**** رؤية القرآن لحمتها وسداها عين كيان الانسان الفصل الخامس
لم استنقص دور الصحابة الاول وخاصة الثلاثة الأول، بل كان تنسيب الرؤية التي بلغت الذروة في الخروج عن رؤية الإسلام باسترجاع الوساطة والوصاية في التحريف الشيعي للإسلام وادعاء وراثة آل البيت للنبوة لكأنهم يقولون باتصال الوحي. لم تصل السنة إلى ذلك لكنها أضفت على الصحابة هالة زائفة. الاعتراف بالفضل لا ينفي تبين الخطأ من الصواب، وإلا فأننا نجرم في حق الإسلام مرتين: • بتجاهل رفضه لهذا ما وجدنا عليه آباءنا دون تمييز الصواب من الخطأ • الغاء ثورتيه الروحية (تحريم الوساطة والكنسية في التربية) والسياسية (تحريم الوصاية والاستبداد). فالتعلم والأمر بالمعروف فرض عين. لكن الوساطة تغني عن التعلم وتعمم الأمية حتى يصبح الوسطاء خاصة والبقية عامة وهو أمر مناف لثورة الإسلام الروحية التي غايتها جعل التعلم فرض عين وليس فرض كفاية والتعلم يكون من الكتاب ومن العالم في آن كما سنرى. والوصاية تغني عن الامر والنهي فرض عين لأن شرطه سلطة الشعب. فإذا كان الرسول نفسه يذكره ربه بأنه من حيث كونه مربيا “إنما أنت مذكر” أي لست وسيطا بين الله والمؤمنين بل مبلغ رسالة ويذكره بأنه من حيث كونه حاكما “لست عليهم بمسيطر” أي لست وصيا بين المؤمن وشأنه العام بل هو يديره بالشورى وأنت واحد من الجماعة في تشاور معهم، فكيف بغيره؟ فوجد من ادعى ما لم يدعه النبي ونهي عنها نصا في القرآن وناوس بين موقفين أشدهما تطرفا كذبة آل البيت أصحاب الوساطة الروحية والوصاية السياسية وهي رؤية فارسية وبيزنطية فرضها استغباء دهاة فارس ويهود الجزيرة على العرب السذج بعد وفاة الإمام ثم كذبة وراثة العلماء للأنبياء عند السنة. فليس للنبي غير التبليغ وحكمة التعليم مع التوكيد على أنه لا يعلم الغيب ومن ثم فليس عنده ما يمكن أن يرثه العلماء لا ماديا ولا رمزيا غير اخلاق القرآن وهي كلها حق المؤمنين من حيث هم مؤمنون وليست تركة يرثها العلماء ليكونوا وسطاء ويتواطؤوا مع الأوصياء خروجا عن سنن الإسلام الحقة.
ولا بد هنا من التذكير أن ابن خلدون يعود إلى ما اعتبره مرحلة مستثناة من سنن السياسي من حيث هو سياسي ليبين أن النبوة نفسها لا تخرج عن طبائع الأشياء بمعنى أن الله لا يبعث نبيا إلا في منعة من قومه. ذلك أن الرسالات السماوية أولى من سواها بالاعتراف بسنن الخلق وطبائع الأشياء. ولذلك فسياسة الرسول لم تكن معتمدة على الاستثناء الذي يغني عن معرفة سنن التاريخ والسياسة وطبائعهما بل كان يعلم بها والدليل أنه خاض أكثر من ستين حربا قادها بنفسه ولم يكن كالذين وراثته من أدعياء الرسوخ في العلم ينتظر المعجزات دون العمل بالأسباب لتحقيق الرسالة التي كلف بتبليغها. ولست أبالغ إذا قلت إنه قد توقع الفتنة وأعد لها عدتها عندما قام بعملين يغفل الكثير دلالتهما: • فهو اسس لشرعية الدولة الأموية بمجرد أن نسب وظيفتي الدولة لأبي سفيان وابنه معاوية يوم الفتح الاعظم. فهو قال من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن • وكلف معاوية بكتابة القرآن مع كتبته السابقين. فهذان البعدان هما بعدا الشوكة والشرعية. الامن لا تكفي فيه الشرعية والشرعية لا يكفي فيها القرآن. لذلك لا بد من الجمع بينهما. وكان الرسول يعلم -وابن خلدون يشير إلى معنى العصبية في قريش-أن أساس الحكم في عصره هو العصبية وخاصة الشرعية فعلم أن دولة الإسلام لن تستقر من دون بني أمية. والتاريخ أثبت ذلك مرتين: • أنها لم تستقر من دون استقرارها وخاصة بعد الاستقلال المطلق من سلطان بيزنطة في عهد عبد الملك • وأن دولة الإسلام لم تستقر بعدها إلى اليوم لأن ذهاب عصبة العرب الخادمة للإسلام جعلها تتفكك وتتوالى عليها الغزوات من الشرق والغرب دون أن تصمد وحدتها بعد بني أمية. خلافي الأساسي مع قطب ومع الفكر الإخواني علته هذه الخرافة التي تجعلهم يتوهمون أن تقديس المرحلة الراشدية يلغي أهمية ما تلاها فما ينفى عن هذه ويثبت لتلك كلاهما خطأ في فهم تاريخ الإسلام وتعامل المسلمين مع طبائع الأشياء التي لا يمكن من دون فهمها التمييز بين الصواب والخطأ فيهما. وحتى أشخص الداء فأحدد طبيعته وعلته عرفت المرحلة ليس بمفهوم الملك العضوض الذي لا ينطبق على المرحلة الأموية بدليل بقاء العلماء مستقلين إلى حدود حصوله بداية من شروع الدولة العباسية في فرض رؤيتها العقدية على العلماء بل هي عندي مرحلة “حالة الطوارئ” في الحروب الأهلية الاربعة. ولي على ذلك دليلان: 1. لم يتوقف الفتح رغم الحروب الاهلية الأربعة-بين الخليفة الرابع وأم المؤمنين وبينه وبين معاوية وبين ابنيهما وبين عبد الملك وابن الزبير-فكانت الدولة إذن في حالة طوارئ حدت من ا لحريات وعطلت العمل ببعض بنود الدستور الإسلامي بمعنى أن البيعة صورية والحكم وراثي. وعلماء السنة دون أن يقبلوا هذا الامر الواقع وجدوا طريقة لعدم الصدام مع الدولة التي لم تتدخل في الحرية الروحية فاعتبروا ما يحدث من باب الضرورة التي تبيح المحظور-حالة الطوارئ-فبقيت الحريات في الاقوال على الاقل فلم يعتبروا التغلب أساسا شرعيا للحكم إلا بمنطق الضرورة الموقتة. ولا أنفي أن الحرب بين العلويين والأمويين أدت إلى تطرفين بين متشبثين بشرعية لا يقرها الإسلام (الوساطة والوصاية أو التربية بتواصل الوحي والحكم بالحق الإلهي) ومتشبثين بالشوكة فعليا بالشرعية التي يقرها القرآن قوليا دون تطبيقها فعليا (الوساطة بوراثة العلماء للأنبياء والوصاية بالشوكة). لكن ذلك كان من أعراض الجوهر السياسي الذي كان جاريا فعليا في المائة وعشرين سنة الأولى من تاريخ الإسلام. 2. أما الدليل الثاني فهو مسعى الخلافة الاموية مباشرة بعد الاستقرار أي بعد ابن عبد الملك محاولة الراشد الخامس إلغاء حالة الطواري والعودة إلى الشرعية الإسلامية في سلوك الدولة. لكن ذلك فشل إذ لم تدم محاولته أكثر من سنتين ثم انفرط العقد وعادت العصبية الجاهلية ولم تتوقف الحروب الاهلية في الدولة التي قضت عليها مؤامرات الدعوة العباسية بالاسم والفارسية بالفعل والبقية معلومة وها نحن نراها تتكرر والعرب فاغرون أفواههم تابعين لذراعي الاستعمار إيران وإسرائيل. عادت العرب إلى القبلية وصراعاتها وهم كذلك مباشرة بعد ذهاب الجيل الاول من الصحابة رغم محاولات الصمود الذي مثلته الدولة الاموية. انهار دورهم ومنذئذ وهم خارج التاريخ رغم اللحظة القصيرة في الأندلس والدولة الأموية الثانية. ولولا الأتراك والأكراد والأمازيغ لما بقيت للإسلام دولة. ذلك أن الدول تنهار بمجرد انهيار المركز. والمركز هو هذا الاقليم الذي هو رهان الصراع الحالي: أي المشرق والمغرب بشعوبه السنية الاربعة أعني العرب بداية والاتراك غاية وبينهما الاكراد والامازيغ. ولست أستنقص دور الشعوب الإسلامية الاخرى لكنها ليست هي المركز من دولة الإسلام. ولست بحاجة لاستدلال طويل لأثبات هذا المعنى: فكون الأعداء بصنفيهم (الذراعان إيران وإسرائيل) وبسند الذراعين (روسيا وأمريكا) يركزون على هذا الإقليم دليل كاف ومفحم لكل من يجادل في هذه الحقيقة. وليس الأمر ابن اليوم فهو بدأ منذ نزول القرآن إلى اليوم بتوالي شعوب الغرب على قيادته ضدنا. وما قلته عن خلافي مع قطب والاخوان حول تأويل مراحل تاريخ الإسلام لا ينفي أني أفضل قراءتهم المتعلقة باستعادة الوظيفة السياسية والاجتماعية إلى الإسلام على تخريف رضوان السيد الذي يسمي الإسلام السياسي مجرد إحيائية يعيبها عليهم دفاعا عن التقاليد التي جعلت الإسلام مقصورا على قشور التعبد. فهذا الموقف يمكن الدجالين من العيش في بلاطات الأمراء المستبدين والفاسدين ولا يرى من الدين إلا ما حدده به ماركس مجرد أفيون للشعوب حتى تنام فيتمتع الفسقة من العلماء والأمراء بدعوى أنهم أولو الامر في الفكر للأولين وفي الحكم للثانين وترك الإسلام والمسلمين للذل والمهانة تابعين. فلا وجه للمقارنة بين قطب ومفكري الإخوان رغم خلافي معهم الذي ذكرت وبين طبالي المستبدين اللاهثين وراء من يدفع أكثر العابدين لبعدي العجل معدنه وخواره في خدمة الاستبداد والفساد ورهن البلاد واستعباد العباد حتى تبقى الأمة تابعة ذليلة بدلا من أن تكون كما أرادها الله شاهدة على العالمين.
شباب الثورة بجنسيه بوعي أو بغير وعي وإن شاء الله سيصبح جميعهم بوعي ذي أعماق تاريخية ضاربة في القدم وذي أبعاد حضارية ضاربة في الحداثة وجبر الكسر فأصبح بوسعهم قراءة التاريخ قراءة سوية: • لا تقدس ماضيا دون نقد • ولا حاضرا دون تحرر • ولا مستقبلا دون سيادة حماية ورعاية.