رؤية السنة السياسية، هل هي قابلة للوجود الفعلي؟ أو هي مجرد يتوبيا؟ – الفصل الرابع

**** رؤية السنة السياسية هل هي قابلة للوجود الفعلي؟ أو هي مجرد يتوبيا؟ الفصل الرابع

أعود الآن إلى كتاب فضائح الباطنية أو دحض التعليمية. فهذا المصنف من أكبر الابداعات الفكرية فلسفيا ودينيا وسياسيا وخاصة في ما يتعلق بسياسة التسامح الديني الذي لم أر له مثيلا في القرون لا قبل الغزالي ولا بعده، بل وليس له مثيل حتى في فكر الحداثيين بعد نكوص هيجل وماركس لنظرية المطابقة. العجيب في هذا الكتاب الذي هو في الظاهر من جنس الجدل الكلامي في المسائل الدينية بين السنة والباطنية، هو في أفضل ما كتب في اثبات ضرورة العقل ضد التعليمية والحاجة إلى الوساطة الروحية في العلم والوصاية المادية في العمل أو إلى الإمام المشرع والإمام الحاكم وهو معنى التعليمية. وقبل أن أبين مرافعة الغزالي على ضرورة العقل في الإسلام -السني طبعا- ودحض التعليمية في الرؤية الباطنية، لا بد من كلمة سريعة جدا في حديث الغدير تنهي اسطورة الوصية. فمن قرأ ابن خلدون يعلم أن اسرة الرسول لا تمثل عصبية قوية وأنها تدين للرسول بالمنزلة التي حصلت عليها بفضل الرسالة. بل إن قريش كلها لم تكن من العصبيات الكبرى بين القبائل العربية، ولذلك فابن خلدون يعتبر الفتنة الكبرى لا تقتصر على خلاف الصحابة حول المسالة السياسية، بل هو يعتبر كل المناورات التي دارت حول الخليفة الثالث علتها أن القبائل الكبرى لم تكن راضية عن حكم قريش لها. ولم يكن نقل مركز الخلافة وعاصمتها من المدينة إلى العراق أولا، ثم إلى سوريا ثانيا، ثم عودتها إلى العراق إلى أن صارت تركية في آخرة مراحلها، سببه البين هو أن مركز الثقل في العصبيات العربية لم يعد الرمزي الديني هو الغالب فيه، وخاصة والرسول نفسه فصل الرمز السياسي عن الرمز الديني العام. فاختيار المدينة بدلا من مكة كان لتجنب جمع مكة بين الرمز الديني الجديد والرمز الديني القديم مع إبقاء الدور الديني بالقبلة. والحصيلة أن أسرة الرسول كانت مهددة ككل الرموز التي أسكتت للحظة أساس المكانة عند العرب، أعني العصبية القبلية والتراتب بين العصبيات القبلية قبل الإسلام. وفي هذا الإطار ينبغي أن يفهم حديث الغدير. لو كان القصد بالموالاة وصية لآل البيت وليس وصية بهم، لحصل خلال طرح إشكالية الحكم من اليوم الأول الاحتجاج بالحديث، ولما عاكسه أحد من الصحابة، ولما كان علي يقبل بأن يصبح خليفة بالطريقة التي تطابق عدم الوصية بالحكم أعني بالبيعة اي الاختيار. فالوصية مغنية عن البيعة لأن هذه من علامات الاختيار وليس من علامات الحق الإلهي في الحكم. وهو ما يعني أن الذين حضروا حديث الغدير خلال عودة الرسول من حجة الوداع لا تعني الوصية لآل البيت ليكونوا وسطاء روحيا وأوصياء سياسيا كما تزعم الشيعة ابتدعت بعد الخليفة الرابع. نعم حصلت وصية بآل البيت وليس لآل البيت: طلب الرسول من الأمة الابقاء على منزلة آل بيته في قلوب المسلمين تساء معاملتهم أو يحط من منزلتهم بسبب كون الرسول لم يكن يجهل أن أخلاق الإسلام لم تتجذر بعد، وأن العصبية الجاهلية ستعود بين القبائل العربية، فأوصى بآل بيته خيرا ومنهم علي.

وهذا الاستطراد ضروري، لأن أهم ما في فضائح الباطنية في علاج المسألة السياسية هو الحوار الذي تخيله الغزالي بينه وبين ناطق باسم الباطنية: هل الحكم بالوصية أو بالاختيار. والباطني لم يحتج بحديث الغدير لأنه يعلم أنه لا حجية له بين العلماء لإدراكهم أنها وصية بآل البيت، لا وصية لهم. كانت حجة الباطني أن الاختيار مستحيل معتمدا على مصفوفة أنظمة الحكم اليونانية، وهي أنه لا يمكن أن يكون اختيار الكل، ولا يمكن أن نحدد كم البعض تحكميا، ومن باب أولى لا يمكن أن يكون للواحد (نظرية أرسطو في أصناف الأنظمة مضروبة في اثنين بمقتضى الفضيلة الرذيلة). فلم يبق إلا الوصية.

وقبل الكلام في جواب الغزالي وتعريف طبيعة النظام السياسي السني وأسلوبه في الحكم، فلأضف ملاحظة تثبت أن الرسول الاكرم كان يتوقع ما جعله يقوم بهذه الوصية: كان يتوقع أن قيم الإسلام لم تتجذر بعد وأنها معرضة للانتكاس لأنه تكلم على الملك العضوض. لكن توقعه تحقق في ما اعتبره إشارة كبرى. ومرة أخرى تأتي إنارة ابن خلدون للأحداث: فهو كان يعتبر اللحظة الراشدية شبه قوسين في تاريخ الإسلام فتحتا مع بداية تكون الدولة في المدينة ونهاية دور المدينة كعاصمة للخلافة، ويعتبر ذلك قد حدث خارج سنن التاريخ الطبيعي للإنسان بمقتضى المرحلة الرسولية التي عاشها الجيل الأول. وهو يعتبر انتصار العصبية الاموية أمرا طبيعيا لأنهم في قريش أقوى عصبية. وهذا ما يجعلني أفهم اشارتي الرسول العظيمتين: فلما فتح مكة قام بأمرين عجيبين هما مقوما الدولة في كل العصور، أعني السلطة الرمزية والسلطة المادية عين فيهما بيت أبي سفيان للأمن وابنه معاوية كاتبا للوحي. ورغم أن الغزالي لم يشر إلى هذين الحدثين، فهو سيتكلم على اساس كل دولة المضاعف: • الأساس الرمزي أو الشرعية • والأساس المادي أو الشوكة. كتابة القرآن أعطت لمعاوية منزلة رمزية، فصار من الصحابة المقربين، وتعيين “بيت” أبي سفيان أعطتهم منزلة مادية (الأمن). و”بيت” هنا لا دلالة سياسية.

ومعنى ذلك، الرسول بفطنته السياسية كان يعلم أن دولة الإسلام ستمر بأزمة طاحنة (خمسة حروب أهلية)، وأنها لن تستقر من دون عصبية قوية، وكان يتوقع أن هذه العصبية لكي تكون قرشية ينبغي أن تكون أقوى عصبية قرشية وهي عصبية بني أمية. وبعد دولتهم لم يزد توسع دولة الإسلام مترا حتى مجيء العثمانيين. وحتى مع العثمانيين فهي توسعت بقدر ما ضاقت. فما حصله العثمانيون في البلقان، ضيعه العرب والأمازيغ في الاندلس والأبيض المتوسط. وكما هو معلوم، فبعد سقوط الخلافة العثمانية، ضاع كل “الوطن العربي” لأنه تحول إلى محميات يسمونها الآن دولا، وهي أقل حتى من المحميات هي مستعمرات.

وهو ما يعني أن الانتقال إلى الملك العضوض كما بينت سابقا، كان في المنظور السني التي بقيت أمينة للمبادئ في الأقوال دون الأفعال، يبرر بالضرورة التي تبيح المحظور: بمعنى علماء السنة كانوا يعلمون أن ما يجري ليس شرعيا بالمعنى الإيجابي، بل بمعنى سلبي أي من جنس أكل الميتة للضرورة.

صحيح أنها بمفعول سلطان العادة صارت تبدو طبيعية، بل وصار لها علماء سلطان يريدون نقلها من شرعية أكل الميتة إلى شرعية إيجابية، لكن حتى في الأحكام السلطانية المتصالحة مع “الامر الواقع” كانت تعتبر إباحة الاضطرار. فكيف رد الغزالي على الباطني في فضائح الباطنية؟ وكيف دحض التعليمية واثبت أن العقل من شروط العقيدة الإسلامية السنية السوية بفضل اساسي فلسفة السياسة القرآنية؟: 1. حتى الرسول ليس وسيطا روحيا، بل ربه قال له “إنما أنت مذكر”. 2. وليس وصيا إذ قال له “لست عليهم بمسيطر”. وهو لا يعلم الغيب.

نعم القرآن يخبر بوجود الغيب ويأمر بالإيمان به. لكنه أولا نهى عن تأويل المتشابه، وأمر برؤية آيات الله في الآفاق والانفس لتبين حقيقة القرآن. والرؤية هنا ليست “السمع والبصر والعقل” كإدراكات عفوية، بل هي طلب لما يرينه الله في الآفاق والأنفس بالسميعة والبصيرة والعقيلة بفضل التذكر.

لم يبق الآن إلا أن نعرف النظام الذي يستمده الغزالي من النظر في آيات الله في الآفاق والانفس كما وصفه في جوابه على الباطني، وهو عين ما انتهى إليه ابن تيمية وخاصة ابن خلدون في تحديد طبيعة المسألة وعلة ورودها في علم الكلام الأشعري، ليس مطلقا للعلم في ذاته، بل دحضا للموقف الشيعي منها.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي