجامد الذي يتصور تجاوز الدولة القطرية -لكأنها بحق دولة-يعني بالضرورة إلغاءها وأن الإسلاميين بفتح أفق أوسع مما يسميه الدولة القومية المصرية ينفونها ولا يبحثون عما يجعلها بحق دولة ذات سيادة.

وما أعجب له هو أن أستاذا جامعيا يعيش في القرن الحادي والعشرين وفي لحظة لا تتحقق شروط السيادة إلا للعماليق ويرى ألمانيا وفرنسا عدوتي التاريخ الاوروبي كله منذ أن وزعها جدهما بين أبويهما قد فهمتا أن عصر الدولة القومية حصرا فيها لم يعد كافيا ليحافظوا على شروط السيادة ثم يقف هذا الموقف.

الكل يعلم أني لا أنتسب إلى أي حزب لا أخواني ولا غير أخواني. فقد فطمت عن السياسة منذ أن جربتها وفهمت أني لست من اهلها لكني لم أفهم إلى الآن كيف يمكن للحداثي المستنير أن يقدم على المشاركة فيها مع الجهل المدقع بأول قوانينها: الفعل السياسي فعل قوى سياسية فعلية وليس أماني.

لما اندلعت ثورة الشباب بجنسيه (وأؤكد دائما على بجنسيه لأن الشارع لم يكن مؤلفا من الذكور بل كان شبه مناصفة) فرحت لأني رأيت فيه حدين آخرين غير الكاريكاتورين اللذين ظهرا لاحقا وأفسدا مسار الثورة: رأيت الإسلامي والعلماني يطلبان نفس المطالب: الحرية والكرامة بمنطق عدم التبعية للماضيين.

رأيت بين الحدين الاستئصاليين أي كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث التابعين لماض يعتبرونه ممثلا للإسلام (السلفية بنوعيها) لماض يعتبرونه ممثلا للحداثة (الشيوعية والقومية) حدين آخرين هما الإسلامي الحديث والعلماني الاصيل أو الشباب الفاهم لشروط الاستئناف غير التابع لأطلال الماضيين.

خلاصة كلامي: يوجد في كل بلاد العرب ومصر في ذروة ذلك سلفيتان: سلفية تدعي تمثيل الحداثة وسلفية تدعي تمثيل الإسلام وهما في الحقيقة ذراعان يطيلان عمر الطغيان السياسي. فالعمل على منع تكوين حلق بين قوتين سياسيتين للعمل المشترك دون استئصال متبادل يعني نفي كل إمكانية لتجاوز الطغيان.

تحليلي الشخصي لمعادلة الوضعية في مصر -وهي واحدة في كل بلاد العرب-هي أن الطرفين أو الكاريكاتورين سلفية الأصالة وسلفية الحداثة تحولان دون قوتين سياسيتين فعليتين تمثلان أصالة وحداثة متجذرتين في الشعب ونخبه الواعية بشروط العصر والمؤمنة بقيم كونية مشتركة بين الإسلام والحداثة.

وهذا ما حدث فعلا في ساحات تونس ومدنها وفي ميادين مصر ومدنها وفي شوارع ليبيا ومدنها وفي شوارع سوريا ومدنها وفي شوارع اليمن ومدنها حدث في الموجة الاولى من الثورة. فكان رد الثورة المضادة بهذين الكاريكاتورين: صعد الجيش في مصر فأفسد كل الثورة بتمويل فجار العرب وتشجيع مجرمي الغرب.

لما يقول الدكتور حسني ليس بيني وبين الإسلام خلاف بل الخلاف هو بين اجندة الإخوان والدولة القومية المصرية أعجب شديد العجب: هل أبقى السيسي خاصة واختراق الجيش المصري ونخبه الحاكمة وتوابعها شيئا اسمه القومية المصرية؟ أم هم جعلوا مصر دولة التسول والتبعية المطلقة لإسرائيل؟

وهل يمكن لعاقل أن يتصور إمكانية تغيير هذا الوضع بزعماء “جبهة الإنقاذ” الذين لم يكن يعنيهم إلا ما كانوا ينتظرونه من السيسي من كراسي حرمهم منها بمجرد أن مسح حذاءه فيهم مثل مساحات الاحذية على أبواب مخابراته وبلطجيته اللتين أفسدتا معنى الوطن والأمة رغم أني لا اعتبر أي قطر عربي أمة؟

وآتي الآن إلى الأسئلة وأوجهها إلى ممثلي المعادلة السياسية في أي جماعة سوية: فكل مجتمع مهما كان بدائيا لا بد أن تجد فيه خمسة قوى سياسية هي طرفان رمزهما اليمين واليسار الخالصان (نموذج موروث عن توزيع القوى في برلمان الثورة الفرنسية) أحدهما وبينهما يسار اليمن ويمين اليسار ثم الوسط.

