“سباحة الوجود” – الخلود تجل للوجدان في عين الكيان


يعبق المكان.
فيتكثف الزمان.
فيشهد الإنسان.
فتعلم لم استخلفه رب الأكوان.
ليهزم الشياطين.
ويعلو على الملائكة المقربين.
رمز نشهده في الأعيان.
في معاني شهادة الإنسان.
تلك هي ذروة العبادة.
تصديقا لحمله الأمانة.
في معركة الإرادة الحرة.
في معركة المعرفة الصادقة.
في معركة القدرة الخيرة.
في معركة الحياة الجميلة.
في معركة الرؤية الجليلة.
في الاشرئباب إلى الخلود.
في المسعى من الموجود إلى المنشود.

إن الموت من أجل قيمة مثله مثل الهجرة.
فكل هجرته لما هاجر له.
والموت هجرة إلى ما يعلو على الإخلاد إلى الأرض.
فيكون شهادة حتى بظاهره.
وقد لا يكون كذلك في باطنه.
والثورة هجرة كل قتيل فيها شهيد.
فالجامع بين قتلاها هو ما يتعالى على “حياة” هو جوهر “الحياة”.
جوهرها الذي يعلو على ما يحول دون حرية الإنسان وكرامته.

ثورة الأمة الاستئنافية جهاد لاسترداد بعدي رئاسة الإنسان وحقيقة منزلته الوجودية كما عرفها ابن خلدون “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” (المقدمة الباب الثالث الفصل 24 من المقدمة).

لأجل إحياء هذا المعاني ذكرى لن تموت دعاني أخوة كرام إلى جنوب تونس وقلبها دائم النبض متردد النفس بين البسط والقبض.
تونس التي كل شبر فيها يمثل عندي منبع الحياة ومعين المعنى وأركان المبنى وجوهر ما في الوجود من منشود أسنى.

لكن الجنوب يبقى عندي بؤرتها وبؤبؤ عينها.
ذلك أني أرى فيه عبق المكان وتكثف الزمان.
ففي كثبان رماله وفي سامق نخيله وفي حياء نسائه وفي شجاعة رجاله أرى أبعاد الزمان الإنساني كلها: أحداث ماضيه وحاضر حديثه وأحاديث مستقبله وفجر أحداثه. لحظة الحاضر هي دائما لحظة محيطة بالماضي انطلاقا من بدايته ومحيط بالمستقبل سعيا إلى غايته.
يُطوى المكان فيصبح نقطة.
ويُكثف الزمان فيصبح لحظة فإذا بهما عين الكيان الذي تتجلى فيه حقائق الوجدان ماثلة في الأعيان للعيان.

لم أسهم في إحياء ذكرى الشهداء بل الذكرى هي التي أحيت ما في من معنى الشهادة.
ما حصل -على الأقل في ما عشته في هذه الليالي الثلاث بين أخوة وأصدقاء- هو الذي أحيا في من جديد نفس الشعور الذي عشته عندما شاركت في بداية الثورة التي هي الآن في أكثر لحظاتها حراجة. لكنها شبه استرجاع لشباب ثورة الشباب ولما عشته إذ جلت معهم في تونس كلها من شمالها إلى جنوبها جيئة وذهابا. إنها لحظة اعتبرها أكثر لحظات الثورة بلاغة على المنعرج الذي هي مقبلة عليه.

هي بلاغة تبرز أهمية تونس في لحظة الأمة التاريخية. فتجربتها صارت بؤرة الصراع في المحل وفي الإقليم وفي ما حوله من العالم الطامع فيه. تونس اليوم مرآة عاكسة عكسا أمينا لما يجري من رهانات هي سلبا محاولات أعداء الأمة لمنعها من الاستئناف. وهي محاولات تجري فيها وفي الاقليم الداخلي (المنتسب إلى لحضارتنا) وفي الإقليم المحيط به (الغرب الأوروبي والشرق غير المسلم) وفي المعمورة كلها ممثلة بالتقاطب الذي عاد ساعيا لتقاسم الإقليم بين المشرقين والمغربين (أمريكا وذيلها إسرائيل وعملائهما من العرب وروسيا وإيران وعملائهما من العرب).

وما كان ذلك ليكون كذلك لو لم يكن ما يحدث في تونس رغم كون أعدائها في هذه المستويات جميعا يحقرون منه فيعتبرونه عبريا أو “برويطيا” أو “لا شيء” لو لم يكن فعلا فجر الاستئناف. والدليل القاطع هو أن اللحظة صارت بفضل ما يجري في ليبيا التي علاقتها بتونس هي علاقة وجهي العملة أحدهما بالثاني رمز الاستعصاء الرمزي للاستئناف لكان التاريخ توقف ليعود فيحسم حرب الاسترداد بفضل بطولة شبابها لحظة شبه ملغية لما مر بين سايكس بيكو الأولى ومشروع الثانية واستئنافا للحسم في حرب الاسترداد بين الرهانات ولكن بالاتجاه المقابل في منحنى التاريخ الكوني.

فقد عاد الصراع إلى ما كان عليه لحظة إسقاط الخلافة ليصبح صراعا ليس على عودتها على ما يعيد أهدافها مع تجديد شكلها ليناسب أنظمة العصر الحالي وليس شكلها القديم. فالرهان لم يعد شكل الخلافة بل مضمونها ومقاصدها. إنه الجواب عن سؤال الشروط التي تحقق للأمة مقومات الندية مع عمالقة العالم في القوتين المادية والروحية. فلا يمكن للأمة أن ترفع تحديات نظام العالم الجديد من دون شروط القوة الفعلية بأبعادها الخمسة:

  1. وأولها التحرر من تفتيت المكان.
    فقد أصبحت شعوب الأمة منعزلا بعضها عن البعض مكانيا بعد أن صيرها الاستعمار المباشرة والنخب العميلة التي تنوبه في شكله غير المباشر سجينة محميات مكانية لا تستطيع بسببها أن تحقق شرط السيادة المادية. فتقزيمها بحدود الجغرافيا السياسية التي فرضتها عليها سايكس بيكو السياسية هي التي تحول شروط التنمية المادية والازدهار الاقتصادي وهي التي جعلتها تابعة بنيويا بالطبع في شروط إعالتها العضوية المادية.

  2. وثانيها التحرر من تشتيت الزمان.
    فقد أصبحت شعوب الأمة منعزلا بعضها عن البعض زمانيا بعد أن صارت سجية محميات زمانية لا تستطيع بسببها أن تحقق شرط السيادية الروحية لأن تقزيمها بحدود التاريخ السياسي التي فرضتها عليها سايكس بيكو الثقافية تحول دون شروط التنمية الروحية والازدهار الثقافي فجعلتها تابعة في شروط إعالتها الروحية بنيويا ومستعمرة ثقافية بالجوهر.

  3. لكن الحاجة الدفاعية التي هي شرط الشروط أعادت الإقليم إلى لحظة سابقة لم يحرر الأمة منها إلا وحدة الأمة التي لم تكن تعوقها لا الحدود الجغرافية ولا القطيعة التاريخية بين شعوبها. فقد أراد شارل الخامس مؤسس أوروبا الحديثة (بعبارة هيجل في فلسفة التاريخ) ومواصل حرب الاسترداد لإخراج المسلمين من حوض الأبيض المتوسط ليحقق فيها ما تحقق في الاندلس استعادة محيط الأبيض المتوسط استكمالا للحروب الصليب التي هزم فيها الغرب المسيحي فاحتل تونس والجزائر وليبيا بسبب خيانة بعض حكامها.

  4. لكن وحدة الأمة التي لم تفقد عروتها الوثقى التي لا انفصام لها هي التي أحبطت مسعاه. فهزمته الأمة وحررت الضفة الجنوبية من الأبيض المتوسط أساطيل الخلافة التي كانت متحررة من الحدود السياسية وتعلو عليها بفضل الوحدة الإسلامية التي تجعل الامة جسدا واحدا لا يسلم كله إذا اعتل بعضه.

  5. والآن صار الشباب بل صرنا كلنا نعلم أن سلامة الأمة الجماعية لا تتحدد بشكلها مثل شكل الخلافة كما كانت في الماضي بل هي وحدتها الروحية والحضارية. لذلك فهي يمكن أن تتشكل بأشكال أخرى أكثر مناسبة للعصر فتكون في آن واحدة ومتعدة ذات سيادات متراكبة الأعلى يضمن الأدنى ولا يلغيه: إنها وحدة حضارية تجمع بين الوحدة والتعدد فتتحول إلى ما يشبه الوحدات الإقليمية المجانسة لما تحاوله أوروبا وهي دوننا وحدة روحية وثقافية لكنها وجدت فيها شرط مناعتها رعاية وحماية.

وذلك ما وصلنا إليه حاليا في ما يجري في شقيقة تونس التي تمثل صمود جبهة القتال مثلما تمثل تونس صمود جبهة الجدال. فمثلما أن ليبيا تثبت صمود الثورة بالقتال والحرب تثبت تونس صمود الثورة بالجدال والدبلوماسية. فيكامل نوعا الصمود وسلاحا التساند بين فروع الأمة الواحدة في السراء والضراء.

صحيح أن الدبلوماسية ليست سلاحا له مضاء سلاح القتال. لكن صادق الأقوال لا يقل مضاء عن مضاء صادق الأفعال. والفرق بين الصمود الذي يمثله شباب ليبيا والصمود الذي يمثله شباب سوريا تجاوزته الأحداث منذ أن أصبحت ليبيا مثل سوريا لم يبق فيها المدد بالأقوال لمساندة الأفعال كالحال بينها وبين تونس بل صار المدد كما في سوريا قوليا وفعليا لأن الثورة المضادة استعانت بروسيا وكان لا بد إذن من استعانة الثورة بتركيا.

لو بقيت سوريا مكتفية بسند الأقوال وخاصة من تونس-وقد كتبت في ذلك ما جعل الحمقى من علمانيي تونس صبابة النظام وقومييها المزيفين عبيد صاحب البراميل عبد الملالي والعميل يعتبروني مشجعا لداعش لتجاهلهم أن هذه صنيعتهم والاستعمار وليست من حماة الديار- لما استطاعت أن تصمد إمام إيران ومليشياتها وروسيا ومليشياتها وطيرانها وأن تصمد فيها المقاومة التي تمثل الثورة إلى اليوم.

وكذلك في ليبيا لو بقيت من دون أن تنضم تركيا إلى تونس والجزائر في المدد للثوار الليبيين لكادت الثورة المضادة أن تقتلها في المهد أو أن تجهز اليها بأن تفتك منها العاصمة. فزيارتي إلى الجنوب هي في آن وجودي على الحدود التونسية الليبية. وهي عندي جهاد في سبيل الله ومن أجل أمة الإسلام ليس من أجل تونس كقطر بل من أجل تونس كعاصمة الفتح في الغرب الإسلامي أعتبر الزمان قد دار دورته الكاملة لينقلني إلى عكس حروب الاسترداد التي كانت دفاعية.

ما يجري حاليا يدعو إلى التفاؤل وليس إلى التشاؤم.
إنها الخطوات الأولى لحروب الاستئناف التي ستنهي عهد الانحطاط وإلى الأبد وبها سنكون شهودا على العالمين.
ما احتفلت به مع أخوتي في الجنوب لم يكن إحياء لذكرى الشهداء فحسب بل هو تصديق لقوله تعالى في الشهداء: إنهم أحياء عند ربهم يرزقون. وليس في الآخرة فحسب بل فيها وفي الأولى في آن.

فهم بصدد تحقيق النصر الحاسم مع الثورة المضادة العربية بقيادة إسرائيل ومن ورائها أمريكا والثورة العربية بقيادة إيران ومن ورائها روسيا ليس خارج القطر بل فيه لأن الصنفين لهما ممثلون في تونس وخارج القطر في الإقليم من الماء إلى الماء.

ألف شكر للأخوة الذين شرفوني للمشاركة في هذه المعركة التي تبدو معركة أقوال.
لكنها أقوال صدقها يجعلها أفعالا.
وألف شكر لمن صحبني ابني الأكبر الذي تطوع رغم أشغاله.
وصديقي الذي صحبني وهو والمترجم عن بعض اعمالي الفكرية.
والأصدقاء الذين تعرفت عليهم مباشرة خلال اللقاء فمنهم الشاعر. ومنهم الروائي. ومنهم الناقد الأدبي الذي لم أر أجمل منه لسانا. ومنهم الفيلسوف. ومنهم لسان الوجدان الثوري. ومنهم خاصة ممثل الروح الشعبية العملاق. ومنهم القادر على حمل العنز والجدي وكل اثقال الثورة والصمود.
ومنهم من يمثل ما يمثل جلد الشعب في عمومه. كنت فعلا في مسبح الوجود الاشرئباب إلى المنشود والصبو إلى مناجاة الواحد المعبود.
وكل هذه الرسوم التعريفة تعين أشخاصا لا أريد تسميتهم لعلمي أنهم متواضعون ولا يريدون أن أعينهم بالاسم. كما لا أريد أن كذلك أن أورطهم معي لئلا يعتبروهم الحمى من الصبابة كما يعتبروني “اخوانـ”جيـ”ـة ليس خوفا عليهم من الاقتراب مني كما كنت أفعل مع الطلبة لأبعد عنهم الأذى من أهل البلاء لأن مجرد اعتبارهم أصدقاء لي كان يعد جريمة في نظر عبيد الطاغية و”صبابته” داخليته ممن كانون يتصورون أنفسهم “تنويريين” و”حداثيين” وهم مجردة “قوادة” وعبيد “البيادة” ولا يزالون.

والمهم أن من يعرفهم يعرف من أقصد.
وهم يعلمون أني أقصدهم.
ولست أغبطهم إلا على شجاعتهم وقدرتهم على تحمل الأذى من أجل التحرر من الإخلاد إلى الأرض والسمو إلى ما يجعل وجود الإنسان فيها تعميرا لا تدميرا لأنهم بهذا الاشرئباب لا ينسون أن عبادة رب العباد هي التحرر من عبادة العباد فيكون بذلك أهلا للاستخلاف ولحمل الأمانة وتكل هي الضمانة لعدم الخوف على الثورة التفاؤل الذي قد يعتبر مثالية لكنها مثالية عند من ليسوا أهل غفلة بل هي عين الوعي هي لحظة وعي استئناف الثورة بعد غفوة كان يمكن أن تنهي الامل لو إيماني بثابت العمل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي