رؤية السنة السياسية، هل هي قابلة للوجود الفعلي؟ أو هي مجرد يتوبيا؟ – الفصل الثالث

**** رؤية السنة السياسية هل هي قابلة للوجود الفعلي؟ أو هي مجرد يتوبيا؟ الفصل الثالث

يقتضي الانتقال من نظرية المعرفة التي تفصل بين الموجود في ذاته، والموجود في علمنا به، إلى ما ينبغي أن يبنى عليها في السياسة من حيث هي نظام تربية ونظام حكم، غايته الرعاية تكوينا، وتموينا ماديين وروحيين الحماية داخليا، وخارجيا اكتشاف البنية العميقة للثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا. وهي الحلقة التي أنسبها إلى نفسي في حلقات التحرر مما بني على المنطقين الارسطي والهيجلي وعلى نقديهما في المدرسة الفلسفية النقدية عندنا وفي الغرب. فالبنية العميقة بين الثيوقراطيا (السياسة باسم الله تربية وحكما) والانثروبوقراطيا (السياسة باسم الإنسان تربية وحكما) واحدة: الأبيسيوقراطيا. والأدهى في المعضلة ليس حتمية بعدي العجل أي المعدن والخوار، لأنه لا يمكن تصور سياسة من دونهما بما في ذلك سياسة الإسلام. المشكل كيف يكون المعدن والخوار مسودين من الإنسان أو سائدين عليه. فالمعدن عندما يسود على الإنسان يجعل التبادل ربويا ماديا، والخوار يجعل التواصل ربويا روحيا. ثورة الإسلام تمثلت في اكتشافين: • الأول بيان علل تحول العملة من أداة تبادل إلى أداة سلطان على المتبادلين وذلك هو مفهوم الربا في الاقتصاد. • الثاني بيان علل تحول الكلمة من أداة تواصل إلى أداة سلطان على المتواصلين. وهذا هو المشترك العميق بين الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا: دين العجل. وبقي من آثار هاتين الثورتين بعض العلامات وبعضها كبير الاهمية: 1. فابن خلدون أكد على ضرورة استقلال ما نسميه اليوم بالبنك المركزي عن السلطة التنفيذية لأنه في تصنيف وظائف الدولة ذكر أن صك العلمة ومراقبتها ينبغي أن يكون تابعا للخليفة (سلطة دينية رمزية) وليس للسلطان (سلطة تنفيذية). ويتبع هذه القضية مشكل المكاييل والمقاييس والموازين التي تتبع وظيفة الحسبة وهي بين سلطة الخليفة وسلطة المجتمع الأهلي لأنه في آن دينية وخلقية. وكلى الأمرين يتعلقان بإشكالية التبادل العادل مع تحريم الربا وذلك هو معنى المفهوم الذي يتعلق بالسيادة على معدن العجل بدل الخضوع له. والأمر الثاني اعسر: 2. السلطان على الكلمة لئلا تتحول إلى خوار العجل فتصبح مسيطرة، وهي من أهم أخلاق التواصل بمحاربة الشائعات والقذف والاخبار الزائفة التي وظيفتها مغالطة الرأي العام. ويعتبر الجرم فيها الذي اصطلحت على تسميته بالربا الروحي أكبر مقتا عند الله القول بعكس الفعل. وهذا الجرم هو غاية النفاق وأهم أدوات بث البغضاء والعداوة بين الناس ومنه النميمة والتشويه بالشائعات والتلصص والتجسس على الناس من أجل سيطرة الكلمة بدلا من السيطرة عليها. والسيطرة عليها تجعلها أداة تواصل، والعكس يجعلها سلطان على التواصل بين البشر. وهي من جنس العملة في التبادل. وهذا يعني أن المشكل ليس في دور المال ورمزه العملة أداة تبادل، لأن المال عامة هو المملوكات لكن ترجمته برمزه العملة تجعله أقوى أداة تبادل بين الناس، وهو من ثم ميزان القيم بمعناها الاستعمالي والتبادلي وخاصة ميزان قيم الاعمال سواء كانت فكرية أو يدوية لأن الأعمال هي أصل كل مال. والملكية هي رأسمال قابل للترجمة إلى رمز القدرة التبادلية، أعني إلى العملة التي أخرجت البشرية من المقايضة إلى التبادل الحر من الاضطرار إلى نقل البضاعة أو الخدمة وانتظار ما يطلبها مقابل بضاعة أو خدمة، ما يعطل عملية التبادل فيحول دون مراكمة المال ورأسمال والملكية عامة.