لكن التسمية أعمق من مجرد الاستناد إلى صدفة توزيع النواب في برلمان الثورة: فاليميني هو الذي يقدم المصالح الاقتصادية شعارا لخطابه السياسي (العمل والإنتاج والملكية) واليساري يختار العكس فيقدم المصالح الاجتماعية شعارا لخطابه (التضامن والعدل إلخ..) والنجاعة السياسية غيرت الخطابين.

فاليميني محتاج لقاعدة خطابه لا يحققها واليسار محتاج لثورة خطابه لا يحققها فكان أن أخذ كل منهما ما يحتاج إليه من الثاني: اليميني طعم خطابه ببعد اجتماعي واليساري طعمه ببعد اقتصادي فتكونت القوتان الوسطيان يسار اليمين ويمين اليسار وبين هذه القوى ألأربع نجد الانتهازيين أو الوسط.

في مصر اقصى اليمين هم سلفية المخابرات واقصى اليسار هم يسار المخابرات أما يسار اليمين ويمين اليسار أو القوتان السياسيتان المناسبتان للعصر فهما بين فكي الكماشتين اللتين يستعملهما الطغاة الذين في الحقيقة دمى بيد من نصبهم على رقابنا يفعلون بنا ما يلحو لهم وهم مافية اجهزة التحكم.

الأسئلة:

  1. السؤال الأول هل يمكن بأحزاب كرتونية لا تمثل شيئا بمعيار القوة السياسية السلمية أي التي يسمع الشعب لها أن تغير شيئا في أي بلد عربي؟ أين ذهبت نخب “جبهة الإنقاذ” المصرية والتونسية إلخ… التي ادعت الدفاع عن الديموقراطية ضد حكم الاخوان فأعادت الدكتاتورية المطلقة؟

  2. السؤال الثاني هل يمكن لمن تبنى عنان أن يدعي أن له استراتيجية تجعل الجيش يلغي سلطان الجيش ويعيد الحكم للشعب؟ هل توجد تجربة في التاريخ تؤيد مثل هذا السلوك السياسي الذي هو في الحقيقة خيار مفاده كل شيء إلا حكم الإخوان حتى لو خربت مصر تماما ففقدت أرضها وماءها وعرضها ودورها؟

  3. السؤال الثالث: هل يمكن في عصر احتاجت فيه ألمانيا للوحدة مع فرنسا أن يدعي ذو عقل أن مصر دولة قومية من دون مظلة تشمل كل العرب يمكن أن يكون لها وزن في الاقليم فضلا عن الوزن في العالم؟ أم إن اسم الدولة كاف؟ ما سيادة دولة تتسول وتخسر الحرب في خمس دقائق حتى لما كان وراءها السوفيات؟

  4. السؤال الرابع: هب الاخوان قرروا عدم المشاركة في أي انتخابات مقبلة وأحجموا عن النزول في المظاهرات التي تطالب بالحقوق كم يستطيع العلمانيون والحداثيون والقوميون مجتمعين أن يجمعوا ليعبروا عن إرادة الشعب المصري؟ أليس هذا هو علة اختبار أمثال الدكتور حسني تمثيل عسكري؟

  5. السؤال الأخير: أي حداثة وأي تقدمية وأي دولة قومية لنخب أقصى ما تستطيع رؤيته هو سرتها فلا تفهم ما يجري في العالم وتدعي أن مصر لا يليق أن يحكمها الاخوان: حسنا. هل غير الاخوان أتوا من المريخ؟ هل ولدوا ذوي أهلية بالطبع للحكم وغيرهم لا؟ نفس الغباوة تسمعهما من في نخب الحداثة.

لما أسمع عرابيد حانات تونس يسألون مستنكرين: أهؤلاء سيحكمون تونس قاصدين الإسلاميين الذين اختارهم الشعب لحكمه لفترة أعجب من سخافتهم. فجل السائلين الاستنكاريين أنا أعلم علم اليقين لمعرفتي بجلهم أنهم لا يقبلون المقارنة مع أدنى إسلامي يتعاطى السياسة علما وخلقا وقدرة على النضال.

فليس وراء زعماء المقاهي والحانات والخطاب الخشبي للحداثيين العرب إلا الإيديولوجيا والشعارات ولا علاقة لهم بهموم شعوبهم: يكلمك على الماركسية وعلى القومية وعلى الدولة الوطنية وعلى كل شيء إلا على شروط الفاعلية السياسية التي هي قوى اجتماعية وسياسية فعلية وليس مجرد كلام.

وليكن الختام مسكا: ما العلة في أن كل الحداثيين العرب ممن اعتبر الشعب غبيا واختياره لا يعبر عن إرادته وفضل أن يصطف مع الطغاة لم يكن لهم بد من الحلف مع أكثر العرب رجعية وتخلفا لا لشيء إلا لأن الطغاة الذين اصطفوا معهم مثلهم مافيات بحاجة للرز: من يمول حداثيي تونس ومصر مثلا؟

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي