سايكس بيكو الثانية، من يصنعها؟ الأغيار؟ أم أهل الدار؟

ه

كلام مللت سماعه لفرط خداعه: سايكس بيكو ثانية وغرب يريد أن يفتت المفتت ويشتت المشتتت.
لكن مرددي هذا الكلام يخفون أن الساعين إلى الثانية هم أهل الدار لا الأغيار.
وهم صنفان:
• أمراء الطوائف الحاكمون
• وأمراء الحرب المعارضون.
كلهم يريد إمارة ولو كانت محمية لذراعي الغرب أي إيران وإسرائيل.
ما يجري أشبه بتفتيت الأندلس منه بتفتيت الخلافة العثمانية.
صحيح أن سايكس بيكو الأولى حصلت والأمة في سبات عميق. لكنها لم تكن ساعية إلى ما حصل من تقسيم والأمة تدعي أنها في عملية نهوض منذ قرنين.
ولما حصلت الأولى كانت الأمة تشعر أن ذلك كانت يقطع لحمها الحي ولحمتها المعيشة وكانت تقاوم حتى وإن حصلت بعض الخيانات هنا وهناك. أما اليوم فالخيانة تكاد تشمل كل مكان.
فاليوم وبسبب أمراء الطوائف الحاكمة وأمراء الحرب المعارضة تريد أن تكون محميات على جذاذ من جغرافية الأمة فأصبح أهل الدار هم أنفسهم من يمزق اللحمة وقطع الوحدة ليكون محميات.
والمحميات تابعة لذراعي الغرب الذي جرأهم علينا تقاعس الحكام وغباء المعارضات التي تشوه الأمة وتخدم أعداءها بدعوى مقاومة الغرب المتحالف مع مستعمليهم.
فما من دولة عربية حتى وهي بهذا التمزيق لا تجد فيها صراعا يسعى أصحابه إلى مزيد من التمزيق. وغالبا ما يكون منطلقه الصراع في الأسر الحاكمة نفسها ثم بين القبائل والأعراق والطوائف.
فأي دولة عربية مهددة بالتقسيم اليوم ينبغي أن نبحث داخلها عن علامات هذا التقسيم الذي يهددها: فهو لا يخلو من أن يكون في رأسها (التنافس بين حكامها) أو في قاعدتها (التنافس بين قبائلها وأعراقها وطوائفها).
وطبعا فخطوط الانفجار الممكن كما نراها في العراق وسوريا واليمن هي نفسها التي ينبغي أن نبحث عن نظائرها في مصر والسعودية والجزائر والمغرب وتونس إلخ…
فإحياء النعرات الطائفية والعرقية واللغوية وحتى الثقافية هو الذي سيؤدي إلى تتشقق الوحدات فتؤول إلى حروب أهلية تؤدي إلى انهيار الدول وتكون إمارات طوائف أشبه بالأندلس منها بسايكس بيكو الأولى.
ذلك أن مخططي الأولى كانوا يمثلون دولا استعمارية كبرى لم تكن تسعى لمحو أهل السنة لاستعادة امبراطوريتين سابقتين على الإسلام بل كان هدفهم تيسير النهب الاستعماري.
أما الآن فالهدف أبعد غورا: إيران وإسرائيل تريدان استعادة امبراطوريتين على أرض العرب السنة بالتدمير الحضاري والتهجير وحتى الافناء الديموغرافي.
وبهذه الطريقة تمكن الغرب سابقا من تحطيم الامبراطوريات والدول الكبرى إذ أدخلها في حرب أهلية لا آخر لها ليسهل تدخل الأعداء الذين يصبحون حكما بين الفتات.
ولما كانت الدول العربية كلها مركزية فإنها لن تقبل في البداية بوحدة مرنة تتجاوز المركزية إلى نوع من الفدراليات التي تطفي النار فترفض الفدرالية فتنهار تماما.
كان يمكن للعراق لو كان له ساسة يسحبون لتحديات المستقبل حساب أن يتجنب الأفسد بالأقل فسادا فيكون يكون للسنة اليوم وجود يجعلها صاحبة الحل والعقد في أكثر من ثلث العراق.
فالسنة هي الوحيدة العزلاء اليوم في العراق وسوريا.
كل من عداهم مسلح حتى الأسنان وهم عزل لا حول لهم ولا قوة. ثم برزت فيها خدعة الدولة الإسلامية التي تحقق-بقصد واع أو غير واع- أهداف إيران وإسرائيل بتواطؤ غربي بيّن.
ولو كان لسنة العراق بعض دهاء لكان بوسعها وإن بعد حين استرداد البقية بعد أن تكون قد أصبحت جدار الصد أمام إيران التي اخترقت الكل فأصبحت ذات ممر حتى الأبيض المتوسط.
فإذا كان العدو يخطط للابتلاع المتدرج فإن الذكاء يقتضي أن يكون الصمود بخطوط دفاع متدرجة ومتعددة بدل صمود غبي يؤدي إلى انهيار شامل للعواصم في الهلال والبقية قد تأتي إذا لم نتدارك الأمر.
والمعلوم أن العواصم (المدن الكبرى في العراق وسوريا) تمثل في المتانة الحضارية ما تمثله الجبال في المتانة الجيولوجية: فهي التي تمسك بتوزع السكان على الأرض والسيادة.
وذلك ما وظفت له داعش بقصد واع من قادتها وبغير قصد واع من غالبية جندها: تحتل المدن الكبرى وتتظاهر بالصمود فيقع تهديمها باسم مقاومتها وبذلك تمهد لعملية التهديم يليه التطهير الطائفي والعرقي.
وهذه الاستراتيجية طبقت في أمريكا لتصفية الهنود الحمر وخاصة بعد تكون الولايات المتحدة وطبقتها إسرائيل فبلعت جل فلسطين وتطبقها إيران فبلعت جل الهلال بمساعدة عملائها من العرب.
والعملية الإيرانية الإسرائيلية بصدد الانتقال إلى مصر واليمن وليبيا وقد يتمدد المسعى ليشمل كل أرض العرب من المحيط إلى الخليج.
والمعلوم أن هذا الاستراتيجية تسبقها مرحلتان:
• الأولى تخلق التنافس بين أمراء الأسر الحاكمة باستمالة بعضها ضد بعضها الآخر
• والثانية هي سياسة الخلايا النائمة.
وهما مرحلتان مختلفتان رغم أنهما تتصاحبان بالتدريج: فوظيفة الأمراء الذين يقع إغراؤهم بالتنافس على الحكم يضعف الجميع فيغطي على خلايا الاختراق التي تخترق النسيج بمساعدة هؤلاء الأمراء.
ذلك أنهم يوهمون الأمراء الطامعين في الحكم أو الخائفين من فقدانه بأن الخلايا هي لحمايتهم ضد مؤامرات يوهمونهم بأنها تحاك ضدهم من أمراء آخرين يريدون منعهم من الحكم أو افتكاكه منهم.
وإذن فالمرحلتان لهما ما يشبه الجسر الواصل بينهما وهو بالأساس “جماعة” المستشارين الذي يوسوسون في آذان المتنافسين وهم سماعون لهم مطيعون.
وغالبا ما يكون ذلك بقيادة المخابرات الإيرانية الإسرائيلية وبإشراف مستشار غربي من جنس لاورنس العرب وجميلات أوروبا وإن بأسماء جديدة يقدمون النصائح التي «تودي في داهية».
وكل هذا ليس من خيالي فبه تم تفكيك الاندلس وكل موجات الاستعمار في بلادنا سبقتها هذه الفنون في تمجيد الأرض لتيسير الابتلاع بأقل كلفة كما نرى
ففي أقل من ثلاثة عقود ابتلعت إيران الهلال كله وإسرائيل فلسطين كلها وإيران تجاوزت ذلك إلى اليمن والكويت والبحرين والبقية لعلها قريبة من ذلك. ويكفي أن تنظر في غزو الإعلام: فهو كله في خدمة هذه الخطة وبتمويل عربي.
أما إسرائيل فلم تكتف بفلسطين: غباء النخب المصرية الحاكمة والمحيطة بها بالأفعال والإعلام والنخب الخليجية بـالمال والإعلام أعطوها مصر كلها اي مركز ثقل الأمة العربية وربعها سكانها.
لكني مع ذلك ليست يائسا من أن الثورة التي صمدت في سوريا وليبيا ومصر وتونس وحتى في اليمن لن تتوقف فيها بل هي ستشمل كل هذه المراكز التي ستزلزل زلزالها بنفس الثورة التحريرية.
ذلك أن ما يسمى بالفوضى الخلاقة إذا فهمنا آلياتها يمكن أن تصبح خلاقة فعلا ولكن ليس لصالح الأعداء بل لصالحنا وذلك باتباع خطي دفاع هجومي.
وبهما أنهي لأني لا أريد أن أتهم بالدعوة إلى الحروب: لا بد من أن تعم الثورة كل البلاد المستهدفة ولا بد من أن نطبق لدى العدو ما يطبقه لدينا.
فإيران ليست بمنأى عن الصراعات الطائفية والعرقية ولعلها أكثر من الدول العربية هشاشة لأن أقلياتها ليست أقليات صغيرة بل الفرس ليسوا غالبة كبرى في إيران.
فلا يمكن أن أترك العدو يستعمل هذين السلاحين ضدي ولا أستعمله ضده والبادئ أظلم: وسأستعمله رغم أني نبهت إلى ضرره. والحصيلة هي أن القوة الكبرى لن تكون إلا العرب السنة.
ولا شيء يمنع بعد النصر من أن نحاول مساعدة الجراح على الاندمال بعد أن تفهم الأقليات أن كل من احتمت بهم لم يكونوا يخدمونها بل يستخدمونها.
ويكفي مثال مسيحيي الهلال وما فعلت بهم فرنسا وامريكا أو يهود المغرب العربي وما فعلت بهم فرنسا: فالاستعمار يستخدم الجميع ولا يخدم أحدا.
كلمة أخيرة:
الجسم لا تقتله الجراثيم والفيروسات بل ضعف المناعة وعدم قدرة المقاومة.
فلنقاوم ولنقوي المناعة والنصر سيكون حليفنا بإذنه تعالى.
وليس في كلامي هذا دعوة للحرب بل هو دعاية لفنون تجنبها وقاية وعلاجها. الهدف هو على الأقل الحد منها ومن نتائجها الوخيمة. فالأمر لا يخلو من إحدى امكانيتين قابلتين للتوقع.
فإما أن اقدام العرب على خوض المعركة الآن قبل أن يفوت الأوان سيحول دون جرأة العدو فيراجع نفسه وكفى الله المؤمنين شر القتال. وهو ردع ممكن.
أو أن العدو يتمادى في غيه. ولا أظنه يفعل إذا رأى حزما بحق. وإذا حصل التمادي فإن التصدي له الآن أفضل فهو منهك إذ اضطر إلى الاستنجاد ببوتين.
لكن انتظار انهيار المقاومة في سوريا والعراق واليمن يعني أن باقي الخليج سيكون فيه العدو كالسكين في الجبن: فمن عجزوا والخطر بعيد سيكونون أعجز لما يصبح في عقر الدار.
حينها سيفر كل اللصوص ويتركوا الشعب كما حصل في العراق وسوريا وسيقتل السنة من يتصور تقتيليهم شرط ظهور دجالهم الأكبر. ذلك ما أخشاه من التقاعس الحالي.
لن نكتفي حينها بالتباكي على الأندلس التي يتسوح فيها لصوص ثروات الأمة ولا على فلسطين بل لن نغادر “المتردم” وسنبكي على الأطلال لعدم وجود الرجال واستنواق الجمال.
أما لو اتبعنا خطة التصدي الوقائي فإن الأعداء سيحاولون في البداية امتحان جدية إرادتنا مع عدم جهلهم بقدرتنا إذ هم يعلمون أن امكاناتنا تفوق إمكاناتهم.
فبالمقارنة مع إيران إمكانات العرب الفعلية -حتى لو اقتصرنا على الخليج وحده- أكبر دائما وبالمقارنة مع إسرائيل إمكاناتنا هي بالقوة أكبر والعلاج معها هو القدرة على المطاولة وهي لنا.
لذلك فكلا العدوين بعد امتحان قصير لعزمنا ولوحدتنا خاصة سيجنحون إلى السلم بشروط ليست بالضرورة كل ما نطلب. لكني يكفي ان يبدأ العدو في التراجع.
وحينها سيذوق العرب لذة النصر فتنمو الاندفاعة وتتراكم إلى أن نصل إلى التسونامي الذي يمثله استئناف العرب دورهم في الإقليم قوة أولى. ذلك هو الهدف الأول والأخير للثورة.
والبين أن أصحاب الثورة المضادة من العرب لم يعوا بعد أن حلفهم مع إيران وإسرائيل موضوعيا سيقضي عليهم وعليهم أن يتداركوا أمرهم لأن المستهدف الاول هو هم بسبب ثروتهم المادية (طاقة الخليج) ومركزيتهم الرمزية (مكة والمدينة).

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي