لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهسر نكباتنا فقدان الدول لشروط عملها العقلية
عندما عرفت الفرد الإنسان بمقومات كيانه دون فصل بين البدن والروح أشرت إلى خاصيتين: 1. لا بد من المقومات الخمسة في كل فرد 2. كل فرد يتميز بغلبة إحدى هذه الخاصيات عليه فتكون محددة لطبعه ولكل ما يتجلى في شخصيته. فاعتبرت ذلك معيارا لتصنيف الطباع البشرية في كل الحضارات. واستنتجت من ثم أن كل الجماعات فيها خمسة أنواع من الأفراد إذا صنفناهم بحسب المقوم الغالب عليه وبذلك صنفت النخب بوصفها المبرزين في الجماعة في هذه الاصناف الخمسة: 1. نخبة الإرادة 2. نخبة المعرفة 3. نخبة القدرة 4. نخبة الحياة 5. نخبة الوجود. وعند تطبيق ذلك على الجماعة بوصها كيانا متميزا عن غيره من الكيانات الجماعية يمكن القول إن نخبة الإرادة غالبة على الساسة ونخبة المعرفة على علماء الطبيعة والتاريخ ونخبة القدرة على المنتجين ماديا ورمزيا ونخبة الحياة على الفنانين والرياضيين ونخبة الوجود على الرؤى الدينية والفلسفية. فتكون دولة الجماعة السوية التي تعمل فيها هذه المقومات التي تصبح أعضاء كيان الجماعة هي صورتها التي بوصفها “ذاتا” مثل كيان الشخص الإنساني رغم كونها ذاتا معنوية وليست ذاتا طبيعية. وهي معنوية لأنها تمثل الجماعة بمن تختارهم من هذه النخب لقيادة إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها. والقصد بـ”الجماعة السوية” الجماعة التي لا يكون من يقود إرادة الجماعة مميزا بين إرادته وإرادتها وعلم الجماعة بين علمه وعلمها وقدرة الجماعة بين قدرته وقدرتها وحياة الجماعة بين حياته وحياتها وجود الجماعة بين رؤيته ورؤيتها. وكل ذلك في نسبة الكلي إلى الجزئي. وبقدر ما يكون المثال بالنسبة إلى الافراد العاديين ألا يفنوا في إرادة الجمعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها وبين نظائرها الخاصة به بقد ما يكون المثال أن بالنسبة إلى من كلف بنيابة الامة فيها أن يمحي أمام إرادة الجماعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها أو على الأقل الا يفعل العكس. ذلك أن ممثل إرادة الجماعة لا يعمل بهواه بل بما تتوصل إليه الجماعة في تحديد ما تريد وهي لا تتوصل إلى ذلك إلا بمشاركة أصحاب العلم والقدرة والحياة والوجود فيها. ولا أحد منهم يفعل بهواه فمجتمع العلماء ومجتمع القادرين ومجتمع المعبرين عن الحياة ومجتمع المعبرين عن الرؤى هم “ذاتية” الامة. فالأمة تكون دولتها “ذاتا” عندما تعمل بالمقومات الخمسة في آن: فهي مريدة وعالمة وقادرة وحية وموجودة ككائن متعض وعضو الإرادة مجتمع الساسة حكاما ومعارضين وعضو المعرفة مجتمع العلماء ونقادهم وعضو القدرة مجتمع المنتجين ماديا ورمزيا وعضو الحياة مجتمع الفنانين وعضو الرؤية الدين والفلسفة. كيف يكون ذلك؟ كيف تعمل الدولة وكأنها فرد بالمقومات المتعينة في نخبها التي هي دائما جمعات في نفس الجماعة الوطنية التي لا تقوم إلا بفضل معادلة ينتظم بها عمل هذه الاعضاء المتراكبة والتي تشبه ما يوجد عند الفرد من مقومات هي الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود؟ وهنا نصل إلى القاعدة الذهبية: فلا بد للساسة (حكما ومعارضة) رؤية أو رؤى حول مصالح الامة وأهدافها وخاصة مشروعها المحدد لمنزلتها في تاريخ المعمورة فيلتقي ممثلو الإرادة وممثلو الوجود التقاء النظر والعمل الأول لأصحاب الرؤى والثاني لأصحاب الإرادة. واللقاء ليس بالتساوق فحسب. بل هو بالتوالي ايضا. فالساسة ليسوا خالين من الرؤى بحيث يستمدونها من أصحابها بمقتضى الاختصاص بل هم ورثوا من تراثهم وتربيتهم الرؤى المشتركة للجماعة لكنهم يحتاجون لسماع المختصين فيها وفي ما يتجاوزها ومن ثم فهذا هو المستوى الاول من الدولة ككائن ينظر ويعمل. لكن هذا الكائن الذي ينظر ويعمل لا يستطيع أن يعمل إلى في حدود قدرته. ومن ثم فالمستوى الثاني من عمل الدولة هو النسبة بين الإرادة صاحبة الرؤية بالقدرة صاحبة الفعل الذي ينقل الرؤية والإرادة من الاذهان إلى الاعيان. فحتى لا تكون الإرادة أماني