**** رؤية القرآن لحمتها وسداها عين كيان الانسان الفصل الأول
عندما بينت وحدة الديني والفلسفي في النظر والعمل وأخذت القرآن مثالا في ذلك، لم يكن قصدي أن مضمونهما واحد أو طريقتهما واحدة بل هما يشتركان في وصف المنشود بالكمال الذي يجذب الاستكمال الذي يمثله الموجود. صيرورة الموجود إلى المنشود هي موضوعهما وإن في اتجاهين يبدوان متقابلين. فالديني والفلسفي موضوعهما هذه الصيرورة وشروط تحقيقها بعمل على علم. • لكن الديني يقدم العمل • والفلسفي يقدم العلم وكلاهما محق لما بين السلوكين من تكامل فلا نعلم إلا ما نعمل ولا نعمل إلا ما نعلم، ما يعني أنه يوجد: • عمل هو في آن علم • وعلم هو في آن عمل هو الاصل الذي يتفرع عنه العمل والعلم. فالعلم والعمل المنفصلين أو المتفرعين عن “أمر” هو عمل وعلم في آن هو عين كيان الإنسان بمعنى أن وجوده نفسه هو هذا الانشداد إلى المنشود المطلق بكيانه من حيث هو وجود مشدود إليه بصيرورة حياته الواعية: الحياة الواعية هي العلم والعمل اللذان لا ينفصلان حتى إن لنشعر وكأننا نعمل مرتين. نعمل في الذهني ونعمل في العين سواء بدأنا بهذا أو بذاك. إن فكرنا قبل العمل أو عملنا قبل التفكير ففي وجودنا الذهني والعيني وعي بذاتنا وهي تدبر أمرها قبل الفعل وخلاله وبعده دائما فيكون كياننا في آن نظر وعمل أو عمل ونظر متلازمين. وذلك يصح على الإنسان من حيث هو إنسان مهما كان أميا. وعندما ينفصل الوجهان بحكم الاختصاص وتقسيم “العمل” يصبح العلم فعل الأذهان في الرموز ويصبح العلم فعل الأعيان في الأشياء فيترمز العمل في النظر ويتشيأ العلم في العمل، لكن الأمرين يبقيان متلاصقين لأنهما حتى بعض التخصص لا يمكن تصور أحدهما منفصلا عن الثاني صراحة أو ضمنا. والتلازم الصريح في النظر هو التلازم بين: البعد الرمزي المنطقي والرياضي والبعد الفعلي التجريبي والتطبيقي والضمني هو عندما يبلغ النظر الطبيعي درجة من النسقية تجعله مثل الفيزياء النظرية شبه مستغن عن التجريبية والتطبيق لأن النسق يتحول إلى حساب رمزي من جنس الرياضيات الخالصة.
ونفس الشيء بالنسبة إلى العمل المنفصل عن النظر عند الممارسين لأي عمل في الأعيان. فهو لا يمكن أن ينفصل عن النظر الحاضر فيه صراحة أو ضمنا. فالأعمال التي تجري في الأعيان سواء في السياسة أو الاقتصاد أو في الحروب خاصة يعمل القائد ذو الخبرة في الأشياء وفي رموزها في آن صراحة أو ضمنا. وعمله الصريح في الرموز يكون بما يجريه فعليا في الورق من حسابات للاحتمالات والبدائل وقد يحصل ذلك في ذهنه دون تعين فعلي في الاوراق بشيء من المهارة الحاصلة بمقتضى التجربة وهي من مميزات القدرة على أخذ القرار بالتقدير السريع للمعطيات الجاهزة في ذهنه بحكم تراكم الخبرة وتناسق المعطيات. ويشبه ذلك ما يتميز به بعض الأذهان من قرة على الحساب الذهني الذي يكاد ينافس الأجهزة الحاسوبية في سرعة الوصول إلى النتيجة في العمليات المعقدة، وهذه الخاصية يحتاج إليها القائد الاستراتيجي وخاصة في الحروب حيث يكون لسرعة القرار الحسم بشرط الإحاطة الممكنة بالمعطيات والفرضيات والبدائل. وبذلك يكون جوهر الإشكال هو التمييز بين مفهومي العلم والعمل إذ ينفصلان وإذ يتصلان. فكلاهما يمكن النظر إليه منفصلا عن الثاني، وكلاهما لا يمكن فهم حقيقته الفعلية وشروط فاعليته من دون النظر إليه في جوهر كيانهما الواحد لأن انفصالهما في الاختصاص لا يعني نفي تلازمهما الشارط لفاعليتهما.
القرآن مبني على هذه النظرية: فهو يعتبر التطابق بين الفعلين أو عدم وجود المسافة بين العلم والعمل ممثلين للكمال والإطلاق في صفات الله الذاتية إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا. فلا يوجد فصل بين علم في الذهن يفعل في الرمز المنفصل عن مرموزه بل كن (رمز) توجد (الشيء مرموزها). وعند الإنسان العكس: يوجد انفصال بين العمل والعمل. والشيء سابق على الرمز أو ما في العين سابق على ما في الذهن بمعنى أن المدارك الحسية تقدم لنا الأشياء فنستمد الافكار التي في الأذهان. لكن لو كان الإنسان مقصورا على هذه لامتنع عليه أن يتصور المستوى الأول الذي ينسبه إلى الله. فيكون الإنسان بمجرد وجوده الواعي وسيطا بين العالم الذي يحيط به وبين الله الذي يحيط بالعالم. والله المحيط بالعالم هو المنشود وعالم الكمال والعالم المحيط بالإنسان هو عالم الاستكمال المشدود إلى عالم الكمال. وهذا قريب مما تصور عليه أفلاطون نسبة العالم الطبيعي إلى عالم المثل. وهذه الرؤية الأفلاطونية هي التي رفضها أرسطو ليعود إلى القول بالمطابقة بمعنى أن ما في الأذهان نسخة مما في الأعيان فيكون العالم الطبيعي هو الحقيقة وما في الأذهان نسخة منه. ومن ثم فقد أصبح المنشود ليس ما يتعالى على الموجود بكماله بل العكس الكمال في العالم الطبيعي وهو منشود علمنا. وبهذا المعنى فقد أفسد أرسطو التقاطب بأن عكسه: صارت صيرورة العالم الطبيعي منغلقة على نفسها وصيرورته دورية كحمار الناعورة الذي يدور في نفس المكان ليس له غاية متعالية عليه، بل إن الغاية التي اضطر إليها هي المحرك الذي لا يتحرك بل الميت لأن المادة هي المتحركة. وما فعله أرسطو للنموذج الافلاطوني في النظر بالاعتماد على الطبيعة وما بعدها عمله هيجل للنموذج الكنطي في العمل بالاعتماد على التاريخ وما بعده. فقلب الرجلان العلاقة بين الموجود والمنشود جاعلين الموجود غاية والمنشود من أوهام الإنسان الجاهل بالضرورة بدلا من أن يكون أساس تحرره منها. والنتيجة أن أرسطو رد ما فوق الطبيعة إليها وهيجل رد ما بعد التاريخ إليه. فلم يبق للفلسفة ما يجمعها بالدين لأنها رد ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة وما بعد التاريخ إلى التاريخ مثلا مرحلتين من رفع “الأمر” الواقع الطبيعي والتاريخي إلى أمر واجب في حين أن الحرية تجعلهما مجرد حاصل من ممكن. وفضل ثقافة القرآن أنه كان المخلص من التردي الأرسطي وسيكون المخلص من التردي الهيجلي وبنحو ما استعادة ما يشاركه الفهم الافلاطوني والكنطي للعلاقة بين العالمين الأسمى والأدنى ودور الإنسان في الوصل بينهما باعتباره خليفة من حيث هو مكلف له دارية بالعلاقة بين العالمين على الأقل عقدا.
وهنا نكتشف دلالة مفهوم الخلافة. فالإنسان المشدود إلى العالمين له وعيي عقدي وليس علميا بما قبل العالمين الطبيعي والتاريخي وعلميا وليس عقديا بما بعد العالمين الطبيعي والتاريخي. وذلك هو معنى كونه خليفة: يدرك ما دونهما ويؤمن بما فوقهما ووجوده سعي لفهم آيات الثاني في الاول دون إحاطة. وهذا الإدراك غير المحيط -لإيمانه بالغيب فيهما- هو عين ما رمزت إليه آية الاستخلاف بتعلميه الأسماء كلها أي القدرة على تسمية الموجود خلال التشوف إلى المنشود. فيكون الرمز هو تاليا عن المرموز ويصبح أداته للتعامل مع العالم الطبيعي والتاريخي بالنظام العكسي لنظام خلقه وأمره. • ففي عالم الكمال المنشود عندنا المثل والرياضيات متقدمين على العالم الطبيعي والتاريخي (رؤية القرآن لخلق العالم الطبيعي والتاريخي) • وفي عالم الاستكمال الموجود عندنا نفس الشيء ولكن في الترتيب العكسي دون الكمال الحاصل عقدا في الاول أي العالم الطبيعي والتاريخي والرياضيات والمثل. وإذن فعندما معادلة مخمسة قلبها العالم الطبيعي والتاريخي أي شروط قيام الإنسان من حيث كون كيانه هذا الجامع بين النظر والعمل قبل الفصل بينهما في فعلين ناظر ضميره العمل وعامل ضميره النظر وهو جزء منه. لكنه يضع فوقه مثل ورياضيات لخلقه وأمره ويصنع بعده رياضيات ومثل للعيش فيه. وهذا يعني أن كل فلاسفتنا ومتكلمينا القدامى ممن توهموا أن الوجود الطبيعي يرد إلى إدراكه اتباعا للرؤية الارسطية ومدرستها ومن يدعون احياءهم ووراثة تراثهم مع دعوى الحداثة ممن توهموا الوجود التاريخي هو إدراكه اتباعا للرؤية الهيجلية ومدرستها يقولون بالمطابقة أي السذاجة الفلسفية. لكن الديني والفلسفي هو الذي ينفي هذه المطابقة أو الرؤية الابستمولوجية الساذجة التي تعتبر العالمين الطبيعي والتاريخي يردان إلى إدراكنا وينفيان ما فيهما من غيب لا يمكن علمه مع اشتراط عقد لما يسمو عليهما من مثل ورياضيات وما يستعمل للتعامل معهما من رياضيات ومثل ما يبدعها الإنسان. وما كان الإنسان ان يكون قادرا على إبداع الرياضيات والمثل لو لم يكن يؤمن بوجود عالم أسمى من العالم ببعديه الطبيعي والتاريخي هو أصله وما يشرئب إليه الإنسان باعتباره المنشود الكامل الذي يستكمل الإنسان به وجوده ويعتقد أن كل موجود مثله له هذا النزوع إلى الاستكمال وهو معنى العبادة العميق. وهذا هو الديني والفلسفي اللذين يمثلان لحمة الرؤية القرآنية وسداها. والفرق بين الفلسفي والديني عند الفصل بينهما من جنس الفرق بين النظري والعملي عند الفصل بينهما. لكننا بينا أن الفصل بينهما لا يزيل التلازم الواصل بينهما من حيث هما فعلان عين جوهر الإنسان: وجوهره متعين في القرآن.