لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهربيع شبابنا
لست متشائما لكن علل التشاؤم يفرضها الوضع العربي المتردي بصورة جعلته بعد الانقسام بتبعية مطلقة للقطبين في النصف الثاني من القرن الماضي يبلغ درجة من الهوان واللاوعي تجعله يعوضها بتبعية لذيلي ما بقي من القطبين: إسرائيل (القبلية أدعياء الإسلام) وإيران (العسكرية أدعياء القومية).
وعلل التشاؤم تقبل التقدير إما بالقياس إلى الشعب أو بالقياس إلى نخبه. فأما بالقياس إلى الشعب ما أظن أحدا يجادل في أن غالبية الشعوب غرقت في هموم العيش المتردية فلم يبق لها فاعلية موجبة لكأنها مستسلمة للأقدار ومفضلة لأدنى شروط البقاء بدل الدفاع عن حقوقها ضد مافيات الاستبداد والفساد.
وفي الحقيقة فمن يلام على هذه الوضعية الاستسلامية ليس الشعوب بل نخبها التي ليس فيها من بقي لها من الزاد المعنوي والخلقي ما يجعله مسموعا منها بل هي تلاحظ أن من بيدهم الحل والربط منهم في غالبه مستكين لخدمة هذه المافيات ليس من أجل شروط العيش الأدنى بل من اجل المشاركة في ثمرات النهب.
ويبرز ذلك خاصة في طبالي المافيات الحاكمة من “الخبراء” و “الاعلاميين” و”المحللين الاستراتيجيين” الغازين لوسائل التواصل الرسمية من فضائيات وجرائد ودواوين الدولة الرسمية والذين يخادعون الشعوب وحتى الحكام ولا يعلمون أن سر سقوط السوفيات هو تحول الجميع إلى إخفاء الحقائق إما طمعا أو خوفا.
لقد صار العرب “رجل اللحظة المريض” في الاقليم لأنهم بلغوا مرحلة الاضحوكة العالمية ويكفي أن تسمع ما يجري في معركة الخليج التي مصرت اعلامه وأعادتنا إلى سخافات صوت العرب وابتذاله في المفاخرة بالنجاحات الكاذبة والتنابز بما لا يقبله حتى الأطفال في مناوشات الأحياء الشعبية.
كل ما يجري في الإقليم ضحيته الأولى هم العرب وأرض العرب وعرض العرب وكرامة العرب. لكن العرب بقيادة المراهقين والصراع بين ورثة عاقين لأمتهم يفرطون في شروط قيامها ويتركونها لقوى الإقليم ومن وراءها من قوى العالم التي لم تعد تعتبرهم موجودين وتعالج أمورهم بدلا منهم.
ولما كانت هذه الأمور لا تعالج بالتراخي كما حدث في اليمن وبتقديم العداوة لمن يسمونهم اخوان حصرا لكل معارض لهم في هذه الفئة فإنها تصبح علامة ليس على المراهقة والغباء فحسب بل على فقدان حتى مجرد وهم الردع لأن من يدخل حربا دون استراتيجية وأهداف واضحة يجعل فشله سببا لتطاول الأعداء عليه.
فلكأنها حرب تخاض لبيان العجز وليس لبيان القدرة. فأن يستعمل النظام الخليجي الحوثيين لمقاومة الربيع ثم يتكشف أنه أسس لحزب الله على حدود أكبر دوله فإن ذلك لا يدل على العلم بخطط الاعداء فضلا عن القدرة على التصدي لها: من يترك الهلال كله يسقط ومعها مصر لا يمكن أن يكون له ذرة من عقل.
ومن يتصور ذلك سيحمي نظامه ينبغي أن يكون عقله لا يتجاوز أنفه. فالذي حالف إيران هدم بلاده وشرد شعبه والذي حالف إسرائيل سيخسر أكثر لأن الغاية هي ضرب قلب الإسلام وتفتيت الخليج بيد أصحابه كما نلاحظ في المعركة الحالية بين الرابوع وقطر المعركة التي دعمت “ايرنة” الخليج بغباء لا نظير له.
لما أرى ممثلين رسميين لما يتصور نفسه دولة وهو مجرد محمية وقبيلة لا وزن لها حتى بما تتصوره ثروة وهو لا يكاد يتجاوز ثروة شركة متوسطة في البلاد المحترمة يتغزل بوقاحة ورقاعة وقلة ذوق بأم أمير مجاور أتساءل هل هؤلاء بشر؟ هل ما يزال بين أسفل سافلين وأخلاق من يقودون العرب مسافة؟
ولا شيء يستفزني مثل كلام بعض السخفاء من المعلقين بأن من يتكلم في قضايا الخليج إما حاقد أو حاسد. ولا أحد منهم سأل نفسه: يحسدكم فيم؟ ويحقد عليكم لم؟ فأدنى بلاد العرب التي لا بترول لها أغنى من أغنى اصحابه. ذلك أن الحياة علمتهم العمل والاعتماد على النفس وتلك هي الرجولة والكرامة.
والإنسان قد يحقد على من له القدرة على العدوان عليه. لكن من يحتمي بالبلاك ووتر وبالقواعد الاجنبية عاجز حتى عن حماية نفسه ناهيك على أن يضر أحدا إلا بحماقاته ومن ثم فلا يحقد الإنسان بل يندب لحظه لأنه مسكين. جمع بين الجهل والحماقة فكان من مقبحات صورة العرب في العالم.
قبح الأقوال وشناعة الافعال لا تدفع من في قلبه رحمة إلى الحقد على صاحبهما بل هي تجعله يدعو له حتى يشفيه الله من الغباء والبلاء الذي حل به: فسيكتشف أنه يبذر بعض ما لديه بغير فائدة. فمستشاروه-ومن حثالة العرب ومن خبثاء الغرب-لا تعنيهم مصلحته بل الاستفادة من عقده وجهله.
فمن له ذرة من عقل يعلم أن الربيع غزا كل القلوب بمن فيهم مواطنو الانظمة التي تحالفت ضده لتكون ثورة مضادة توزع الرز على أعدائها وهي لا تعلم: ذلك أن السيسي وحفتر إلخ.. هم أكثر طمعا فيما لدى ممولي الثورة المضادة من الثورة. وما يبذرونه للتصدي للثورة سيفقرهم فيشجع شعوبهم على الثورة.
وكفى بذلك دليلا على الحمق والغباء. شباب الخليج تثقف وتعلم في الغرب وعلم معنى كرامة الإنسان وحريته ولا يمكن أن يرشى فضلا عن كون الانظمة بهذا السلوك صارت عاجزة عن تقديم مكرمات. ومجرد مطالبتها بمشاركة المواطن في أعباء الدولة يجعله مطالبا بحقوق المواطن كاملة غير منقوصة.
الربيع لا يحتاج للتبشير بما يطلب شبابه: فكل شباب الإقليم عربيا كان أو إيرانيا أو أي قومية أخرى يطلب نفس الحقوق لأنه لم يعد يسمع لسخافات فقهاء السلطان ولا ثرثرة شيوخ القبائل بل أصبح يؤمن بأنه إنسان حر من حقه أن يكون كريما وأن يسهم في أمر بلده مثل غيره في العالم.
ولأمر الآن إلى النخب وهي خمسة أنواع: نخبة الإرادة أو الساسة. كيف يمكن أن نعتبرهم يمثلون إرادة الامة وهم مجرد غفراء في محميات تابعة لإيران وإسرائيل سياسيا ولنزواتهم خلقيا ولغباوتهم معرفيا والصفة الأخيرة هي أن إرادتهم الوحيدة هي ما يسمع لهم به حاميهم من استبداد وفساد لبيع البلاد.
تليهم نخبة المعرفة: اي علم يقدمونه للامة حتى تعالج شروط الرعاية (أي إنتاج أدوات الرعاية) والحماية (أي انتاج أدوات الحماية) وأقصى ما يقدمونه هو الحرب على هذه الشروط لأنهم ضد كل إمكانية لاستئناف العرب دورهم في التاريخ ولا هم لهم إلا إيديولوجيا الحداثة دون شروطها العلمية والتقنية.
تليهم نخبة القدرة أو الاقتصاديون. هل رأيتم اقتصاديا عربيا واحدا له حب المغامرة الابداعية للثروة فيسهم في المنافسة العالمية للإنتاج المادي والعلمي أم هم جميعا مجرد سماسرة اعتمادا على الاستبداد والفساد المافياوي أو ما أرجعه ابن خلدون لاستغلال الجاه بمقاسمة الحكام تبذير ثروة الامة.
تليهم نخبة الحياة أو الذوق يعني الفنانين: اي فن مبدع ومهذب للذوق تجدونه في آداب العرب الحاليين وسينمائهم وموسيقاهم عدا السرقات الهزيلة وفنون الرذيلة إذا قيست بما فعل الألمان الذين جعلوا بلدهم قبلة العالم في كل الفنون والعلوم ومن ماثلهم من الأمم العظيمة ومنهم نحن لم كنا عظماء؟
وآخر نخبة هي نخبة الوجود أو رؤى العالم وهم إما أصحاب الرؤى الدينية أو أصحاب الرؤى الفلسفية. وهؤلاء لا أريد أن أطيل الكلام عليهم: فكلاهما مقلد إما لماض أهلي أو لماض أجنبي كلهما درس. فالمحفوظات الخرافية والممضوغات الإيديولوجية لا تمثل رؤي وجودية محفزة للحياة والإبداع.