من غرائب المسرح السياسي التونسي الحالي ظاهرتان محيرتان: 1. الأولى كثرة المترشحين للترشح للرئاسيات في وضع سياسي واجتماعي واقتصادي اراه شديد التلبد ويسير التفجر خاصة إذا توهم البعض أن الرياح تجري بما يشتهون. 2. خوض كل المعارك الافتراضية للهروب من المعارك الفعلية التي تحول دون الوصول إلى جعلها تنتقل من التوقع إلى الوقوع اللهم بمعنى السقوط إلى وضع أسوأ من الراهن. وما يتميز به المترشحون للترشح يقبل الرد إلى برنامج وحيد: الإعداد للحرب الاهلية وليس لتوحيد الشعب التونسي. وإذا كان الإسلامي لا يجعل ذلك صراحة برنامجه فهو لا يجهل أن مجرد ترشحه للترشح يحوله إلى مثيل الاخرين لأنهم يستثنوه حتى وإن لم يستثنهم من هذا الحق حتى لو أيده فيه صوت الشعب. ترشح الإسلامي للترشح لهذه العلة وحدها سيكون الفرصة للمترشحين الآخرين للاختيار بين أحد حلين لا ثالث لهما: إما الشروع من الآن في عملية الاستثناء ولو بالعنف كما حدث قبل ما سمي بحل التوافق أو اعادة التوافق المغشوش بابتزازه بهذا الحل لتجنب الحرب الاهلية التي لا يتورعون عن خوضها. لكن حتى لو فرضنا الأمور صارت بسلام وتمت الانتخابات وكان فيها للإسلاميين مرشحا. فاستراتيجية الاستئصاليين ذات مرحلتين. • الاولى محاولة منع النجاح في الدورة الثانية إن وصل إليها بتحالف الجميع ضده إن لم يقبل التوافق المغشوش والتنازل لمرشح يختارونه. • والثانية بتمصير العلاج إن نجح مع ذلك. والنتيجة التي أريد الوصول إليها تتعلق بما يدور في خلد الإسلاميين الذين يترشحون للترشح ثم يترشحون مغترين بالهدنية الحالية وبنتائج البلديات وبتفتت الأحزاب الأخرى. هل لهم تقدير للوضع الذي يمكن أن يشجعهم عليه ويلغي هذه المعاني التي حاولت التعبير عنها فيظهروها حتى يكون ما سيقدمون عليه ليس من جنس المغامرات التي تنتج عن العجلة وسوء التدبير؟ وطبعا سؤالي هذا ليس فيه تقليل من ذكائهم أو من خبرتهم أو حتى من إخلاصهم للإسلام وللشعب. إنما أسأل لأن تقديري هو على فرض حصول ذلك ومرت الأمور بسلام ولم تمصر تونس هل الإسلاميون مستعدون لدفع المقابل؟ أعني هل هم مستعدون لقبول شروط من سيقبل بهم محليا وإقليميا ودوليا؟ والجواب لا يمكن ألا يكون بنعم لأن عكس ذلك مستحيل: فلن تقبل القوى المحلية إلا بأمر من القوى الاقليمية وهذه لن تقبل إلا بقبول القوى الدولية. وشروط هذه القوى معلومة ولا تحتاج إلى شرح. وما كان ماكرون يجرؤ على ما قاله واعتبره العلماء تشريفا للرئيس وهو إهانة لو لم يكن للتذكير ببعضها. وفي هذه الفرضية لم يبق لتسمية المترشح للترشح بالإسلامي إلا لخداع قاعدته الشعبية إذ الزعم بأن ذلك مناورة ظرفية -حتى لو أيدها متهموه بأنه مزدوج الخطاب ولن يتورعوا في الحملة الانتخابية-فهو لا يخدع إلى نفسه لأن من سيقبل به ليس ساذجا لو كان يعلم أن له فكاكا مما سيفرض عليه. ولابد هنا من التمييز بين نوعين من هذه الوضعية. ففي البلاد الملكية مثل المغرب والأردن والأميرية مثل الكويت الامر محسوم لأن ما هو سيادي يستثنى منه غير الملك والامير فيقبل بالإسلامي في وظيف الدولة الخدمية دون السيادية كرئيس الجمهورية في دولة الملالي: الاسم العالي والمربط الخالي. لكن تونس أو الجزائر أو بقية الدول غير الملكية سواء كانت عسكرية أو مدنية فالقبول بالإسلامي إن اضطروا إليه فينبغي ألا يتجاوز التوافق المغشوش الذي عرفته الدورة الحالية من الحكم في تونس أعني اقل بكثير مما يقبل به في الملكيات التي تجعل الإسلاميين “بار شوك” مع الشعب لا غير. فإذا كان الإسلامي طويل النفس ويطلب المشاركة الرمزية إلى أن يقع “تطبيع” وجودهم في المسرح السياسي الفعلي بعد أكثر من قرن من غيابهم عنه فيمكن اعتبار ذلك استراتيجية معقولة ومفيدة في آن للثورة ولعودة الإسلاميين للعمل السياسي المتجاوز لمعارك الهوية وتخوفات الأحزاب الأخرى من هيمنة الحزب الواحد. لكن ذلك يقتضي ألا تمتد أيديهم لما يتجاوز الدور الخدماتي وعدم السعي للدور السيادي. صحيح أن ذلك عسير الهضم. فعسر الهضم مع المغص أقل خطرا على تجربة الانتقال الديموقراطي الذي ما يزال هشا من الحروب الاهلية التي أكاد أجزم أنها حتمية لعلل محلية وإقليمية ودولية على الأقل في المستقبل المنظور. وحتى لو فرضنا أن الثورة المضادة تخسر المعركة الدائرة حاليا بسبب اغتيال خاشقجي فإن مهادنتها لثورة الحرية والكرامة ستكون مؤقتا. ولا ينبغي أن يتكرر ما حصل في البلديات لأن الرهان في الرئاسيات مختلف تماما ويمكن أن يدفع فعلا إلى توحيد كل القوى السياسية لإنجاح أحد الاستئصاليين وفي حالة عدم نجاحه سيؤدي الامر إلى التعجيل بالتمصير والانقلاب. ولكن حتى في حالة نجاح الاستئصالي في الدورة الثانية فإنه سيكون تكرارا لتجربة ابن علي. لكل ما ذكرت ورغم علمي بأني لا أمثل تيارا أو قاعدة سياسية يمكن أن تحول دون المترشحين للترشح من الإسلاميين فإني أدعوا من لهم كلمة مسموعة في الحركات الإسلامية بمنع ذلك وتأجيله حتى يتم التطبيع المتدرج بحسب التجارب القطرية والمناخ العام في الاقليم حتى تستقر الثورة وتتجذر قيمها. وطبعا لن يقف كلامي في حدود النصح علما وأني اعتزلت المشاركة المباشرة في العمل السياسي ومن خارجه. فإذا حصل فرأيت انتقالا من الترشح للترشح إلى الترشح الفعلي أيا كان المقدم على ذلك ممن لا يمثلون توافقا واسعا بين الأحزاب السياسية التي تجمع على توحيد الشعب التونسي حول أهداف الثورة فسأعارض صراحة هذا التوجه تماما كما فعلت في ترشح المرزوقي في المرة الأولى وفي المرة الثانية. ولست مهتما بنتيجة موقفي ومدى فاعليته: ففي القضايا المصيرية الغاية القيمية مقدمة على النتيجة. والغاية القيمية هنا هي تحقيق شروط نجاح الثورة بقيمتيها دون انتساب حزبي أو مذهبي لأن القيمتين فيهما شرط الديموقراطية التي تلغي الاستثناء المتبادل بين القوى السياسية فلا يعتبر أي حزب وأي فكر خطرا على غيره لأن الكل يكون في خدمة الجماعة وليس مستفردا بوصاية عليها. ومن حق غير الإسلاميين أن يفترضوا حتى من باب التخوف وحتى درس التجارب السابقة -دون أن يكون لهم ما يؤيد افتراضهم- أن الإسلاميين بسبب حضورهم الأغلبي في القاعدة الشعبية قد يعودوا بالبلاد إلى الحزب الواحد أو إلى التعددية الشكلية التي ليس فيها التوازن الذي يحقق التداول الفعلي. ولذلك فالواجب الاعتراف بوجاهة هذه الحجة القوية. ولهذه العلة دعوت إلى استعادة الثنائية التي نتجت عن تاريخ حركة التحرير الوطنية أعني الحزب الدستوري القديم (الثعالبي) والحزب الدستوري الجديد (بورقيبة) حيث كان الخلاف حول سياسة التحرير وليس حول هوية الشعب التي هي مسألة جديدة تكونت بعد الاستقلال بسبب القطيعة بين الجناحين. وتجاوز هذه القطيعة هو ما أعنيه بتطبيع الحركة الإسلامية التي لم تكن تعتبر عدوة للتحديث حتى وإن كان طابعها التأصيلي غالبا والحركة البورقيبية التي لم تكن تعتبر عدوة للتأصيل حتى وإن كان طابعها التحديثي غالبا. والمصالحة بين هذين الفرعين هو شرط السلم المدنية وشرط التداول السلمي. وإذا حصل ذلك فإن القوى السياسية الغالية ستجد نفسها مضطرة للتخلص من الصراعات الإيديولوجية هو الهوية والخيارات الإيديولوجية التي ماتت في العالم كله أعني في تونس كل خرافات الجبهة الشعبية بشقيها الماركسي والقومي. وحينها ستتكون أحزاب أخرى قليلة العدد بمطالب مكملة للقوتين الكبريين. وفي تلك الحالة لن تجد هذا التهافت السخيف على الترشح للترشح الذي يصدر عن كل من دب وهب لأن التوازنات السياسية حينها ستحد من هذا التكالب المرضي الذي لا يمكن أن يفسر بالحرص على المصلحة الوطنية بل علته الأساسية أن السياسة صارت تجارة وطريق سيارة للإثراء السريع.