وكانت العملة هي بدورها “بضاعة” ذات قيمة بخلاف العملة في عصرنا حيث تحولت بضاعة رامزة إلى ضمانة قيمة من الدولة وليست رامزة بذاتها إلى القيمة مثل العملة الذهبية سابقا. ولذلك فلها صلة بوزنها وعدم الغش في صدها. واليوم يمكن للعملة أن تفقد قيمتها من فكرة استقلال البنك المركزي. وقد بينت في الشرح السريع لسورة هود كيف أن العلاقة المتناظرة بين نوح وموسى عبرت عن الحريتين برمز تحرير الإنسانية من سلطان الطبيعة (أمر الله نوح يجعل مصدر الرزق من صنع الإنسان) وبرمز تحريرها من سلطان التاريخ (أمر الله موسى بجعل شعب يتحرر من سلطن فرعون): وتلكما هما العبوديتان.

ونفس هذا التناظر نجده بين هود وشعيب: • فالأول يتكلم على سلطان أرباب المال في الجماعة وطغيانهم • والثاني يتكلم على سلطان التبادل الاقتصادي غير العادل فيكون التحريران: • أولهما من عبودية علاقة التبادل بين الإنسان والطبيعة • والثاني من عبودية علاقة التبادل بين الإنسان والإنسان. والتناظر الثالث هو بين صالح ممثلا لرمز مصدر الحياة عامة أو الماء، ولوط ممثلا لرمز الحياة الإنسانية خاصة (المثلية الجنسية) وهما الداء معا أقصى ما يمكن أن يفسد الحياة وقد ينهيها نهائيا. فتكون الأدواء ستة متناظرة اثنين اثنين في نفس السورة التي قال الرسول إنها “شيبته” وأخواتها.

ولست بحاجة للكلام على أهمية الميزان في القرآن. فهو رمز العدل في التبادل ولا ننسى “المطففين” كيلا واكتيالا. فيكون السياسي في حد ذاته أو الفلسفة العملية لا معنى له من دون هذين البعدين اللذين إذا فسدا مثلا دين العجل أو البنية العميقة للثيوقراطيا وللأنثروبوقراطيا أعني الأبيسيوقراطيا. والعلاج القرآني للخروج من دين العجل ليس بالاستغناء عما يمثل هو فساده، أعني فساد العملة وفساد الكلمة: ففساد العملة يصبح ذهبا مسروقا (سرقه بنو اسرائيل من المصريين) وخوارا منافقا (الايديولوجيا)، لأن الأول يصبح سلطانا على المتبادلين، والثاني على المتواصلين بدلا من كونهما أداتين لهما. وإذن، فالسياسة “طب” لهذين الداءين: كيف يكون التبادل عادلا؟ أو كيف تصبح العملة التي هي أداته مجرد أداة وليست ذات سلطان على المتبادلين؟ وكيف يكون التواصل صادقا؟ أو كيف تصبح الكلمة التي هي أداته مجرد أداة وليست ذات سلطان المتواصلين؟ ومن دون ذلك تصبح التربية والحكم فاسدين ومفسدين. وطبيعي جدا، بل وبين الدلالة أن يكون بين الثالوث الاول (نوح وهود وصالح) والثالوث الثاني (موسى وشعيب ولوط) قلب المعادلة الاول والاخير. • فأما الأول فهو إبراهيم الذي بشر بمولود بعد سن يأس زوجته • وأما الثاني فهو محمد وهو المبشر به لأنه هو المخاطب بالسورة وهو الذي سيعالج هذه الأمراض.

فلا تكون عودة محمد إلى ابراهيم مجانية، بل هي جوهر المعادلة كلها: لا يمكن للإنسان أن يتحرر من سلطان الطبيعة على الإنسان ومن سلطان الإنسان على الإنسان (نوح وموسى) ومن سلطان أرباب المال وسلطان نظام التبادل (هود وشعيب) ومن سلطان الماء والجنس (صالح ولوط) من دون عبادة الله الواحد الأوحد. لكن عبادة الله الواحد الأوحد كانت مجرد دعوة نوحية مقصورة على قبيلة ولم تكن دينا كونيا، هو بداية كل الديني عامة وغايته وهو الدين عند الله، لذلك كان لابد من إبراهيمي ثان، وذلك هو الولد الذي بشر به إبراهيم وزوجته وليس اسحق ولا إسماعيل، لأن هذين ليس لهما دور موجب في الدين الكوني.

فلا يمكن لمن يستجيب للرب أن ينافق فلا يكون صادقا إذا علم أن أكثر شيئا عند الله مقتا من يقول ما لا يفعل ولا يمكن لمن يعلم أن المال رزق من الله الا ينفقه في وجهه فيجعل منه سلطانا على الغير وهو الربا. وأول إنفاق للرزق قرآنا كان العفو أو التخلي عن الربا. والغفلة تحول دون “ذوق” القرآن.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي