“رعوانية” تحاليل خبراء العرب لما بعد كورونا


ابدأ بالمحللين الذين يعتمدون الكلام على الاعتبار الديني.
فهؤلاء كالعادة لم يخرجوا من خرافتين:

  1. كل جائحة تعبر عن غضب إلهي وعقاب لأفعال البشر وصفا لما يجري
  2. وكل ما يليها ينتظرون منه أن يؤوب الإنسان إلى الطريق القويمة.

وطبعا فهم لا يجهلون أن الثانية كاذبة لأن كورونا ليست الجائحة الأولى.
فقد عرفت الإنسانية مثلها وربما أخطر منها لأنها كانت أقل قدرة على المقاومة بسبب تخلف المعرفة العلمية وتطبيقاتها ليس في الطب وحده.

ولكن أيضا في شرطي الصمود أعني الشروط الاقتصادية لقيام الإنسان العضوي والشروط الثقافية لقيامه الروحي والعضوي. فالجوائح لا تصيب الأفراد وحدهم بل تصيب الجماعات التي يمكن اعتبار الاقتصاد شرط قيامها العضوي والثقافة شرط قيامها الروحي.
وما يجمع بينهما هو عادات “ايجيان النظافة والوقاية” والغذاء وهي ثقافة واقتصاد في آن.

وطبعا كذلك لا أحد يعلم مقاصد الله من الجوائح حتى توصف بكونها عقابا أو ثوابا.
وهي لو كانت عقابا لكان الله ظالما لأنه عقاب يصيب الجناة والضحايا.
ولو كانت ثوابا لكانت أيضا ظلما لأنها في هذه الحالة تجازي المفسد جزاء المصلح.

لذلك فالرد على المحللين بالمرجعية الدينية والتقليدية أمرهم سهل.
الأمر المحير إذن هو اعتماد المحللين بالمرجعية المزعومة علمية وحداثية. فهم بخلاف ما يتوهمون أكثر حمقا من أولئك. وذلك لعلتين.

الأولى هي الزعم بأن سبب ما نحن فيه هو الموقف الديني من الجوائح. بمعنى أن المشكل هو التخلف العلمي والتقني. ويتجاهلون العلة الحقيقية لما يجعل الجوائح على الأقل في عصرنا لا تنتج عن التخلف العلمي والتقني.

فعبادة ما يزعم نجاحا علميا وتقنيا أكثر تأثيرا من الموقف الديني لأنه أكثر تعصبا و”سلفية” وخاصة عند النخب التي تدعيه دون المشاركة فيه: فلعل أكثر الامراض شيوعا والجوائح فتكا بالإنسانية علتها التلويث المادي الناتج عن الاقتصاد الحديث والتلويث الروحي الناتج عن الثقافة الحديثة.

وبصورة أدق فثقافة الغذاء والدواء وتحويل الإنسان إلى أداة الاقتصاد والثقافة بدلا من أن يكون غايتهما هو العلة الرئيسية لما تعاني منه الإنسانية من هشاشة بسبب التدخل في مجرى الظاهرات العضوية في النبات والحيوان والإنسان.

فهو تدخل غير محسوب العواقب إذ هو يجعل هذه الظاهرات تتحول إلى سموم خفية قد لا تظهر مفاعليها الجانبية إلا بعد عقود وأحيانا بعد سنوات أو حتى بعد قرون. وما أظن أحدا يجهل أن الكثير من الأدوية يقع اكتشاف ضررها بعد عقود فتلغى لأن مفاعليها الجانبية أخطر من المرض الذي تظن علاجا له.

والثانية -وهي الاخطر- تتمثل في المطابقتين اللتين تزعمان للإنسان ما لا طاقة له به وما يعلم أنه كذب على نفسه. وهي ظاهرة سماها ابن خلدون “حب التأله” وتتمثل في طغيان الإنسان صاحب السلطان سواء كان سياسيا أو معرفيا: المطابقة بين علمنا والموجود والمطابقة بين عملنا والمنشود.

فعندما تسمع مثلا شيوعيا أو قوميا عربييين يفاخر بما يحققه نظام كوريا الشمالية أو الصين أو بوتين أو إيران أو اسرائيل فأنت ترى العجب العجاب من كثرة الاعجاب بمنجزاتهم الدال على هذه الظاهرة التي ليس لها من علة غير توهم إرادة الإنسان وعلمه وقدرته وذوقه ورؤيته كلها ملكات مطلقة.

ينسون أن ما يريده الإنسان لا يكاد يذكر مما يحدد مجريات الأمور وأن ما يعلمه لا يكاد يساوي نسبة الواحد المعلوم إلى اللامتناهي المجهول وأن ما يقدر عليه لا يكاد يساوي 1 في المليار مما يريده.

وأن ما يذوقه الإنسان دون ذلك بكثير لما يقبل التقييم الذوقي وأن رؤاه الوجودية إضافية إليه وهو ليس أرقى المخلوقات ولا المخلوق الوحيد الذي يتوهم أن رؤاه للوجود مطابقة لحقيقته.

وفي تلك الحالة يتبين أن الموقف الديني والتقليدي أقرب إلى الصواب مليون مرة من الموقف الذي يدعي أصحابه الاعتصام بالعلم وخاصة إذا كان من جنس الاميين العرب الذين يدعون نقد الدين بهذا المنطق إذ يصبح طريد سنوات التعليم الأولى ومرتاد الحانات والمقاهي ولم يتجاوز محو أمية ناقدا للفكر الديني.

وعندما يرون أن الغرب الذي يزعمونه غاية التقدم وحتى إسرائيل التي يعتبرونها عملاق التقدم وعصارة الغرب لا يستثنون الدين في رؤاهم ولا يزعمون إطلاق إرادة الإنسان ولا علمه ولا قدرته ولا ذوقه ولا رؤاه لا يستحون.

فيصبح الأمير الاحمق في الخليج علامة زمانه ويقدس حتى كل دين لكنه يرذل الإسلام.
ويتحول بدو الجزيرة العربية قادة فكر يريدون إصلاح الإنسانية مثل الاحمقين في تونس عميل الملالي وعميل الماركسية يريدان تغيير نظام العالم بكتاب القذافي وتخريف ستالين.

أكثر خلق الله حمقا وغباء يريدون التحديث بالحرب على الإسلام من دون الأديان كلها لان من حوله نخبا أميين يدعون العلمانية والليبرالية وهم في الحقيقة بدو عاشوا بضع سنوات في أمريكا أو انجلترا.

فلم يعودوا بعلمهم ولا بعملهم ولا بنظامهم بل بأكثر علامات الحدثة سطحية كأغلب حداثيي العرب وعبيد النقود في حلفات مؤمنونه بلا حدود الغائبين عن أعماق الموجود والمنشود ممن يصفقون كل طغاة العرب لمعاناتهم من جرب أفلاطون.

وإذا كان هذا حال النخب الحاكمة والمفكرة فكيف بالإعلام الذي صارت مدارسه كلها لا تتجاوز مليشيات الاقوال التي لا تختلف عن مليشيا الأفعال التي من جنس داعش وكلتاهما من أدوات المخابرات التي هي النوع الثاني من السم القاتل للشعوب والحضارات باسم ما يفاخر به أقل الناس دراية به: الحداثة والعولمة.

ما بعد كورونا لن يغير شيئا مما يجري حاليا وخاصة في نسب القوة بين الشعوب والحضارات المسيطرة حاليا. لو لم تكن الأزمة عامة لأمكن القول إن النسب بين الاقتصاديات أو بين الثقافات ستتغير.

عدم التمييز في الجائحة لن يجعل النظام الفلاني مستفيدا أكثر من النظام العلاني. لأن الجائحة تضرب كل الاقتصاديات وكل الثقافات. ولما كانت الهشاشة الاقتصادية والثقافية هي التي تحكم الحصيلة فإن النتيجة معلومة مسبقة.

الغرب سيبقى الأقوى لأن ما سيقفده مفيد والضار منه قابل للتعويض. فأزمة الديموغرافيا الغربية سيكون حلها مفيدا من حيث تخفيض كلفة الرعاية الاجتماعية ولن يكون ضارا لأن تعويض المفقود ممكن باسترداد الشباب من المهاجرين.

والصين هي التي قد تتضرر لأن الغرب سيسترد كل معامله ومؤسساته التي هاجرت بسبب الكلفة الاجتماعية في بلادها. وعندما تقل الكلفة يصبح من ا لمفيد أن تعود إلى بلادها لتنتج فتصبح مصدرة للمنتجات وتفقد البطالة.

البكاء هو على العرب الذين لن يبقى لهم ما يبيعون.
فالبترول سيقل استهلاكه ويصبح بضاعة بخسة لأن الركود الاقتصادي لن يصيب من ينتج الضرورات بل هو سيصيب من يبيع المواد الاولية ويستورد كل شيء.

والمعلوم أن العرب -وتونس مثال- يستوردون خردة الغرب والشرق الأقصى المادية فحسب. فليست سوق المنصف باي هي وحدها التي تمثل حال العرب ولا سوق الفريب كذلك.
بل إن للفكر سوقا تماثل سوق المنصف باي وسوق الفريب.

وتلك هي الكورونا الحقيقة التي ينفرد بها العرب. فما يعطل كل تطور عند العرب بخلاف ما يتصور الكثير ليس رجال الدين ولا الاسلام السياسي لأنهم لا سلطان لهم على ما يجري على الاقل منذ قرن. ما يحكم الفكر والحكم في بلاد العرب هم كلهم من جنس يسار العرب وقوميينه وليبرالييه أي أجهل نخب العالم وأغباهم على الإطلاق.

ومن لم يصدقني فلينظر حوله من يحكم في تونس ومن يفكر لها على الاقل منذ الاستقلال إلى اليوم.
وليقض ليلة واحدة أمام بلاتوهات الاعلام التونسي وسيفهم ما أعنيه بالأمثلة الحية التي يراها بأم عينه.

ويكفي أن تونس صار لها تحف في قرطاج وفي القصبة وفي باردو لا نظير لها في كل متاحف العالم. تونس اليوم تعتبر متحف الحرب الأهلية التي لم أر أكثر منها حمقا صارت فيها سياستها وفكرها أشبه ببحيرة الملاسين: مصب فضلات العالمين الغربي والشرقي بعدما تمر ببطونهم الجائعة لفرط اخلاد أصحابها إلى الأرض.

وقد يكون من المفيد ختم هذه المحاولة بحكمة لا يدرك معناها من ما يزال يعتقد في “حب التأله” بالمعنى الخلدوني: لا شيء يمكن اعتباره اتفه من الإنسان عندما يدعي التاله سواء بالسلطان السياسي أو بالسلطان المعرفي.

فالإنسان الذي لم يدرك أنه لا يكاد يساوي شيئا ينبغي أن يسخر من كل الفلاسفة الذين يتوهمون أن علم الإنسان مطابق للموجود وأن عمله مطابق للمنشود. ولو قدر الله حق قدره لأدرك أنه مهما تجبر وتكبر فنهايته حكمة والدتي رحمها الله: إذ تقول لأي متكبر “اتفل” على بدنك فنهايتك شبر في التراب غذاء للدود يليه العذاب يوم الحساب.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي