ه
ذكرت في فصل سابق أن صفقة القرن لا تتعلق بفلسطين مباشرة بل بسايكس بيكو الثانية. وهي التي سيترتب عليها تحقيق وعد ترومب كما ترتب على سايكس بيكو الأولى تحقق وعد بلفور. وسايكس بيكو الأولى كانت ثلاثية بريطانية فرنسية روسية (انسحبت بسبب ثورة 17). وهذه ثلاثيتها عادت إليها روسيا واستعيض عن بريطانيا وفرنسا.
فأمريكا عوضت انجلترا. وإسرائيل عوضت فرنسا التي كانت تعتبر نفسها وصية على الشام بتوسط ما يسمى بالمسألة الشرقية ولعلها ذات صلة بدروها في الحروب الصليبية وتدخلاتها في الشرق بتوسط مسيحيي ا لشام. والمقصود بسايكس بيكو هو العرب وتركيا مرة ثانية لأن إيران يراد منها أن تواصل نفس العمل الذي حققته إلى حد الآن أي فرض لجوء العرب إلى أمريكا وإسرائيل بنفس الطريقة التي جعلتهم سايكس بيكو الأولى يلجؤون إلى انجلترا وفرنسا لأنهم فقدوا كل كرامة وصاروا عبيدا لفسادهم ومنه لحماته وحماة استبدادهم على شعوبهم.
وإيران الآن أمام تحد بين. فإما أن تقبل العودة إلى دورها الثانوي كما كانت في عهد الشاه وتفقد كل أمل في ما أوهموها به عندما كانوا بحاجة إليها لتحقيق ما وصفت أو ستطبق عليها هي بدورها سايكس بيكو وسيفتتوها لأن ذلك في مصلحة أمريكا وروسيا وإسرائيل. أما ندوة المنامة فهي لمزيد التنويم لأن العرب نيام منذ قرون واللقاء الحقيقي هو الذي يجري في إسرائيل ويحيط بها روسيا وأمريكا.
وإيران فرطت على نفسها فرصة أن تكون مع أهل الإقليم أي العرب والاتراك بدلا من أن تكون عليهم. فبوهم الدهاء للاستفادة من الأمريكان والروس وإسرائيل برهنت قيادات إيران على غباء أكثر من قيادات العرب. وكنت دائما أقول إن وهم الذكاء والدهاء عند الفرس علته احتقارهم للعرب واحتقار العرب لأنفسهم وهو ليس حقيقة فعلية. ومن لا يحتقر من يحتقر ذاته ويهين شعبه؟
وكنت أتصور أن الأتراك قد تحرروا للضرورة من احتقار العرب. فتركيا في وضعية شبه ميؤوس منها إذا بقيت معزولـة في الاقليم لأنها تعلم أن روسيا وإيران ربما أكثر عداوة من الغرب إزاءها رغم أن أوروبا لم تقبلها وهي مهددة خاصة روسيا خارجيا وداخليا من الأكراد والعلويين وأغبى طائفتين في شعبهم العلمانيين وجماعة جولن. لذلك فهم فهموا أن مصيرهم واحد مع العرب.
لكن قيادات العرب أو احفاد سايكس بيكو الأولى هم ممولو سايكس بيكو الثانية لأن من يحكم أصحاب البترول من قادة الثورة المضادة هم أكثر قيادات العالم عمالة وخيانة وانحطاطا لم أر له مثيلا حتى في جاهليتهم وحتى في لحظات انحطاط الاندلس والدولتين الاموية والعباسية: أكثر شعوب الإسلام كفرا به.
أحيانا ألوم نفسي لأن ما أتوقعه غالبا ما يقع فصرت أخاف أن أكون صاحب فأل سيء. لقد حققت إيران وروسيا ما كانت تريده أمريكا وإسرائيل: جعل العرب ولأوروبيين يصبحون رهائن عندهما لأن من يسيطر على الهلال وطاقة الخليج مع تخويف الإقليم وأوروبا من إيران وروسيا يعني التحكم في تمدد الشرق الأقصى.
ولما كانت إيران وروسيا أوهى من بيوت العنكبوت فدورهما لا يتجاوز تخويف العرب والأوروبيين ومحاولة تفكيك الهلال والخليج ثم يأتي دور تركيا لا قدر الله. وبذلك تضمن أمريكا وإسرائيل قرنا آخر من السيطرة على العالم لأن السيطرة على الاقليم وأوروبا ستكون خنقا تاما للشرق الأقصى الذي يخشيانه فيربحان معركة نظام العالم الجديد.
أما ما تسمعونه من تحليلات خبراء “أبو فلس” ممن يعتبرون إيران قوة عظمى ويهولون بأنها لو حوربت لقامت حربا عالمية فدليل غباء لا نظير له. ذلك أن من أسقط هتلر والسوفيات واليابان ومن تهابه الصين لا أفهم كيف تخيفه إيران أو حتى روسيا وهو يكفيه أن “يزهر” حتى ترضـخ الصين وتضغط على كوريا الشمالية.
ولو لم يكن ترومب وناتن ياهو ما يزالان بحاجة لإيران في مهمة استتباع الخليج والهلال وتركيا لاكتفوا بالتوماتوم حتى ينزعوا سلاحها أو لأعادوها إلى القرون الوسطى بضربات متوالية لا تتوقف حتى يجعلوها قاعا صفصفا إذ الحرب بين الدول غير الحرب بينها وبين المليشيات. وضرب إيران أمر تسعد به حتى روسيا لأن مطامعها في المرور إلى البحار لم تتغير.
المثير في سايكس بيكو الثانية هو تحول إسرائيل إلى مركزه بمعنى أن كل ما يجري فيه بخلاف الأولى مداره إسرائيل ومشروعها رإم الصهيونية ومشروعها لم يكن غائبا فيها. كان في الاولى أداة للإمبراطورية بريطانيا لكنه أصبح الآن شريكا فعليا إن لم يكن الرأس المدبرة لأمريكا وروسيا لمافية العالم.
وبهذا المعنى فالأمر لم يعد متعلقا بفلسطين رغم أنها لم تفقد دورها في الخرافة المؤسسة للمشروع الصهيوني وحتى المسيحي الصهيوني في أمريكا لأن غزو أمريكا نفسه كان من قبل البروتستانت الأوائل يسمى الأرض الموعودة الجديدة في صلة بدور التوراة في الإصلاح بوصفه عودة إلى مصدر الأناجيل.
والمعلوم أن لذلك علاقة وطيدة بحاجة شارل الخامس المتحالف مع لوثر لما كان ولي عهد وقبل أن يصبح قيصرا أوروبا ومؤسس أوروبا الحديثة -بعبارة هيجل في فلسفة التاريخ-إلى مال البنوك اليهودية في أوروبا وتحالفه مع لوثر لكون المسيحيين قبل الإصلاح لم يكن الربا مسموحا به مثل المسلمين ولم يكن لهم بنوك تقرض الدول والحكام.
وبذلك نعود إلى دور دين العجل: معدنه أو المال وخواره أو الأيديولوجيا. فهما أداتا السلطان الأول والأخير في سياسة العالم والأول مركزه النظام البنكي والثاني مركزه نظام الإعلام والملاهي. فإذا أضفنا إليه التحكم في المائدة (الغذاء) والسرير (الجنس) فهمنا سر القوة والسلطة العالميتين.
فهي فروع القوة الأربعة التي تبنى عليها كل الاستراتيجيات السياسية بوصفها أدوات الفكر الساعي للسيطرة على العالم. أما القوة العسكرية البشرية والتقنية فهي من توابع الأدوات المباشرة التي تطبق المعرفة العلمية وتطبيقاتها لتحقيق ما تعجز دونه تلك الأدوات الناعمة الأربعة وتلك هي الشوكة.
ولست ممن يستعملون الأخلاقوية فأزعم أن هذه الطرق غير شرعية أو شيطانية أو غير طبيعية لأن وجودها ملازم للإنسانية وهي علة شرعية الفعل الراد عليها من دون دوافعها اللاأخلاقية إذ يحاول منع أثارها في حياة البشر بنفس الوسائل دون غايتها كما تطلب الانفال 60. ولأشرح قصدي حتى نفهم أن مصير الإسلام وأمته رهن فهم هذه الحقيقة التي لا يرد عليها بالاخلاقوية.
ذلك أن الإسلام لا يرد على التدمير المترتب على هذه الآفات بالاخلاقوية بل وضع واجب التعمير ولا يرد على انعدام قيم الاستخلاف بحصره في مظاهرة التعبدية بل هو وصل كل العبادات بشرطها الاول والأخير أي التعمير وبثمرتها الاولى والأخيرة أي النهي عن الفحشاء والمنكر. والمسلمون يعملون العكس.
فلو نظرنا في أغنياء العرب من دون تعب -أي باعة المواد الأولية التي وجدوها في أرض ورثوها عن أجداد تعبوا من أجلها وليست ثمرة عرق جبين هؤلاء الاحفاد الكسالى-لوجدناهم يحاكون كل تلك الآفات ولم يبق لهم من الإسلام على مظاهره أي ما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية مع الضعف والتبعية.
ولذلك فهم من أدوات الصهيونية والصفوية لأن الإنسان عندما لا يكون ذا عقل يتحول -كما قال ذلك ارسطو عن العبيد-إلى آلة ناطقة يستعمل الإنسان الحر الناطق. وقد يستعملها للخير وهذا هو جوهر الدين عامة والإسلام خاصة وقد يستعملها للشر وهو هو جوهر تحريف الدين عامة وتحريف الإسلام خاصة.
وبهذا المعنى فإن الصهيونية والصفوية رغم كونهما يمثلان الشر والفكر الشيطاني إلا أنهما ألف مرة أفضل خلقيا مما يمثله توابعهم من العرب بوصفهم أدوات تحقيق خططهما. فالعرب التوابع للصهيونية والعرب التوابع للصفوية في الإقليم لم يبق لهم من الإنسانية إلا كثرة الأقوال ومن العروبة إلا “حماقات” ذوي العقال.
لذلك فسايكس بيكو الثانية لم تعد مقصورة على تفتيت الأرض مثل الأولى بل هدفها تفتيت التاريخ كله. وهو تفتيت كان في البداية ناتجا عن عقد العرب في الإقليم الذين كانوا أكثر اقتناعا بنهاية التاريخ الإسلامي حتى من الاستعمار نفسه لأنهم فضلوا القوميات والعودة إلى ما قبل الإسلام في تحديدها.
لكن ذلك فشل: فلا البابلية لا الفرعونية ولا الفينيقية ولا القرطاجنية استطاعت أن تمحو الحضارة الإسلامية ولا حتى أن تزيل اللحمة بين الشعوب وكانت الضربة القاضية فشل مشروع العلمنة في تركيا بداية وفي تونس غاية وهي الوضعية الحالية التي صارت أكثر إلحاحا لتركيز الحملة الحالية لسايكس بيكو الثانية على الحسم مع الإسلام.
وبهذا المعنى فداعش وعلمنة الدول القبلية بعنف الحمقى من حكامها -المثال السعودية-لهما نفس الغاية: الحرب على الإسلام الذي كان فشل العلمنة في تركيا وفي تونس (بداية ثورة الشعوب وصول الإسلاميين إلى الحكم) الزلزال الذي اقتضاه: فداعش والثورة المضادة كلاهما حرب ممهدة لضرب الاستئناف.
وساحة المعركة هي ما بين عواصم الخلافة الإسلامية الاربع: المدينة بداية واستنبول غاية وبينهما دمشق وبغداد. وكانت إيران وروسيا مع داعش السيف وداعش القلم الأداتين الفاعلتين والثورة المضادة الأداتين الممولتين لكل ما يجري في سايكس بيكو الثانية ضد الاستئناف ممثلا بالثورة وتركيا.
وهذا هو موضوع اللقاء الذي انعقد في إسرائيل بين أمريكا وروسيا مع الراس المدبرة في مركز الصهيونية العالمية لوضع الخريطة الجديدة للإقليم أي تكوين دولة كردية على حساب سوريا والعراق وتركيا وتفكيك هذه الدول وقبلها تقاسم الخليج مع إيران إن انضمت إلى الحلف المعد للتوازن مع الشرق الأقصى.
وأختم بخرافة سائدة وهي أن امريكا لم تعد تهتم بإقليمنا لأنها الثقل انتقل إلى المحيط الهادي. وهذا من أكبر علامات غباء المحللين:
• المعركة ليس رهانها هناك بل هو ما تتطلع إليه الصين في القارات الثلاث التي تعتبرها سوقها و
• خنق الصين أداته في دار الإسلام لعجز أهله وليس في مكان آخر.