ه
قرأت اليوم بالصدفة مقالا لسفيان بن فرحات -الذي اعتبره من أعمق صحافيينا ثقافة- مقالة في حذق السبسي لفن الانتقام يبدو في ظاهره مدح للرجل وهو في الحقيقة هجاء لا مثيل له في لحظات حياته السياسية والعضوية التي لا تبعد كثيرا عن غايتها. فعجبت وتساءلت هل كان ذلك بقصد أم سهوا؟
فرهان الفلورنسيين إذا تجاوزنا حذق المناورة السياسة وعيرناه بأمير ماكيافال أستاذ امرائها علمنا أنه يتعلق بأمرين يخلو منهما فكر السبسي تماما في مناوراته. فشتان:
- بين اسرة الميديسيس التي تريد توحيد إيطاليا ويرشحها ماكيافال لاستعادة الجمهورية الرومانية.
- وبين قزم همه مطالب أسرة لا علاقة لها بأي هدف سياسي سام لا لتونس ولا لغيرها.
وجه الشبه في المناورة من دون ما لأجله يناور ا لسياسي يعني الاهتمام بصَغار عوامل التاريخ الصغير وليس بما ورائه من جليل الأمور. ففي الرذائل جل البشر متشابهون إذ كما يقول هيجل فخادم الغرفة لا يفهم معنى البطولة لأنه يرى العادي من حياة البطل ولا يرى ما وراء هذا العادي من لا عادي: اهداف التاريخ الكبير لا وجود لها في مناورات السبسي لأن الانتقال هو لشخصه وليس من أجل قضية تتعلق بما يعظم في عين العظام.
ويتأكد ذلك لما نمر إلى القياس على “عيافة” الجنرال دوجول لسلوك من كان “يتصورهم أبطالا مثله” لأنهم شاركوه في اخراج فرنسا من الهزيمة ومن منطق فيشي. فهنا أيضا يمكن ان نجد وجه شبه بين الإنساني الأدنى في الشعور بالعيافة عند الرجلين. لكن لا وجود لشبه بين عيفوا ولا من عافوا ولا ما لأجله حصل الشعور المستبشع للسلوك من الكبار للصغار بمنطق المجد التاريخي للرجال التاريخيين. فعلاقة قزم بأقزام لا تقبل المقارنة بعلاقة بطل بأبطال.
وأصل إلى بيت القصيد: هل كان سفيان واعيا بأنه يهجو إذ يبدو مادحا وأنه في المقابل يمدح خصوم السبسي إذ يبدو هاجيا في مسألة الانتقام؟
هل يعلم السبسي أنه يستجيب لأحوال نفسه المريضة ويعرض تونس إلى أخطار قد تفوق ما عرضتها إليه نهاية بورقيبة المريضة وحتى نهاية ابن علي الدرامية؟
فموقف الجنرال دو جول من الجيش الفرنسي في الجزائر لم يكن بسبب ما يعاني منه شعور إزاء خصومه بل لأنه قدر أن الجزائر لو صارت فرنسية لكانت فرنسا هي التي ستصبح جزائرية بدليل قوله: هل تريدون مدينتي التي تسمي صاحبة الكنيستين أن تصبح صاحبة المسجدين؟
لم يكن ما فعله دوجول رد فعل بـ”حال نفس” بل كان فعلا استراتيجيا يحافظ على هوية فرنسا وعظمتها وليس رد فعل ينتقم ممن لم يريدوا أن يجعلوا فرنسا لعبة لابنه واسرته مثل السبسي. ذلك ما لم يقله سفيان وما أظنه يجهله. ونأتي إذن إلى مشكل هذا المقال الذي كتبه سفيان بلغة تستمد مجدها من عظام أهلها وإلا لما استعملها سفيان وهو يجيد العربية: التاريخ الصغير الذي ينسينا التاريخ الكبير هجاء وليس مدحا. ولست بحاجة للتذكير ببيتي المتنبي حول قدر العزم.
وقد اكتفيت بالكلام على الرهانات الدنيوية لأني لا اعتقد أنه يحق لي أن افترض مشاركة الأخ سفيان لي في الاعتقاد بأن للدنيا ما وراء. لكن ثقافتنا توجب دائما أن نتصور أن الإنسان في سن السبسي مهما كانت عقيدته يفكر في المجدين الآخرين: - السمعة الطيبة بعد الوفاة في الدنيا.
- وربما تجنب غرق شعبه في الفوضى إذا آمن بملاقاة ربه.
وأخيرا وبصرف النظر عن موقف سفيان وقصده فإني أفهم أنه يفهم ضرورة ألا يصبح التشابه السطحي مدعاة للخلط بين وجوه الشبة بين أحوال النفوس في ما هو “إنساني بلا حد في الضعف الدنايا” بالمعنى النيتشوي الذي قد تشترك في كل أحوال النفوس إذا أخذناها معيارا لعظائم الأمور. وبين أنه ليس في سلوك السبسي شيء منها إطلاقا فهو قزم عضويا وروحيا نأمل أن ينجي الله تونس من أفاعليه وخاصة من اعتماده على المافية الثانية في البلاد أعني الاتحاد الذي هو أفسد من مافية ابن علي وشريكها في مآل تونس الحالية.