رؤية السنة السياسية، هل هي قابلة للوجود الفعلي؟ أو هي مجرد يتوبيا؟ – الفصل الخامس

**** رؤية السنة السياسية هل هي قابلة للوجود الفعلي؟ أو هي مجرد يتوبيا؟ الفصل الخامس

كيف وصف الغزالي نظام الاختيار بصورة تلغي نظام الوصية ولا تعتبر الحل اليوناني، الذي ظن الباطني أنه ممتنع عقلا لعدم ضمان مشاركة الكل وعدم قابلية تحديد البعض واستحالة حكم الواحد ما يوجب -كما يقول ابن سينا ويدحضه ابن خلدون-الحاجة إلى النبوة وما يواصلها؟

وكأن في كلام الغزالي اشارة واضحة للدولة الفاطمية ولداعي دعاتها، بوصف هذه الدولة نقيض دولة الخلافة برعاية السلاجقة، وبوصف فكرها الباطني مضاد لفكر السنة في النظرية السياسية تربية وحكما، قولا بالوساطة والوصاية عند الباطنية، ونفيا للقول بهما عند السنة التي يتكلم الغزالي باسمها.

وهنا تأتي العلاقة بنظرية المعرفة والعقل الذي يغني عن التعليمية والتي يدعيها الباطني، وعلى السني أن يدحضها. والعقل ليس محدودا بـ”شيء” يتجاوز العقل، يختص به الوسيط والوصي، بل هو في الرؤية السنية ممتنع حتى على الانبياء والرسل: علم الغيب الذي هو مبدأ إيماني وليس مبدأ علميا.

لو كان النبي قد ادعى علم الغيب لكان استدلال التعليمي ذا وجاهة، ولكان اعتراض الرازي على موقف الغزالي من التعليمية مقبولا. لكن الرسول لم يدع علم الغيب ومعرفة حدود العقل لا تحتاج حتى للنبي للتأكد منها، لأنه لا يوجد إلا المجانين يظنون أن الوجود يرد إلى إدراكهم. وحتى السفسطة لم تدعه. فالمعلوم أن السوفسطائي عندما يقول الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه، انتهى إلى ذلك بعد وضع الحكم الشكاكي التالي: الوجود (في ذاته) غير معلوم. وإذا كان معلوما فهو غير مقول، ومن ثم، فالمقول من المعلوم مقصور على ما يكون بمقياس الإنسان وجودا وعدما. لم يطلقوا العقل بل نفوا علم ما يتجاوزه. الموقف الذي يمكن أن ينسب إلى الغزالي ملتبس. فعندما شكك في العقل واعتبره أن تجاوزه للحواس – وهو ثابت- قد يجعله هو بدروه متجاوزا بما سماه “طور ما وراء العقل”. ولو سكت واعتبر هذا الطور هو الغيب المحجوب، لكان ذلك موافقا للرؤية الإسلامية لكنه لاحقا ظن ما ورائه هو مجال الكشف الصوفي. ولو كان هذا موقفه خلال كتابة فضائح الباطنية لما استطاع أن يرد على محاوره المتخيل. ذلك أن الكشف الصوفي فيه نفس ما يدعيه القائلون بالوساطة والوصاية في النظرية الباطنية والقول بالمطابقة في نظرية العلم الفلسفية فيها ما يدعيه كلاهما، لأن المطابقة تقتضي نفي الغيب ورد الوجود إلى الإدراك.

ويتضح ذلك خاصة عند الفارابي وبنحو ما عند اخوان الصفا لكنه قابل للتعميم عند كل الفلاسفة والمتكلمين الذين يزعمون بالعقلانيين إلى حدود العلاج الكنطي في الفكر الحديث، لأن الغزالي نكص عن حليه في التهافت وفي الفضائح ولأن حل ابن تيمية لم يشتهر وحل ابن خلدون مات ما موت فكره في حضارتنا. لذلك فالرؤية السياسية القرآنية التي حاول ثلاثتهم صوغها لم تتطور لتصبح قابلة لتأسيس نظري صريح، وهو ما سعيت إليه وبينت معالمه بصورة تجعله تحرير السياسي من دين العدل بعلاج مسألة التبادل ومسألة التواصل أو ما يجعل العملة والكلمة تصبحان سلطانا على البشر بدلا من أن تكونا أداة لهم فيهما. عرض الحل الذي قدمه الغزالي وأيده ابن تيمية ونظر له ابن خلدون لن أقدمه هنا لأني عرضته سابقا مكتوبا وحتى شفويا في محاضرات سابقة حول “هل للإسلام نظرية دولة” وتكفي الإحالة إلى المحاولات السابقة والفيديوات، وما يعنيني في خاتمة هذه المحاولة هو الوصل مع تأسيس الثورتين في التربية والحكم. فما فسد وأفسد وظيفة العملة والكلمة وحوّلهما إلى سلطان على الإنسان هو فساد التربية والحكم، أو بصورة أدوق تحولهما من أداة للتكوين والتموين وللحماية والرعاية إلى ما نراه اليوم. فما رأيت في العالم أمة مثلنا تحولت نخبتها في الرعاية وفي الحماية تتحول إلى استعمار داخلي للجماعة؟

ورغم أن الظاهرة عامة في كل أقطار العرب والامازيغ والأكراد، وحتى الأتراك قبل العهد الجديد، لكنها بلغت الذروة في الأنظمة العسكرية العربية ولحقت بها حاليا الأنظمة القبلية، بحيث صارت التربية والحكم ليس للرعاية والحماية، بل للتنكيل والإذلال والتعذيب والقتل، بل والاغتصاب للرجال والنساء. عادة اغتصاب النساء يكون “جزاء” للجيش الغازي حيث يسمح له بعد هزيمة الجيش المغزو بأن يفعل ما يريد لمدة معينة بنساء البلد المغزو وبأمواله وحتى برجاله. لم أسمع في التاريخ بأنه توجد “نخبة” حاكمة مهما كانت بربرية ووحشية جعلت جيشها وأمنها يستحل أعراض شعبها وكأنها جيش غاز إلا عندهم. وهذا ما يبشرنا به “الديموقراطيون” في تونس لأنهم كما بينت، هم مؤلفون من الفاشيات الخمسة التي كان يقودها ابن علي وكانت زبانيتها منهم بعد أن كانوا “مخبرين” في الجامعات ثم صاروا زبانية داخلية ابن علي وهو أمر معلوم للجميع. وحلفهم الصريح مع بشار وحفتر والسيسي بتمويل الثورة المضادة معلوم. لكني اقول لهم هيهات. لم يعد الشعب نائما. فهو يصبر عليكم، ولكن إذا تجاوزتم حدا معلوما فهو سيكتفي بمعاملتهم بما تنوون معاملته به. وحينها فما تحتاجون أنتم للعمالة من أجل تحقيقه لن يكون الشعب بحاجة إلا إلى تطبيق العدالة. فيمكن لشباب الثورة بجنسيه أن يحيدكم في يوم واحد للحساب العسير. لن ينجدكم لا حفتر ولا بشار ولا السيسي ولا خاصة الاميران اللذان عجزا دون قبيلة الحفاة العراة من الحوثيين، ولا أمل لكم في البقاء دون عقاب عادل بالقانون التونسي لأن من تتصورونهم في أوروبا مستعدين للتغطية عليكم لم يعد من مصلحتهم تعميم الفوضى في الضفة الجنوبية من المتوسط.

ولست بحاجة لتذكيركم بما حصل في لقاء فرانس 2 بعيد الانتخابات الأولى عندما دعيت لمناقشة سياسة الإسلاميين الذين نجحوا فيها، وحضرت عميلتان تدعيان أن الحداثة في خطر. فتبين للحاضرين وخاصة لوزيرين شهيرين من وزراء فرنسا أن الحداثة غيرت صفها وصارت مع الإسلاميين وليس مع “الحركيين”.

ولا تنسوا أن جيشنا وأمننا ليس مثل جيش الأنظمة العسكرية والقبلية العربية لأنه من الإرث البورقيبي الجيد في تحييد أجهزة القوة الشرعية للدولة عن السياسة والاقتصار على وظيفة الحماية الداخلية (الامن) والخارجية (الدفاع) والائتمار بالسلطة السياسية في هذين الوظيفتين دون سواهما.

ولأعد الآن إلى الوصل بالرؤية الإسلامية لوظيفة أدوات القوة الشرعية للسلطة الشرعية في نظرية الدولة الإسلامية كما ذكر بذلك ابن خلدون: الدولة الإسلامية ليس لها جيش يكون دولة في الدولة بل جيشها كل شعبها، لأن الجهاد فرض عين وما فيه من كفاية هو للتعليم والتدريب والقدر الأدنى العامل. وتذكير ابن خلدون بذلك صريح: وهو أن الحامية إذا صارت قوة مستقلة قد تستحوذ على الدولة بالانقلاب. لذلك فالشعب الذي يتحول إلى عالة هو الشعب الذي يجعل حمايته بيد حامية تتحول مباشرة بالانقلاب إلى آمرة للسلطة الشرعية بدلا من أن تكون مأمورة منها. وهذه حال العرب الآن. وإذا استبدت أداة الحماية بالسلطة الشرعية، فسدت الحماية وتبعتها الرعاية. ذلك أن الحامية إذا حكمت ستستبد بالأداة الثانية التي ترمز إلى القوة غير المباشرة. فالقوة المباشرة هي الجيش والأمن أو أجهزة القوة الشرعية في الدولة الشرعية والقوة غير المباشرة هي العملة والكلمة.

عندما تستبد الأجهزة أو القوة المباشرة بالسلطة (الأمن والجيش والمخابرات) تمد يدها للقوة غير المباشرة فتسيطر على الاقتصاد والثقافة وخاصة الإعلام. فتصبح مصدر كل فساد وإفساد مباشرين بعنف اجهزة الدولة التي صارت ملكا لهم وغير مباشرين بالاستحواذ على الاقتصاد واستتباع الثقافة. وهذه العاهات الأربع توقعتها الرؤية الإسلامية للدولة، فجعلتها كلها فروض عين ولا شيء منها يعتبر فرض كفاية إلا القدر الضروري من جنس الرقابة المنبهة للخطر، والتي تمسك الامر حتى ينزل الشعب كله للدفاع عن الوطن وعن الامن وعن الثروة وعن التراث ككل جماعة من الأحرار.

تلك هي طبيعة الحكم وأسلوبه الذي عرفت منه الأمة لحظة قصيرة في بداية تاريخها (لحظة ا لرسول والخلفاء الراشدين الثلاثة الاول)، وتلك هي علة بقاء هذا اللحظة في ضمائر كل المسلمين لحظة نموذجية حتى وإن كانت لم ترق إلى الصوغ النظري الذي حاولت تأسيسه.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي