رؤية القرآن، لحمتها وسداها عين كيان الانسان – الفصل الرابع

**** رؤية القرآن لحمتها وسداها عين كيان الانسان الفصل الرابع

لم أفرغ من الكلام على “رؤية القرآن لحمتها وسداها عين كيان الإنسان”. فقد يعاب علي قولي إن الصحابة فشلوا في حماية الدولة لأنهم تصرفوا بـ”الثقة” متصورين وكأن الامبراطورية الناشئة يمكن أن تساس كما تساس القبيلة بمنطق “عدل فنام”. وغايتي ليس الذم، بل فهم العلل وقد سبق فبينت فضلهم. فمقومات دولة الإسلام الكونية الخمسة تحققت لكنها لم تحم: 1. الرسالة (نزلت من عند الله) 2. تكوين الجيل الذي أعد لزرعها في الارض (مرحلة الرسول) 3. تحديد مركزها الجغرافي (مرحلة الصديق) 4. تحديد مركزها التاريخي (مرحلة الفاروق) 5. توحيد المرجعية (مرحلة ذي النورين). ثم نضجت الفتنة.

لما قلت “نضجت الفتنة”؟ يكفي تذكر حادثة السقيفة وتردد الصحابة بين حلين كانت موضوع أخذ ورد: • العودة إلى القبلية (منا إمام ومنكم إمام) • أو تقليد الدول التي ما زالت تستعمر أطراف مركز الدولة الناشئة والتي ما تزال هشة أي فارس وبيزنطة. فمنذئذ كانت الفتنة تنمو فحصل الانقلاب على عثمان. وابن خلدون لا يعتبر الخلاف بين الصحابة وحده كافيا لحصول الفتنة بل هو يفسره بأمرين تاريخيا وبأمر أعمق فلسفيا. • فأما الأمران التاريخيان فهما طبعا الخلاف بين الصحابة ولكن الأهم منه عدم قبول القبائل العربية الكبرى حكم قريش التي لم تكن من كبريات القبائل ويقدم هذا على ذاك. • وأما الامر الفلسفي العميق فهو طبيعة السياسي الذي يجعل المرحلة الرسولية والراشدة أمرا استثنائيا لا يخضع لمنطق السياسة. لذلك فهو يعتبر هذه المرحلة استثناء تاريخيا واعجازا دينيا لا يمكن أن يقاس عليه ما يحدث بمقتضى طبائع الأشياء. وهو يبحث عن شروط تطورها نحو التوازن بين الشرعية والشوكة لذلك فكلامي على “الفشل” في حماية الدولة ليس هدفه استنقاص ما قام به الخلفاء الأول، بل فهم ما جعل جهدهم هذا الذي حقق الشروط الخمسة يبقى في الأذهان ولم يتحول إلى مؤسسات تحميه في الأعيان وتحمي خاصة نظام المؤسسات الحامي. فالدول تحتاج إلى الشوكة لأن الشرعية وحدها لا تكفي خاصة إذا تآكلت. فمباشرة بعد حسم مسألة رئاسة الدولة حدثت الردة. وهي دالة على أن القبائل التي أسلمت لم تكن مدركة إلى أن الأمر متعلق بدولة ذات رسالة بل كانت قياداتهم تتصور أن الأمر كله هو خضوع لقوة زعيم توفي ولم يبق لهم التزام مع غيره. وهذه بداية الفتنة القبلية التي قدمها ابن خلدون على خلاف الصحابة. فخلاف الصحابة تغلبت عليه الشرعية -شرعية الصديق والفاروق- لكن خلاف القبائل اضطر الصديق إلى اللجوء إلى الشوكة. والشوكة كانت حينها ما تزال قوية ولم يفسدها خلاف الصحابة. لكن في الانقلاب الذي اغتيل فيه عثمان كان خلاف الصحابة قد فعل فعله فلم توجد القوة الحامية لرأس الدولة. ذلك أنه لا أحد يمكن أن يصدق أن الجماعة التي جاءت من مصر والعراق واغتالت عثمان كان يمكن لها أن تنجح لو أن أهل المدينة كانوا حقا متحدين ومستعدين لحماية الخليفة. فإذا لم يكن بينهم من تواطؤ مع هؤلاء فعلى الاقل هم بقوا سلبيين ولم يتدخلوا بصورة تحول دون الانقلاب على الشرعية والاغتيال. وحتى أقدم مثالا مع فارق القياس، لو أن الشعب المصري كان بحق مؤمنا بالدولة الديموقراطية لما أستطاع القلة من الخونة الذي سموا أنفسهم جبهة الانقاذ-وهم جبنة الخونة الذين لم نر لهم بعد الانقلاب حسا-وبعض الخونة من الجيش أن يغيروا مجرى التاريخ في مصر التي كان يمكن أن تصبح مركز الإسلام. ما يعني أن تصديق الصحابة لوهم الشرعية المغنية عن الشوكة هي عينها وهم الاخوان الذين زعموا “سلميتنا أقوى من الرصاص”. اطمأنوا متوهمين أن الثورة اكتملت وأن النظام مستقر ولم يعدوا أو يستعدوا للدفاع عن الثورة ويكاد يكون ذلك كذلك في جل بلاد الربيع رغم صمود الثورة في سوريا وليبيا.

صحيح أن صمودهما لم يؤت أكله. لكن الثورة لم تستسلم ولن تستسلم لأن المطاولة حققت نتيجتين إيجابيتين يغفلهما الكثير من المحللين: 1. وحدت الإقليم بأن جعلت الحرب الأهلية التي كانت بالقوة حول أمور سياسية محلية تصبح حربا أهلية حول خروج الإقليم من الاستثناء شبه خارج التاريخ الحديث. والامر الثاني وهو أهم: 2. عادت الأمة إلى “فوهة” مدفع التاريخ الكوني أعني إلى ما يشبه اللحظة التي توهم فيها أعداء الإسلام إخراجه من التاريخ. وهي عودة لكأنها بدأت بمحو ما حققه الأعداء منذ وعد بلفور ومشروع سايكس بيكو فأصبح ما ظن قد تم هو رهان اللحظة وموضوع المستقبل الإقليمي. ولكن هذه المرة بصورة أوسع: كانت أوروبا هي صاحبة السلطان في العالم لكنها اليوم ليست في وضع أفضل من وضعنا على الأقل سياسيا. فهي مثلنا توجد في كماشة فضلة الامبراطورية السوفياتية والامبراطورية الامريكية. فهي لا حول لها ولا قوة مثلنا لكن قياداتها ما زالت تعادينا بدل الحلف معنا. ويمكن القول إن الكثير من نخبنا التي تدعي الكلام باسم الإسلام لها جزء كبير من المسؤولية. فجلهم جاهلون بما يجري فعلا في العالم وبأن الاقليم كله بفرعية الشرقي (نحن) والغربي (أوروبا) لم يعد ذا سلطان على نفسه وخاصة على شروط قيامه الاقتصادية والجيواستراتيجية في النظام الجديد. والنظام العالمي الجديد لم يبق لروسيا ما يتوهمه بوتين من دور رغم عنترياته. قطباه هما: • مغول الشرق الاقصى أو الصين • ومغول الغرب الاقصى أو الولايات المتحدة. وما بقي من العالم هو موضوع تنافسهما. أما الشرق الأدنى (نحن) والغرب الادنى (أوروبا) فما زالت قياداتهما تعيش في الماضي.

لما أسمع بعض الشيوخ يتكلمون على الحرب الصليبية لا أميزهم عن اقصى اليمين الأوروبي الذي يتكلم على الغزو الإسلامي لأوروبا. كلاهما ما يزال عيش على نظام عالمي تجاوزه التاريخ وخاصة بعد أن فقدت أوروبا امبراطورياتها وصارت مستعمرة سوفياتية أمريكية ولا تزال خائفة من روسيا ومحتمية بأمريكا. سذاجة شيوخنا المتكلمين على الحروب الصليبية وغباوة اليمين الأوروبي كلتاهما مفيدة لروسيا وأمريكا حاليا ولكنها مفيدة خاصة للصين وأمريكا، لأني اعتقد جازما أن روسيا لم يعد لها القوة الكافية ليكون لها دور في النظام العالمي القادم لأنها من العالم الثالث رغم الخردة السوفياتية التي تملكها. ويوجد أمران متماثلان كذلك في فرعي الإقليم الأوسط أي الشرق الأدنى والغرب الادنى هو امكانية عودة أوروبا للتفتت القومي ومرض الأنظمة القبلية العربية التي تدعي أنها دول وهي دون المحميات منزلة بالمعنى السياسي لأنه مقومات الوجود غير التابع ممتنعة عليها بمقتضى الحجم. فعودة أوروبا إلى القومية-بدأ بالانفصال البريطاني-سيزيد تبعية الأوروبيين إلى أمريكا خاصة وقد يمثل فرصة لعودة روسيا إلى أوروبا الشرقية ومرض القومية الذي هو خدعة في الدول التي تمثل الثورة المضادة عند العرب هي نهاية التجمعات الخمسة التي بنحو ما كان يمكن أن تحقق ما يشبه تكامل أوروبا. فتتوا مجموعة الهلال وفتتوا مجموعة الخليج وفتتوا مجموعة النيل وفتتوا مجموعة المغرب وفتتوا مجموعة القرنين (قرن أفريقيا الصومال وقرن الجزية أي اليمن) ولم يبق إلا عبث أميرين غبيين يدعيان القومية العربية والعلمانية هم أعدى أعداء العروبة والإسلام وأكثر العرب بداوة وغباوة. ويوجد تماثل عجيب بيننا وبين أوروبا حاليا: • فأقصى اليمين واقصى اليسار الأوروبيين كلاهما يسعى لتفتيت أوروبا من جديد باسم الهويات القومية. • واقصى التحديثيين العرب وأقصى التأصيليين العرب اليوم هم أعدى أعداء التكامل العربي. ولولا الثورة ورد فعلهم عليها لما استعاد الاقليم وحدته ولو سلبا. وما أسميه الوحدة السلبية هو ما أشرت إليه بأن اللحظة الحالية وبفضل صمود شباب الثورة بجنسيه أعاد تاريخنا إلى ما يشبه ما كان عليه منذ بداية حركة الانبعاث والنهوض وترميم الشأن قبل الوقوع في فخ النكوص إلى القوميات والعرقيات والطائفيات التي حررنا منها الإسلام بثورته. ففي القرن التاسع عشر بدأت الأمة تفيق من غطيطها وتحاول استرجاع دورها بدأ بالثورة على الاستعمار وهي ثورة كانت كلها من جنوب شرق آسيا إلى المغرب الأقصى ذات مرجعية إسلامية بحيث كان زعماؤها لا يعترفون بالحدود التي وضعها الاستعمار بل يقومون بالإيقاظ في دار الإسلام كلها. وكانت حركات المقاومة والصمود ضد الاستعمار ومحاولاته ضرب مقومات الذات -العربية والإسلام والتاريخ المشترك والعاصمة الرمزية الواحدة عاصمة الخلافة-كل ذلك كان يمثل “المناخ” الروحي والقيمي والسياق السياسي الذي نحمد الله أنه قد عاد بفضل الثورة وهو بداية الانتصار. تلك هي علة تفاؤلي وتلك هي علة تشاؤم الأعداء في الداخل وفي الخارج. وما حربهم على السنة عربهم وأتراكهم وأكرادهم وأمازيغيهم في الإقليم إلا لأنهم فهموا أن الاستئناف قاب قوسين أو أدنى وأن ما كان ممكنا خلال الحرب العالمية الاولى لن يتكرر لأن شباب الأمة استعاد الثقة بالنفس.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي