1-كثيرا ما يضع أحد ابني وبعض طلبتي هذا السؤال: ما سر جرأة الأعداء على السنة وعلى الإسلام من قرب منهم ومن بعد؟ وعنوان واحد قد يكفي لتحديد العلة الأصلية والأظهر للجميع: إنه سر الانحطاطين وما ينتج عنهما من ضعف وتبعية.
2-لكن الجواب البدهي ليس صحيحا دائما: فالغرب تجرأ على من هو قوي وغير منحط (ألمانيا واليابان والسوفيات) وهادن الأضعف والمنحط (جل توابعه).
3-لذلك فلا بد من طلب العلة الحقيقية التي تفسر استعداء الغرب لما ينيف عن ربع البشرية رغم أنهم لم يمنعوه من مواصلة استغلالهم والتحكم فيهم.
4-فجل البلاد الإسلامية فيها قواعد أمريكية وغربية وجل حكامهم يأتمرون بأوامرهم بل ويطبقون آراء خبرائهم لتوطيد التبعية المادية والروحية.
5-علينا إذن أن نحدد طبيعة هذا السر. فلعل التشخيص يساعد على التعليل الحقيقي الذي يمكن من العلاج الشافي لأن أدواء الأمة لم يبق لها إلا الكي.
6-والكي من حيث هو آخر الدواء تعيش الأمة الآن وجهه السلبي الذي يتمثل في الحرب الأهلية التي عمت الأقطار العربية كلها إن ليس بالفعل فبالقوة.
7-ذلك ما سنفحصه بالدقة اللازمة غدا إن شاء الله لأن الليل تقدم الآن (منتصف الليل) وأفضل أن يكون البحث متمهلا ومعمقا لنخرج من مرحلة العلاج السلبي: الكي.
8-إن أولى مراحل آخر الدواء أي الكي هو الغليان والفوضى المادية والروحية اللذين تعيشهما الأمة وخاصة شبابها بجنسيه في جميع أوضاعهم الوجودية.
9-والكي المعالج مرحلته السلبية قد تقتل وقد تشفي. إنها مرحلة شديدة الحراجة إذ هي تتأرجح بين الهبوط والصعود اختبارا لمناعة الأمة وطاقتها.
10-فالشافي من الكي هو غسل الأدران وتصليب الكيان بتخليصه مما فسد من خلاياه الميتة والمتعفنة والسرطانية. وكم هي كثيرة في جسد الأمة بسبب الانحطاطين.
11-والقاتل من الكي هو ما في حيوية الأمة من عدم انتظام جارف يحولها اضطرابا وزلزالا لكأنها الجسد الحي الذي فقد جهازه العصبي فآل إلى التهديم الذاتي.
12-والأعداء يحاولون تغليب هذا الوجه التهديمي الذاتي على ذاك الوجه التخليصي من الأدران وذلك بمسار حرب الكاريكاتورين من التأصيل والتحديث : نخبة التأصيل الكاريكاتوري تمثل الانحطاط الموروث عن ماضينا ونخب التحديث الكاريكاتوري تمثل الانحطاط الموروث عن الاستعمار.
13-ورهان الحرب هو منع قوة العرب خاصة والمسلمين عامة قوتهم الجبارة وذات العنفوان العجيب من الانتقال من القوة إلى الفعل. وعلة حرص أعداء الامة هي علمهم بها على تجربة سابقة.
14-ومثلها علة استراتيجية الأعداء. فهي مجربة هي بدورها لأنها استعملت في خمسة حروب علينا: الصليبية والمغولية والاستردادية والاستعمارية وبدايات الحالية.
15-ومن يريد أن يفهم السر في هذه الحرب فلينظر في المنحى الفكري والدراسي لرمزين من الاستشراق المخابراتي: لويس ماسينيون وبرنار لويس. فكلاهما ركز على العامل الثابت فيها والقابل للتوظيف التخريبي.
16-فالمعرفة بسر الحركة الهدامة التي بدأت من البداية هي الطريق لإحياء استعمال حركات التحريف النسقي للقيم الإسلامية للانتقام من ثورة الإسلام الأولى.
17-وهذا التحريف التخريبي ينتقم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الإسلام للامبراطوريتين اللتين أزالهما من الوجود. وهو تخريب متحالف مع التحريفين الأصليين أعني اليهودي والمسيحي.
18-وتحريف الطوائف الإرهابية (بقايا الدولة الفاطمية خاصة) وتحالفها مع التحريفين اليهودي والمسيحي له وجه صريح ووجه متنكر يتعين في عبادة الدنيا والأنسنة الحديثين.
19-وتعريفها بأعيانها يحيلنا مباشرة إلى البقايا الخمس أي مليشيات إيران وإسرائيل العربية: بقايا الباطنية والصليبية والعلمانية والليبرالية والقومية الفاشية التي هي أداتهم وبرقع تنكرهم لجعل العروبة حربا على الإسلام.
20-تلك هي المعاول الاستعمارية بتوظيف الأقليات الغالية. وهي اختصاص هذين المستشرقين: لويس ماسينيون واختصاصه في النصيرية والتصوف المتفلسف المزعوم وبرنار لويس واختصاصه في الحشاشين.
21-وبأوجز عبارة: فهزيمة الألمان واليابان والروس حصلت رغم قوتهم بالفعل. لكننا رغم ضعفنا بالفعل لم نهزم منذ ما ينيف على أربعة عشر قرن وذلك هو السر: القوة التي كانت بالفعل للصمود وهي قابلة لأن تصبح كذلك للاستئناف.
22-والسر هو ما لنا بالقوة الكامنة والتي صمدت وكذبت توقعي هيجل في فلسفة التاريخ و في فلسفة الدين. فالإسلام لم يخرج من التاريخ والإسلام صار مستقبل الإنسانية الروحي والحضاري.
23-فماسينيون اهتم ببقايا الباطنية وركز على الشام وإيران. وكان تأسيسه لجمعية قبطية يستهدف تمسيح مسلمي مصر بدعوى جذام المسلمين رمزا له بمصير اسماعيل (الذي نفاه إبراهيم لأرض الحرم).
24-ومثله فعل لويس مع نفس التركيز ولكن بـالالتفات إلى تركيا أعني أن الرجل درس نفس الجراثيم التي ينبغي استعمالها واهتم بالجسم الثاني الذي ينبغي تخريبه والتخريب الجامع يستهدف الشعب الحامل للنشأة الأولى : سنة العرب.
25-بإيجاز: نفس الجراثيم لتهديم ركني الصمود في الملة مصر وتركيا لأنهما استعادا حيوية الإسلام بعد أفول دولة العرب (سقوط العباسية) فتغلبا على الصليبية (مصر) وعلى الاستردادية (تركيا).
26-وكلاهما يتصور أن المعادلة في القرن العشرين التي تغلب فيها الإسلام على محاولات القضاء عليه بالاستعمار-كما توهم هيجل- ما تزال نفس المعادلة: مصر وتركيا.
27-ولكن ليس في ذاتهما بل بوصفهما جناحي القلب الذي هو الجزيرة العربية ماديا والقرآن والسنة روحيا. ومعنى ذلك أن فصل الجزيرة عنهما قاتل للسنة.
28-وقد شاء الله بمكره الخير فقيض للأمة ملكا صالحا شبب القيادة وقام بأولى محاولات قطع دابر البقايا الخمسة أي مليشيات إيران وإسرائيل العربية.
29-وليس بالصدفة أن بدأت هذه المحاولة الأولى بـاليمن: عاصفة الحزم. فاليمن هي مصدر حضارة الشعب الذي يمثل بداية تكوين الحامل التاريخي لثورة الإسلام ولسانه العربي. وتحريره هو البداية الحقة.
30-فلكأن التاريخ دار دورة كاملة ليعيدنا إلى النشأة الأولى ما يذكر بأصحاب الفيل (مليشيات الملالي هم أصحاب الفيل): وحدة الجزيرة والرسالة حماية منطلقها وسهمها الحاملة ماديا الحرم وروحيا القرآن.
31-اكتشفنا السر فلننظر في كيفية الانطلاق منه لتحديد وصفة الدواء التي تنقلنا من الكي السلبي الذي ينظف الجروح لكي تندمل بالكي الإيجابي.
32-ما قصصته عن ماسينيون ليس مجرد قراءة لأعماله بل هي معلومات مباشرة من حوار مع ابنه ومعارفه الأوروبيين الذين حضروا بمناسبة مئويته في جامعة القاهرة فضلا عن فضحه من قبل دراسات ماكس هرتون حول التصوف ومحاولة تمسيح الحلاج.
33-كما أن انتسابه إلى أجهزة الأمن الفرنسية لم يكن سرا سواء خلال عمله في المغرب الأقصى أو خلال تدريسه بجامعة القاهرة مع أغرار التحديث (كطه حسين وغيره).
34-أما لويس فمعرفتي بفكره كانت من خلال قراءة رسالته حول الحشاشين وباقي دراساته للإسلام الحالي ومقترحاته لتحجيم أي إمكانية حقيقية لنقل ما بالقوة إلى الفعل ودائما بالاعتماد على الأقليات المخربة.
35-وما كنت لأنشغل بالرجلين لو لم يكونا عندي ممثلين للتوظيف الشرير للاستشراق دون نفي أن هذا التوظيف على شره مفيد لأنه من نوع الكي السالب.
36-لكن الكلام في الاستشراق لا ينبغي أن يهمل بعض الصادقين من المستشرقين فآن ماري شمل مثلا مع علمها الموضوعي تشهد بأن ماسينيون كان من المخابرات.
37-وبذلك يتبين أن الجرأة على المسلمين ليست ناتجة عن ضعفهم بل عن الوعي بقوتهم رغم أنها ما تزال بالقوة لكنهم يقدرون أن حظوظ مرورها إلى الفعل كبيرة وخطرها على طغيانهم معلوم بالتجربة: يحاربونها وقاية.
38-وفي الحرب الوقائية تكون الحرب النفسية والقوة اللطيفة أقوى الأسلحة وبهما يحاربنا الأعداء بالوكالة مستعملين البقايا الخمس طوابير خامسة خاصة بقيادة الشرطي (إسرائيل) ومساعده (إيران).
39-لكنهم لا يكتفون بذلك بل يستعملون كذلك سلاحين آخرين إضافة إلى مليشيات إيران وإسرائيل الخمس: إنهما بعض الحكام العملاء والخونة وبعض المقاومات التي تستخدم الإسلام بدل خدمته.
40-كما أنهم لا يتورعون عن استعمال القوة العنيفة لتهديم كل محاولة لبناء شروط الاستقلال المادي بتهديم مراكز الحضارة وتشويه المرجعيتين:قرآنا وسنة.
41-وهكذا فقد حددنا السر وأدركنا سابق علم الغرب به وطبيعة الاستراتيجية المعرفية والسياسية التي يستعملها للتصدي لما يرجحون قدرته على تهديد استفرادهم بسلطان العالم.
42-ومعنى ذلك أننا لسنا مهووسين بالظن أننا مستهدفون وحدنا-كما يزعم من يتصورنا نتهرب من تحمل المسؤولية والاتكاء على نظرية المؤامرة-بل إن الغرب لا يريد أن يقاسمه غيره من البشر الوجود فضلا عن السيادة في العالم.
43-استتبعوا اليابان والألمان والروس والصينيين. ونحن ما زلنا نقاوم هيمنتهم منذ الصليبية. وهم يحاولون. والنصر بإذن الله وعونه سيكون حليفنا لأننا حتى وإن كنا مستتبعين ماديا فإننا ما نزال صامدين روحيا وتلك علة حربهم على القرآن والرسول.
44-فالله قد من علينا بشرطي الصمود والاستئناف فضلا عن وعده للأمة الشاهدة بالنصر: فلنا شروط القوة المادية التي لا مثيل لها (ثروة الدار) ولنا القوة الروحية التي لا يغلب المؤمن بها (مرجعيتي الأمة).
45-والجامع بين القوتين هو تاريخ الأمة بانتصاراته وحتى بهزائمه المؤقتة التي جعلت الأمة طائر الفينيق يستأنف مما يبدو رمادا: فهو تاريخ الصمود من النشأة الأولى إلى الاستئناف الحالي. لم نخرج من التاريخ كما يتوهم هيجل بل عدنا إليه بحزم وعزم.
46-سنقف عند هذا الحد للنتقل لاحقا -متى؟ الله أعلم-وسنعود لنتكلم في قدرة الأمة على نقل إمكاناتها من القوة إلى الفعل وشروط تحقيق هذه القدرة قريبا.
47-ومعنى ذلك أننا لا نتكلم على ماض نفاخر به يائسين من المستقبل بل مدار كلامنا على مستقبل كل شروطه متوفرة واجتماع معركتي التحرر والتحرير هي البداية الفعلية للاستئناف.
48-فتلاقى ما بدأ من بلاد القيروان (ثورة التحرر من الاستبداد والفساد) وما بدأ من بلاد الحرمين (ثورة التحرير من الاستضعاف والاستتباع) بداية بعد تجربة مرة كادت تفرق بينهما عندما التزمت بلاد الخليج بتمويل الثورة المضادة.
49-لكن الله مكن الحرمين من فرصة التدارك فكان اللقاء والبداية بمعنيين. الأول بداية إدراك الترابط بين الثورتين فلا يمكن التحرر من دون التحرير. فمن ينصب الاستبداد والفساد هو من يستخدم العملاء.
50-والمعنى الثاني يتمثل في أن العلاقة بين الثورتين تعيد سبب الانتصار الأول: فمصير الحكام لم يعد رهن الحامي الذي تخلى عن الحماية بل بات رهن مصير الشعوب ومن ثم فالحكام سيستغنون عن الحامي الأجنبي بالشعب.
51-فالعدو باعهم لمن هو أعدى منه وأقل احتراما حتى للمظاهر وذلك لما كلفه بدور شرطي المنطقة. فإسرائيل وإيران بغلوهما سيفقدون الحكام كل سيادة ولن يبقى لهم إلا طلب الشرعية.
52-وقبل الكلام على المقاومات كما تكلمنا على خائن الحكام لا بد من الرد على اعتراض محتمل: كيف اعتبر الألمان واليابان والروس مهزومين؟
53-والسؤال ذو صلة بما يعتبره عملاء النخب هزيمة إسلامية بالأحرى. وطبعا كل القضية تتعلق بالنصر والهزيمة ما هما: يتعلقان بـالإرادة والسيادة وبفقدانها.
54-ـألمانيا واليابان وروسيا لهم قوة مادية. لكنهم يستمدونها من التبعية للافق الأمريكي: هم في الحقيقة خدم عند أمريكا إذ إن أغلب قوتهم الاقتصادية خاضعة للشركات العالمية ذات السلطان الأمريكي خاصة. ليس لهم أفق روحي مختلف.
55-أما المسلمون-السنة- فرغم ضعفهم بالفعل تعد قوتهم التي بالقوة أفقا وجوديا وقيميا يحتوي على بذرات تحرير الإنسانية من مرض الإخلاد العولمي إلى الأرض.
56-ها أنا قد فرغت من وضع المشكل وتحديد سر الجرأة علينا: ليس الضعف الذي بالفعل بل القوة التي بالقوة وطبعا فالضعف مساعد لكنه ليس السر الحقيقي. ويبقى بيان كيف أن هذا الـسر يفسر جرأة المليشيات الخمسة والذراعين المستعملين لهما وقائد الحملة أمريكا.
57-ذلك هو موضوع القسم الثاني المتمم لهذه المحاولة ببيان سر الجرأة على السنة التي هي جوهرالإسلام والممثلة لـ90 في المائة من المسلمين بحق. نعود إن شاء الله.
سر جرأة أعداء السنة عليها – أبو يعرب المرزوقي