والرؤية حلما لا بد من قدرة مادية ورمزية. لكن القدرة المادية أو الانتاج المادي ليس كحال العرب الآن مجرد مادة خام يبيعونها مقابل خردة يستوردونها بل هي ثمرة إبداع علمي وتقني يستخرج الثروات الخامة ويحولها ويبدع المناهج والأدوات والبضائع والخدمات وكلها مشروطة بدور البحث العلمي لعلاج العلاقة العمودية مع الطبيعة. والتاريخ. القدرة المباشرة هي الاقتصاد والثقافة لكنها لا تحصل من دون القدرة غير المباشرة اي العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاولى لعلاج العلاقة العمودية بين الجماعة والطبيعة والثانية لعلاج العلاقة الافقية بين الجماعة وذاتها وبينها وبين الجماعات الأخرى على مستويي الحماية والرعاية للسيادة. لكن هذا المستوى الثالث يتعلق بالأدوات وليس بالغايات. لا بد أذن من علاقة بين المستويات السابقة مستوى الغايات الذي عرفه ابن خلدون بمستوى الأنس بالعشير أي مستوى الحياة والذوق. فالمستوى المتعلق بالقدرة المادية هو ما يسميه ابن خلدون بالعمران البشري. وهذا يسميه الاجتماع الإنساني. وهذه المستويات ينبغي النظر إليها سكونيا وحركيا (ستاتيك وديناميك). فعندما ننظر سكونيا فإن الامر يتعلق بقرار الإرادة ذات الرؤية التي تعتمد على ما عندها بالفعل من قدرة مادية ورمزية نتجت عن إبداع علمائها في البحث العلمي النظري والتطبيقي لإنتاج الثروة والتراث. لكن لا شيء ثابت. فهذه الحالة معرضة للتغير بعلل داخلية ذاتية للجماعة وبعلل خارجية صادرة عن التنافس بين الجماعات والدول. فتكون الإرادة ذات الرؤية في تغير دائم ولا يمكنها أن تواكب التغير الداخلي والخارجي بذاتها وحدها بل لا بد أن تواكب قدرتها المباشرة وغير المباشر لهذا التغير: المستوى الخامس. وهو مستوى ذو علاقة وطيدة بالقدرة غير المباشرة أعني بالبحث العلمي الطبيعي والتاريخي لكنه من جنس مختلف. وله بعدان: الأول هو الاطلاع على حال الامة وهي وظيفة الاستعلام والاعلام السياسيين إذا كانا بحق في خدمة الامة وليسا مخترقين وخائنين بصورة تجعلهما من جنس جل المخابرات العربية. والثاني هو الاستراتيجية الاستشرافية الدائمة أو الخطط العامة للتطوير الدائم بافتراض أسوأ السيناريوهات في الداخل وفي الخارج ووضع فرضيات لعلاجات متعددة حتى يكون للاستشراف معنى. وهذا يعني دراسة الدولة نفسها والجماعة من حيث إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها بصورة دينامية. والطريف في هذا المستوى المضاعف -الاطلاع على الحال والاستشراف- هو قلب العلاقة بين النظر والعمل في الدولة والجماعة. فالمعتاد أن الدولة والجماعة كيان عملي وليس كيانا نظريا. لكن هذه العلاقة تجعلهما كيانا نظريا أكثر مما هو كيان عملي وهو معنى أن الدولة “ذات” أي إنها ذات وعي كالفرد. فالفرد من حيث هو واع بذاته وبمحيطه هو دائما في وعي بحاله وفي انجناق (من المنجنيق) في المستقبل ليا يكاد يعيش حاضره لأنه مشدود دائم إلى الغد في اندفاع دائم لتوقع المستقبل والاستعداد له إذا كان بحق واعيا. ومن علامات ذلك أن الإسلام لا يفرض الزكاة على من ليس له النصاب “عولة “سنة. فتكون الدولة بهذا المعنى نظاما رياضيا يعمل بالإسقاط على المستقبل انطلاقا من العلم الدقيق بالمعطيات الحالية وبالمنحني الفعلي لقدرتها بالمعنى الذي حددناه. وبنحو ما فهذا قصد هيجل بعد الدولة هي والعقل سواء لأن العقل معناه “عقل” أو قيد الاشياء للتعامل معها على علم بقوانينها. وطبعا ليست أقصد التخطيط بالمعنى السوفياتي للكلمة بل اقصد شيئا آخر: فالسوفيات خططه ليست مبنية على علم بل على إيديولوجيا وعلى قهر المواطنين حتى يطابقوا خطط الحزب وليس على المعرفة العلمية التي يعدها مختصون أحرار لا يتقيدون بغير شروط البحث العلمي في الكشف والعلاج. وهنا لا بد من بيان المحددات التي تبين أن ما أتكلم عليه لا علاقة له بالتخطيط بالمعنى السوفياتي لأن ما أتكلم عليه لا يحصل إلا في جماعة مؤلفة من مواطنين احرار كل في مجاله. فلا يقبلون أن تحرف الإرادة المعرفة والقدرة والحياة والوجود وهم أمر كان ولا يزال سر كل نكبات العرب.