**** رؤية السنة السياسية هل هي قابلة للوجود الفعلي؟ أو هي مجرد يتوبيا؟ الفصل الثاني
بأوجز عبارة:
كيف يمكن أن نتصور نظاما سياسيا، أي نظام تربية وحكم يحقق الرعاية والحماية للفرد والجماعة من دون استناد إلى الوساطة الروحية في التربية والوصاية المادية في الحكم (الثيوقراطيا) ومن دون الوقوع في بديلين منهما مجانسين لما نراه منهما في الانثروبوقراطيا؟
هل يمكن تصور نظام سياسي له سياسة تربية دون سلطة ظاهرة (في الثيوقراطيا) أو خفية (في الانثروبوقراطيا) وسياسة حكم دون سلطة ما ظاهرة (في الثيوقراطيا) أو خفية (في الانثروبوقراطيا) ويكون حقا قادرا على تحقيق شروط الرعاية تكوينا وتموينا وشروط الحماية داخليا وخارجيا؟
تلك هي المعضلة التي يمكن اعتبارها ما يترتب على رؤية القرآن والسنة للسياسة، والتي لم تتجاوز الرؤية النظرية التي ندعي أن العصر النبوي والعصر الراشدي حققا ما يقرب منها في الممارسة الفعلية. فهل هذا يعني أن “الديموقراطية المباشرة” في المدينة تكفي للدلالة على المقصود بالحل المطلوب؟
أو بصورة أوضح:
هل الحل الذي لم يتجاوز الديموقراطية المباشرة في مجتمع صغير -مجتمع المدينة-كان كذلك بسبب العجز عن تعميمه، ويمكن أن يصبح قابلا للتعميم بفضل تقدم وسائل الاتصال وإمكانية مشاركة الجميع في مجتمع كبير بمجرد جعل السلطة السياسية في التربية والحكم مباشرة في تجمعاته الصغرى؟
هل معنى ذلك أن رؤية الإسلام للسياسة تربية وحكما ممكنة في مجتمع تتوزع فيه السلطة السياسية بهذين المعنيين في تجمعات دنيا جميعا تمارس الديموقراطية المباشرة ولا تكون الدولة ككل إلا نظاما “فدراليا” لهذه التجمعات الصغرى فيه بوصفه تجمعا كبيرا يرعاها ويحميها؟
رأينا ان الجامع بين الرؤيتين الثيوقراطية والانثروبوقراطية هو الجامع بين المنطقين الارسطي والهيجلي، أعني القول بنظرية المعرفة المطابقة، وكلتاهما تعود إلى رؤية ترد الوجود إلى الإدراك: • إما ردا مباشرا كما في حالة الفلسفة القديمة والوسيطة. • أو بصورة مباشرة كما في جدل هيجل وماركس. فالنسبة بين هيجل وماركس من هذا المنظور، مماثلة للنسبة بين أفلاطون وأرسطو. فالفلاسفة الأربعة يقولون بنظرية المعرفة المطابقة، بمعنى أنه لا فرق بين الوجود في ذاته والوجود في إدراك الإنسان له. وفي الحقيقة فحتى المنطق القديم عند أفلاطون وأرسطو كان جدليا: فالحد الاوسط هو اساس التوليف. فلا يمكن تصور منطق ارسطو الذي يبدو ثنائي القيمة لأنه يرفع الثالث، مختلفا كثيرا عن منطق هيجل الذي يجعل الثالث هو التوليف بين النقيضين بنسخ ما يجعلهما متناقضين، فيكون من ثم محددا لثالث موضوع وليس مرفوعا يجعل الوصل بين الحدين الأكبر والاصغر ممكنا.
كل ما في الامر هو أن التناقض عند أرسطو يتعلق بالشمول ولا يتعلق بالهوية، في حين أن هيجل نقله إلى الهوية والعلة بينة: ذلك أن القضية التأملية الهيجلية لم تبق مثل القضية التأملية الأرسطية مؤلفة من جوهر وعرض ذاتي بل إن الاعراض الذاتية هي تجليات الجوهر وهي هو متجليا. فيكون الجوهر في تجليه حتما ذا صادقية مطابقة لمفهوميته: وحينئذ نفهم أن تناقض الماصدق الارسطي الذي يكون الحد الأوسط بريئا منه، هو عينه التناقض بين الموضوع ونقيضه، والذي ينسخ في التوليف الهيجلي “الآوفهيبونج”.فيتحد المنطقان في وهم المطابقة مع الموجود ويزول مفهوم الشيء في ذاته.
وإذا قلنا بالمطابقة بين الموجود والإدراك (وهو أساس انفصال الفلسفة عند بارمينيدس عن الميثولوجيا) لم يبق للبعد المتجاوز للعقل وجود، إما بجعله مفارقا تماما كما في الفلسفة القديمة والوسيطة، أو محايثا بإطلاق كما في فلسفة هيجل، وبنحو ما في فلسفة ماركس (حتى تبقى الحرية غاية الإنسانية). ومن دون هذه العلاقة التي كانت خفية، والتي أمكن الآن بيانها -العلاقة بين الحد الأوسط الضروري للقياس الأرسطي والسنتاز الضرورية للمنطق الهيجلي-أصبح بالوسع اكتشاف علة القول بالمطابقة التي قالت بها الفلسفة القديمة والوسيطة، وعادت إليها فلسفة هيجل وماركس والغي الحل الكنطي.
وكنا بينا أن الحل الكنطي أساسه استحالة تأسيس الضرورة في النظر باستثناء ما كان يتصوره علم الكلام المزعوم عقلانيا قابلا للإثبات العقلي (وجود الله وخلود النفس وحريتها)، ما يعني أن استثناء الإنسان من قانون الطبيعة لا يمكن أن يؤسس فلسفيا ويستعمل خلقيا من دون التخلص من المطابقة.