زلزال الخليج أو في التحول الثقافي العميق – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله زلزال الخليج

ذكر ابن خلدون رؤيته حول منازل بعض المهن في ثقافتنا: فهو يعتبر الفلاحة للمستضعفين والتجارة للساقطين والدين للمفتقرين. وهو وصف لسلم قيم عجيب. وأعتقد أنه ما يزال إلى حد كبير سلما قائما رغم أن ما ثبت حقا هو منزلة الفلاح التقليدي. فكبار التجار وكبار رجال الدين أصبحوا جزءا من آلة الحكم. فأما كبار التجار فهم إما عين الحكام أو أزلامهم. وكبار رجال الدين هم المفتون الرسميون. هم من أدوات الصراع بين الحكام وبنيهم وبين معارضيهم. ولما كان الدين قد ابتذل حتى انقلبت وظيفته التحريرية للمؤمن وتحميله مسؤولية فرضي العين اجتهادا وجهادا إلى عكسها يطلب من يجتهد ويجاهد مكانه. فصارت تربية المسلم الخلقية ورعاية شؤونه بهذا الانقلاب استعبادا اجتماعيا بيد العلماء والتقاليد حليفا لاستعباد السياسي بيد الأمراء والنزوات. وهكذا صار “العلماء” من أدوات “الامراء” يفتون تحليلا وتحريما بحسب نزوات الامراء والافتاء بحد ذاته تقزيم لضمير المؤمن باتكائه على غيره في أمره. وإذا بسلطان “العلماء” الرديف لسلطان “الأمراء” قد حط من الدين فجعله رديفا لسلطان السياسة وباتت الدولة علمانية بتقية دينية هي نفاق “العلماء”. وهذا الذي يحتاج إلى نفاق “العلماء” عند السنة غني عنه عند “الشيعة” لأن الدين فيها بمقتضى تعريف التشيع للحكم هو غطاء الباطنية لحكم العامة. ومعنى ذلك أن الفرق الوحيد بين السنة والشيعة-والأمر ليس خاصا بالنظام السعودي-هو في الأقوال وليس في الأفعال: الدين غطاء لعلمانية بدائية فيهما. ماذا أعني بالعلمانية البدائية: إطلاق يد الحكم الدنيوي الخالص وحصره في يد صاحب السلطة السياسية مع تقية دينية تفرض على الشعب ليؤله الحكام. والانحطاط نتج عن تحريف رسالة الإسلام الذي قضى على شروط العصر الخمسة. فالغطاء الديني لما ليس بديني بل لما هو نقيض الدين ألغى مسؤولية المؤمن. وهو ما أزال ثورتي الإسلام: الحرية الروحية (علاقة المؤمن المباشرة بشأنه الروحي) والحرية السياسية (علاقة المواطن المباشرة بشأنه الدنيوي). ومعنى ذلك أن المسلمين أعادوا الكنسية والحكم بالحق الإلهي صراحة عند الشيعة وبصورة ملتوية عند السنة. فالشيعة تعلن ذلك. والسنة تخفيه بالأقوال. فهي بالأقوال تدعي الإيمان بثورتي الإسلام: 1. لا وساطة في الدين. 2. والحكم بالاختيار الحر. في الأفعال: أعادت كنسية “العلماء” وتغلب “الأمراء”. ولكن حذار فدعاة التحرر من كنسية العلماء عند الليبرالي والعلماني العربي ليست ثورة على شرعية التغلب بل على محاربيها من صادق العلماء. ذلك أن الليبراليين والعلمانيين العرب اخذوا دور “كنيسة العلماء” الخادمين للأمراء القدامى وعوضوها “بكنيسة المثقفين” في خدمة الأمراء الجدد. ولم تبدأ الظاهرة في الخليج بل هي كانت ملازمة لتعويض الأمراء القدامى بالأمراء الجدد وغالبا ما كانوا أصحاب الانقلابات الحداثوية في بلادنا. ويمكن القول إن ذلك -مثل الثورة الحالية- بدأ في تونس لما انقلب بورقيبة على الثعالبي: فهذا من جنس الأمراء القدامى وذاك من الكنسية الجديدة. والانقلاب حدث في تونس بتخطيط فرنسي والانقلاب اليوم يحدث في الخليج بتخطيط إسرائيل أمريكي وبعض ادواتهم من صغار العرب ذوي الوجود الفيروسي. فما يحدث ليس تحررا سلطان العلماء وتقليد انحطاطنا في زلزال الخليج بل تأسيس جديد لاستبداد الأمراء وتقليد انحطاط الغرب كما حدث عند جميع العرب. وما يجهله بعض حكام الخليج هو أن هذا التحول لن يكتفي ببديل العلماء بل سيأتي ببديل الأمراء: الانقلابات العسكرية كما حدث في بقية بلاد العرب. تغير طبقة الامراء سبقه تغير طبقة العلماء: تونس ومصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا: ايديولوجيا التحديث بالتقليد لا تؤسس للحرية بل توطد العبودية. كيف ذلك؟ يغرقون الشعوب في الإخلاد إلى الأرض ليصبحوا مثل الانعام بشرط التنازل عن الحريات العليا أي حقوق الإنسان لتوطيد الاستبداد والفساد. قشور الحداثة ليست أخلاق الغرب ولا حقيق حداثته: إنها أخلاق من يتصور أخلاق الغرب ترد إلى ما يراه في الأفلام وينسى أخلاق العلم والعمل لديه. والنتيجة هي أن نزداد تبعية لأدنى ما في الغرب فنجمع بين الانحطاطين: انحطاطنا وانحطاط الغرب. الغرب عند الليبرالي والعلماني العربي فمه وفرجه. أما عقله ويده أي النظر والعمل فهما من المنكرات لليبرالي والعلماني العربي. يكفيه أن يمده المستبد والفاسد بما يشبع فمه وفرجه. فتلك هي حرياته. وطبعا لو اكتفيت بسماع ما يقولون لوجدتهم أكبر الثوار والتقدميين. لكن عندما تنظر إلى أفعالهم تجد جل المخبرين لدى اجهزة العنف والقهر منهم. ولست بحاجة لدليل: فمن يخدم الثورة المضادة في بلاد الربيع هم بعض علماء السوء وجل ليبراليي العرب وعلمانييهم: قوتهم من موائد المستبد والفاسد.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي