ه
قبل مواصلة الكلام في سايكس بيكو الثانية بالمعاني الكلية أو المقدرات الذهنية التي تعتبر رموزا لا مقومات من خلال تنزيل ما يجعل هذا النوع من العلاقة بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب تكون على هذا الشكل لا بد من ضرب مثال على كيفية عمل المقدرات الذهنية الكلية التي هي رموز للكلام على الأشياء دون أن تكون مقومة لها. فلعل ذلك يقربها من الأذهان حتى لمن لم يعتد على المجردات الفلسفية.
فالمعاني الكلية التي هي رموز وليست مقومات فيها فائدة المعاني الكلية من حيث الفاعلية لكنها متحررة مما تفيده لو اعتبرت مقومة فتكون صفات ذاتية للأشياء. وليس لفعل الترميز الذي يمكن من التعامل معها ككل رمز لسانيا كان أو كتابيا أو حتى إشاريا أدنى دور مقوم للأشياء التي ترمز إليها. وهو أمر شديد الغرابة عقلا. لكن البشر يتعاملون بما هو مثله في كل تبادل وكل تواصل حتى لو لم يعيروا لذلك انتباها.
فلنأخذ التبادل الاقتصادي بين البشر. فهو قد مر-بخلاف التواصل الذي لا نتأكد من اتصافه بما يتصف به التبادل إلا في حالة الأطفال قبل تعلم اللغة-بمرحلتين قبل أن يصبح الوسيط فيه من هذا الجنس أعني مجرد رمز لا علاقة له تماما بالأمور المتبادلة عدى كونه اتخذ وسطيا بقرار تحكمي من البشر.
فبعد المقايضة مرت البشرية بشيء يعتبر ذا قيمة في ذاته كالذهب. ثم انتقلت إلى ما لا قيمة له بذاته عدا كونه رمزا لقيمة العملة أو لقدرتها الشرائية في التبادل البضائعي أو الخدماتي. وتلك هي وظيفة العملة الورقية التي ليس لها بذاتها قيمة وليست مقومة لما يقوم بها وإنما قيمتها تقتصر على وظيفتها أداة للتبادل. ثم تأتي العملة الكتابية والصكوك. فهذه كلها لها الكلية التبادلية على الأقل في بلدها أو العالمية إذا كانت مثل أي عملة لها قوة ما يسمى بالعملة الصعبة دوليا.
وعندما تصبح العملة فاقدة للقوة الشرائية والتبادلية تصاب بالتضخم ومثلها قد تصاب ألفاظ لغة من اللغات بما يشبه التضخم عندما تصبح فاقدة لما تفيده مما تعبر عنه وخاصة من كونها شبه وعد بشيء للمخاطب بها هو فائدتها سواء كانت مضمونا معرفيا أو التزاما خلقيا. وسلوك العملة والكلمة هو المقصود في دور المعاني. وفي الحقيقة سأحكي ترفة عشتها أول مرة زرت فيها بلدا عربيا من المشرق: كنت أعجب من كثرة الكلام الذي يبدو معبرا عن العواطف اللطيفة ثم تبين لاحقا أنه مجرد هواء ونفاق لا يفيد أدنى معنى مما يفاد به عادة. وتبين لي أنهم كانوا يهزؤون من المغاربة وخاصة من الجزائريين الذين يعتبرونهم جديين أكثر من اللزوم ويأخذون الكلام مأخذ الجد فيغضبون مثلا بسرعة. لم يكن الأخوة في الشرق يفهمون القول الشعبي عندنا: الرجل على كلمته ومن أعطى كلمته أعطى رقبته. لكني أعتقد أن المغاربة عامة تمشرقوا منذ مدة لأنهم “تحضروا” إذا قسنا الحضارة بالنفاق. لكن لسوء الحظ العكس لم يحصل: لم يتمغرب مشارقة حتى لو كان الكثير منهم أقرب إلى البداوة من المغاربة.
وتلك هي النقلة التي أنسبها إلى ابن تيمية وابن خلدون والتي هي مماثلة لرفض نظرية المعرفة ونظرية القيمة القائلتين بالمطابقة دون ان يذهب الامر إلى المقابلة الكنطية بين الظاهرات والحقائق في ذاتها. فابن خلدون خاصة رغم نفيه الإحاطة وقوله بعدم المطابقة إلا أنه لا ينفي حقيقة علم الإنسان.
وكان ابن تيمية يرى قبل ابن خلدون ما صار يراه. لكنه لم يصرح بالوضوح الخلدوني لأن الكلام على لا تناهي التصورات ليس مثل القول صراحة الوجود لا يرد إلى الإدراك. فكلاهما ينفي الإحاطة على العلم الإنسانـي أو رد الوجود إلى الإدراك. ومع ذلك فعندهما أن ما يدركه الإنسان ليس ظاهرا من الوجود كما يعتقد كنط بل هو الوجود الفعلي المتضايف مع وجود الإنسان بمعنى أن الإدراك تضايف بين وجودي كوني وجزئي لا يحيط الثاني منهما بالأول. ومن ثم فكل مدرك يدرك ما يتضايف مع وجوده وكلاهما حقيقي وليس ظاهرا من الوجود.
ولما كان إدراك الإنسان متطورا بسبب تاريخية المعرفة والقيمة فإن هذا التضايف هو بدوره متطور بنفس التناسب. ومن ثم فكل عصر له منظومة من المعاني الكلية التي هي موضوع ما يسميه ابن خلدون بحقب التاريخ المديد أو ما يمكن أن يعتبر حقبا في تطور الحضارة الإنسانية. ولذلك فهو كان يعتبر المقدمة تاريخا للتحول الذي حصل والذي يمثل نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة. فالمقدمة تمثل عنده درسا لطروء حقبة جديدة. يقول:
“ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها وهي أن التاريخ إنما هو ذكر الاخبار الخاصة بعصر أو جيل. فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والاعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبين به أخباره. وقد كان الناس يفردونه بالتأليف كما فعله المسعودي في كتاب مروح الذهب (…) ثم جاء البكري من بعده (…) أما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة (…) وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنها تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم حادث. فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة والآفاق وأجيالها والعوائد والنحل التي تبدلت لأهلها (…) وأنا أذكر في كتابي (يقصد التاريخ كله وليس المقدمة وحدها) هذا ما أمكنني في هذا القطر المغربي إما صريحا أو مندرجا في أخباره وتلوحيا لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب وأحوال أجياله وأممه (…)” مقدمة المقدمة فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه)
إن المعاني الكلية بمقتضى هذه التحولات المديدة تاريخية وليست ثوابت وفيها دائما نمو للاقتراب من كلية كونية تكون حصيلة التوارث الحضاري بين الأمم والشعوب حتى تصل المعارف والقيم إلى كلية كونية -هي المعاني الكلية التي تشبه العملة الكلية في التبادل الاقتصادي-تشبه لغة كونية يتواصل بها البشر فيما بينه ومع العالم.
ثورة ابن خلدون التي جعلت التاريخ علما فلسفيا لم تكن ممكنة لو لم يكن أصلها ثورة أخرى حاولت بيانها في هذه الدراسات وهي جعل الفلسفة تاريخية أو موضوعها تاريخيا أعني تاريخية المعاني الكلية المناسبة ليس للإنسان من حيث هو كائن طبيعي قد يظن ثابتا بل من حيث هو كائن تاريخي حضاري.
وهذا هو الذي يبين دلالة الانقلاب الذي حصل عنده: ليست النفس بقواها الثلاثة هي نموذج الدولة كالحال في الفكر اليوناني -الافلاطون خاصة والأرسطي بإضافة الأسرة-بل العكس الدولة هي نموذج النفس لأن الإنسان اتبع عوائده التي هي “طبيعة” ثقافية أو حضارية اي حصيلة تاريخية وليس ثابتا طبيعيا.
ولو بقي القول بالمعاني الكلية المقومة لصارت من الطبيعة الثابتة وليست من العادات المتغيرة بتغير “نحلة العيش” أو نظام التبادل الاقتصادي والتواصل الثقافي في الجماعات البشرية في بعديهما الأفقي بين البشر والعمودي بنينهم وبين الأشياء الطبيعية والتاريخية. تلك هي الثورة ولنعد لموضوعنا. فـهو: لماذا يتداول من يقطن حول الأبيض المتوسط من الأقوام أو من يسكن وراء محيطه ممن جاؤوا إليه بعد تحوله إلى مركز الحضارة في العصور المتوالية ويأتي إليه على السيطرة المتبادلة بينهم بعضهم على بعض منذ فجر التاريخ إلى اليوم وما علاقة ما يجري اليوم فيه من آثار هذه الظاهرة الثابتة التي نعيش حاليا آخر مراحلها والتي تعتبر ظاهرة سايكس بيكو أهم رموزها؟
فلكأن سايكس بيكو الأولى أوروبية المنشأ وساكس بيكو الثانية ذات منشأ بديل من أوروبا لكنه من ثمرات تاريخها الحديث الذي هو في الحقيقة تاريخنا المشترك. وهما إذن لا يمثلان ظاهرة حديثة إلا بهذا المعنى لأنها بمعنى لم يكن لنا فيه دور كمسلمين سابقة الوجود. فهي كانت ولا تزال من ثوابت التاريخ في محيط الأبيض المتوسط وما ورائه وكانت دائما تحصل بمد وجزر في الاتجاهين إما من الجنوب نحو الشمال أو العكس أو من الشرق نحو الغرب أو العكس وبصورة متوالية سجالا.
لذلك فلن أتلكم على ما قبل العلاقة بين الإقليم الإسلامي والإقليم المسيحي حول المتوسط منذ بداية دولة الإسلام فيه أو منذ أن شرع شعبان لم يكن لهما ذكر كبير في التاريخ في وراثة الأرض والثقافة اللذين كانـا تابعين لروما قبل وبعد تمسيح أهلها والعرب بدأوا بعد الجرمان في الاتجاهين المتقابلين. ويمكن القول إن هذه الحقبة مشتركة لأنها بنحو ما مرت بمرحلتين من سقوط روما (الغزو الجرماني) ثم من سقوط القسطنطينية (الفتح العثماني) أي مدة ما يسمى بالعصور الوسطى بالمفهوم الغربي وباعتباره مرحلة النكبتين فيه.
صحيح حركة تجاوز الحضارة القديمة بدأت من الغرب نحو الشرق أو من البداوة نحو ا لحضارة (الجرمان قبل العرب) بأكثر من قرن. لكن الحركة التي بدأت مع الدولة الإسلامية بقيادة العرب من جنسها لكنها ذات رسالة ثورية وليس مجرد. كانت علاقة بين بداوة ذات رسالة وحضارة بصدد الاحتضار فكانت كاسحة وأسرع من الحركة الجرمانية لأنها استردت كل الجنوب وبعض الشمال من بيزنطة وريثة روما بعد سقوطها وتمسيح جغرافيتها مع بقائها بدائية إلى حد كبير. وبداوة أوروبا هي التي هزمت المسلمين الذين كانوا أكثر تحرا في الأندلس وحول الأبيض المتوسط من الأندلس إلى الشام. ولولا الخلافة العثمانية لكانت أوروبا -حتى قبل أن تتحقق فيها ثمرة الحداثة-قد استردت كل محيط المتوسط ولعاد “مارا نوسترا” المعنى الروماني القديم.
وثمرة الحداثة هي في الحقيقة حصيلة ما في اللحظتين الإسلامية والمسيحية التي نتجت عن هذه العلاقات بين القرنين السابع والخامس عشر المتجاوزة للصراع السياسي والاقتصادي بغطاء ديني والمهتمة خاصة بالفكر والعلم تطبيقات ابداعهما التقني والخلقي على تنظيم حياة البشر وتحقيق شروط التآخي بينهم حتى وإن حرفتهما السياسة وتوظيفا السياسي وتحريف قيم الدين.
ذلك أن الفتح العثماني للبلقان بعد اسقاط القسطنطينية بخلاف حروب الاسترداد والصليبيات من قبلها لم يكن بخلاف الصورة التي يقدمها منه الدعاية الكنسية وخاصة مدرسة لوثر حينها ودعاية القوميين العرب وخاصة المسيحيين منهم لم يمسس الحريات الدينية فيها ولم يستعمل التصفية العرقية لأنه كان يراعي أهم خاصية في رؤية الإسلام وهي احترام التعددية الدينية باعتبارها شرط قيمتين عليين فيها:
• لا إكراه في الدين (البقرة 256).
• التعدد شرط التسابق في الخيرات (المائدة 48).
وفد كانت الحركة الآتية من الشرق إلى الغرب في علاقة بمستويين من الحضارة التي تسمى حاليا غربية. فما كان بيزنطيا كان أكثر تقدما من الحضارة الإسلامية في العلوم والتقنيات بخلاف ما كان جرمانيا أو ما يمكن تسميته بأوروبا الغربية بـالمعنى الحالي وذلك في مرحلتين بدأت “عربية جرمانية” وختمت “تركية جرمانية”.
وكان الرد على الأرض الأوروبية ثم صار غزوا مضادا على أرض الشام-الصليبية- وانتهى بإخراج المسلمين من أوروبا الغربية وبالتزامن مع شروع الأتراك بغزو شرق أوروبا والبلقان وخاصة النمسا والمجر ومحاولات الاسترداد التي انتهت بإخراج الأتراك وسقوط الخلافة وسايكس بيكو الأولى.
وليست هذه الأحداث هي التي تعنيني ولم أتكلم على تفصيلاتها بل على الحركات ذات الدلالة في “خروج” الحداثة الغربية من هذا الصراع الذي بدأ مع بداية الإسلام والذي جعل التاريخين مترابطين في الأحداث لا سياسية والاقتصادية والثقافية وخاصة في تردي وضع المسلمين وازدهار الغرب الحضاريين.
والكثير ممن يدعون الحداثة يجهلون أن الإصلاح الديني والفلسفي في الغرب له مصدران هما عين نقاط اللقاء بين الحضارتين: فالإصلاح الكاثوليكي مصدره الفكر الديني الاسباني (الجانسينية) الإصلاح البروتسنتي مصدره الفكر الديني الألماني (اللوثرية). والأول علته علاقة الحضارتين منذ بداية الموجة الأولى من حضور الإسلام إلى اوروبا. والثاني علته نفس العلاقة بعد الموجة الثانية من هذا الحضور. والأول كان عربيا أمازيغيا والثاني كان تركيا كرديا. ولذلك كنت ولا زلت أعتقد أن لهذه الاقوام الاربعة دور ريادي في حماية البيضة ومعهم طبعا كل الأفارقة المسلمين وبعض الآسيويين لكن هؤلاء كان دورهم في تعزيز انتشار الإسلام ولم يشاركوا فعلا في اللقاء الحضاري بين الإسلام والمسيحية وما أثمر من فكر حديث علته اللقاء الأعمق بين الديني والفلسفي والتخاصب بينهما.
والمهم هو كيف وصلنا إلى سايكس بيكو الثانية بوصف الأولى قد فشلت في تحقيق أهدافها أي انهاء دور الإسلام في التاريخ واستعادة امبراطورية روما وبيزنطة وكيف تولد عنه الانتقال من دور أوروبا وامبراطورياتها الاستعمارية إلى امبراطوريتي التطور الأوربي في أوروبا الحديثة دينيا وفلسفيا.
وأوروبا الحديثة دينيا بنوعيها أي التي تتبع الإصلاح الديني والتي حافظت على ما قبله أي الكاثوليك والأرثودوكس وفلسفيا بنوعيها الرأسمالية والشيوعية والأولان تقدما وعاصرا الاكتشافات الجغرافية والثانيان تأخرا وتداولت عليهما الاستعمار الأوروبي ثم حاليا الأمريكي والصهيوني في الإقليم.
وهذه منطلقات سايكس بيكو الثانية: اجماع القوتين اللتين ورثتا أوروبا بعد سقوط امبراطورياتها في الحرب العالمية الأولى بداية وفي الثانية غاية هي البحث عن أنهاء الصراع بالحسم مع الإسلام للتفرغ لعودة الشرق الأقصى وهذا الحسم له دوران: التخلص من عودته واستعمال ما فيه ضد الشرق الأقصى.
والجمع بين الدوافع الدينية لدى الشعوب والدوافع الاقتصادية عند النخب القائدة يجعل التوجهات الدينية القديمة والتي تلتها في الإصلاح يوحدها سلطان أخفى صهيوني مسيحي خرافيا للحرب مع الإسلام وسياسيا واقتصاديا لإزاحة منافس ممكن واستعمال ما لديه من ثروات وموقع ضد المنافس الشرقي الفعلي.
وفي هذه المهمة تؤدي إيران وروسيا دورها مهما لأنهما يمثلان شبه جدار صد بين العالمين الغربي والشرقي أولهما ينتسب إلى الأول والثاني إلى الثاني وكلاهما يمكن استعماله لتخويف المركزين مركز الإقليم المسلم ومركز الاقليم المسيحي حول المتوسط ليس المحيط الهادي بل ملتقى القارات القديمة.
وإذن فنحن ما زلنا في نفس المسار التاريخي الذي بدأ منذ القرن السابع الميلادي حول الأبيض المتوسط وقد بدأ عربيا جرمانيا وانتهى تركيا جرمانيا. وكان الصراع مع أوروبا الغربية ثم صار مع وهو الآن ورثته اوروبا العجوز أمريكا وإسرائيل يستعملان إيران وروسيا للسيطرة على المركز الذي هو محيط الأبيض المتوسط ـأو ملتقى القارات الثلاث القديمة.
وأختم هذه المحاولة التي ليست تاريخية بل هي درس للتكوينية. وإذن فلا بد من توضيح طبيعتها لئلا تظن تاريخا ومن بيان علل الأقدام عليها لئلا تظن دعوة للمصالحة بين الشرق والغرب من منطق انهزامي أو ما قد يظنه “المتعنترين منا” استسلاما للغزو الغربي. فهي محاولة للعودة إلى حقيقة الرؤية القرآنية لسياسة العالم التي ينبغي ألا تختلف عن سياسة الأمة. فالرسالة الخاتمة تذكير للإنسانية كلها بوصفها أخوة يتساوى فيها الجميع ولا يتفاضلون عند الله إلى بالتقوى.
ولذلك فللمحاولة هدفان:
• الهدف الأول هو تعليل وجود ظاهرة صفقات القرون التي من جنس سايكس بيكو الأولى والثانية ليس من حيث هي حدث سياسي بل من حيث شروطها التي تجعلها ممكنة وهي بالأساس التنافس الاقتصادي والثقافي بين الجماعات المتجاورة ليس من حيث ما عللها به هيجل باعتبارها من أسرار التطور التاريخي بنظرية صراع ارواح الشعوب وما عللها به ماركس باعتبارها من أسراره كذلك بنظرية صراع طبقات الشعوب. فالرؤية الهيجلية تبدو وكأنها تتكلم على ما يجري بين الحضارات مستثنية ما يجري داخل كل واحدة منها والرؤية الماركسية لا تميز بين داخل وخارج بل هي تشمل العلاقات الإنسانية عامة لأن الطبقات تجمع بين الداخلي والخارجي. فيبدو وكأن الأول أخذ من الدين تأويل الصراع العقدي الظاهر ويبدو الثاني وكأنه أخذ منه تأويل الصراع الطبقي الظاهر. وكلاهما أهمل الحل الدي يقترحه الدين ليتجاوز هذا الظاهر إلى ما هو أعمق وما يجعل الإنسان يتعالى على الاخلاد إلى الأرض الذي هو علة نزول التاريخ الإنساني إلى التاريخ الطبيعي.
• الهدف الثاني هو دراسة هذه الظاهرة في حالة خاصة بمنطق يتجاوز هذه التكوينية الصراعية الذي لا خلاف في وجودها وهي ترجع تاريخ الإنسانية إلى التاريخ الطبيعي. وما كنت لأبحث عن التجاوز لو لا علتين عميقتين واحدة تعد أمرا واجبا أو مثالا أعلى في القرآن والثانية تعد أمرا واقعا هو ما تردت إليه ثقافة المسلمين بمنطق رد الفعل على المنطق الهيجلي والماركسي الذي صار عقيدة الفكر السياسي والتاريخي في العالم ما جعل الأمر الواقع يتحول إلى أمر واجب.
فأما الأمر الواجب فهو أن هذا المنطق مناف تمام المنافاة للرؤية القرآنية كما تحددها الآية الأولى من النساء والآية الثالثة عشرة من الحجرات اللتين تعتبران الإنسانية إنسانية بما لديها من تجاوز لهذين الصراعين. وأما الأمر الواقع فهو أن الحركات الإسلامية تبنت الرؤية الهيجلية والماركسية وصارت تؤمن بنفس المنطق الذي هو مصدر الدلالة التي يعطونها لمفهوم التدافع محركا للتاريخ في المستويين الخارجي والداخلي فيردون على ثقافة الاستعمار بمنطقه ولم يعد من بينهم من له أخلاق صلاح الدين الأيوبي مثلا اقتداء بأخلاق الرسول يوم الفتح الأكبر وأخلاق الجمع بين العلاقتين الخارجية والداخلية فلسفة للفتح الإسلامي.
فلو كان المسلمون بحق يؤمنون بهذين المبدأين لتعاملوا على الاقل في ما بينهم بهما ولاستحال أن يصبحوا بهذا الضعف الذي يجعل غيرهم يتعامل معه بمنطق سايكس بيكو. لولا الحرب الأهلية المضاعفة في كل قوم من أقوام الأمة ثم بين أقوامها لكانت الاخوة الإسلامية مسهمة في الأخوة الإنسانية لأن الشعوب التي تستضعفنا هي التي يطمعها فينا ما فيها من ضعف علته حروبنا الأهلية.
لذلك فالعلاج ضد سايكس بيك الثانية ينبغي أن يكون أولا الخروج من الحروب الاهلية بنوعيها: في كل قوم على حدة ثم بين الأقوام الذي يمثلون أمة الإسلام. فإذا تم لنا ذلك فلن يطمع فينا أحد لأننا نكون قد طبقنا ما يجعل تجاوز التاريخ الطبيعي إلى التاريخ الخلقي مبنيا على العلم بقوانين الأول فيكون هذا العلم هو المحرر منه. لكن الحركات الإسلامية بغباء منقطع النظير صارت لا تخلف ممثلي الحمق في فكر دعاة الحرب الأهلية بالمعنى الهيجلي والماركسي عند حداثيينا: حرب الحضارات أو حرب أرواح الشعوب وحرب الشعوب أو حرب طبقاتها.
صفقات القرون ليس لها إلا علاج واحد وضعه القرآن وغفل عنه المسلمون ففقد تأثيره بصورة تجعل من يحققها هم ضحاياها. فلو كان المسلمون حقا يعملون بالنساء 1 وبالحجرات 13 لاستحال أن تفسد فيهم معاني الإنسانية فيصبحون عالة على غيرهم يستضعفهم فيصبحون عبيدا له سواء كان هذا المستبد بأمرهم من الداخل أو من الخارج. ولو حافظوا على سر قوتهم (الأنفال 60) لبقي الإنسان “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”(ابن خلدون) ولتحقق مشروع الرسالة الخاتمة أعني استراتيجية توحيد الإنسانية حول القيم القرآنية.