**** رؤية القرآن لحمتها وسداها عين كيان الانسان الفصل الثالث
فبأي معنى يعتبر كيان الإنسان مؤلفا مثل القرآن من هذه المعادلة الوجودية: 1. الله 2. الطبيعة 3. (الله-الإنسان) 4. التاريخ 5. الإنسان. فيكون في الإنسان الله حاضرا مرتين والإنسان حاضرا مرتين. فالحضور مباشر وغير مباشر بين الطبيعة والتاريخ وغير مباشر بالطبيعة والتاريخ مع الوعي بالذات وبالسياق.
ولهذه العلة، فأكثر الناس تعبيرا عن الثورة على حالهم لا يعتبرونها أمرا طبيعيا عاديا، بل غالبا ما يكون في آن ثورة عليها وكأنها تتضمن شيئا من العقاب غير المستحق بمعنى أن الكفر أو السخط على الأحوال يشبه وكأنه اعتراف بوجود الله ونقمة على ما يتصوره الساخط ظلما فينزل بالله إلى مستواه. وعكسه المؤمن تسليما بأنه يمكن لما يكرهه أن يكون فيه خير له وأنه يمكن لما يحبه أن يكون فيه شر له فيحدث شبه تسليم يرفعه إلى مقام الرضا بالقضاء والقدر فيصبح حرا من أحوال نفسه وسيدا على مجرى حياته بشبه قبول ورضا بما ما يحدث ما يكون في ذاته جوهر صبر المؤمن البطولي. فيكون الموقفان الساخط والراضي معبرين عما يمكن أن نسميه القوة الروحية التي لها الدلالة العكسية تماما فيكون: • الساخط هو الضعيف • والراضي هو القوي • ويكون الأول شبه مستسلما لجبنه وعدم تحمل مصيره • والثاني شبه مستسلما للإرادة الإلهية الغيبية فيحصل ما يمكن تسميته بالاطمئنان النفسي في الضراء. ولو قارنا بين الوقفين مثلا في الحروب لعلمنا أن • الأول لا يمكن أن يكون جنديا جيدا لأي قضية ولا يعول عليه في أي جبهة • وأن الثاني عقيدته هي عقيدة عمرو المختار: لا نستسلم ننتصر أو نموت في سبيل الله. فيكون الإنسان حينها وكأنه عين منظور القرآن لمفهوم الإيمان الصادق وأخلاق القرآن. وهذا هو النضوج الروحي الذي لا يمكن أن يتوفر إلا لمن بلغ اللامبالاة بمجرى الوجود الطبيعي والتاريخي مع كونه يؤمن بدوره فيهما كما تحدده مهمتاه فيهما: مكلف بتعمير الارض ومكلف بالاستخلاف عليها. • وتعمير الارض شرطه العمل على علم بقوانين الطبيعة • والاستخلاف شرطه العمل على علم بسنن التاريخ
وبهذا المعنى يصبح تسليمه بالقضاء والقدر في ما يتجاوز • إرادته الحرة • وعلمه الصادق • وقدرته الخيرة • وحياته الجميلة • ووجوده الجليل لأن الاستخلاف منزلة وجودية هذه علامات البرهان على الأهلية له ومن ثم فتوكل المؤمن ليس تواكل من يسيء فهم القضاء والقدر: الله يسألنا عما كلفنا به مما نستطيع. ولما فقد المسلمون هذه المعاني وصاروا يخلطون بين التوكل والتواكل وبين ما يتجاوز ما كلفوا به وما هم عنه مسؤولون بقدر الاستطاعة، أصبحوا يجدون أعذارا لقعودهم في التعمير والاستخلاف معتبرين ذلك من الإيمان بالقضاء والقدر، في حين أنه ليس منه بل من الغفلة عن الفرق بين التوكل والتواكل. وأحمد الله أني عشت إلى اللحظة التي ثار فيها شباب الامة بجنسيه واستعمل الشعار الأسمى في ثورته، أعني بيتي أبي القاسم الشابي. فدلالة الثورة التي بدأت خلع المستبدين واستعادة شباب الأمة المبادرة لتحقيق شرط الحرية الروحية وشرط الحرية السياسية تمثلت في جعل بيتي الشابي شعار ثورتهم.
والغريب أن الكثير من هؤلاء “العلماء” من صفي علماء السلطان التأصيليين والتحديثيين المزعومين يدعون أن هذه المعاني مستوردة وأنها ليست من جوهر الإسلام وأنها مؤامرة ضد “الممانعين” وميليشياتهم حتى فضحتهم أمريكا وإسرائيل اللتين ضمنتا وجود السيسي وبشار وحفتر وكل الطغاة العرب. وانظمت إليهم الثورة المضادة التي تمول حرب أمريكا وإسرائيل وإيران وروسيا على الإسلام في ذاته على ركنه التاريخي وأساس دولته وحماة بيضته من ا لعرب والترك والأكراد والأمازيغ والتي صارت خدما لكل دعاية الإسلاموفوبيا في الغرب وتمويل حرب الاستعمار في افريقيا وآسيا وحتى في البلقان. لكن قيم القرآن استردت جاذبيتها لأن الشباب أعاد إليها دورها الفعلي في التاريخ بإحياء ثورتيه: • الروحية للأفراد • والسياسية للجماعات مع ما فيه منه قيم روحية وخلقية تحرر البشر من عبادة البشر إلى عبادة رب البشر وهو سر الفتح الغني عن استعمال القوة لانتشار القيم بالمثال والقدوة الحسنة. حقيقة الرؤية القرآنية أردت التذكير بها لأن شباب الثورة بجنسيه يتقدم عنده العمل على النظر بسبب حماسة الشباب واندفاعه الدال على العنفوان والحمية الخلقية ما جعل الثورة رغم تحالف كل اشرار العالم عليها تنتصر بالصمود البطولي، وهي في النهاية سيدة صاحبة اليد الطولى وعدا من لا يخلف.