**** رؤية السنة السياسية هل هي قابلة للوجود الفعلي؟ أو هي مجرد يتوبيا؟ الفصل الأول
من أهم مؤلفات الغزالي التي لا يبليها الزمان كتابان: • تهافت الفلاسفة. • وفضائح الباطنية. ولا يوجد في تراثنا “الفلسفي-الديني” ما يضاهيهما مطابقة لوضعنا الفكري والروحي الحالي. فالحرب على الحضارة الإسلامية في أصلها العميق أي -السنة-لم يزل شديد الارتباط بهذين الموقفين في النظر والعمل. وإذا الكتاب الثاني -فضائح الباطنية-صريح في كونه تأليف قصدي بتكليف رسمي من الخلافة السنية في عصر السلاجقة للرد على فكر الباطنية التعليمية التي توظف الفلسفة والدين في الاستراتيجية السياسية لدولة الباطنية -الفاطمية في مصر-فإن الكتاب الاول يبدو أعم لتعلقه بمقلدي الفكر الفلسفي.
ورغم أن الكتابين يبدوان ذوي منطلقين متقابلين: 1. أحدهما ينتسب إلى الفلسفة النظرية هدفه الرئيس التشكيك في الطابع العلمي للقول الميتافيزيقي -التهافت 2. والثاني ينتسب إلى الفلسفة العملية هدفه الرئيس التشكيك في الطابع الديني للقول الباطني -الفضائح- فإن الكتابين يتخادمان بصورة متناظرة. فالتهافت يؤسس لدحض البداية بالتشكيك في القول الميتافيزيقي الفلسفي التحليلي عامة، والثاني يؤسس لدحض الغاية بالتشكيك في القول التأويلي عامة. وأصل إعادة النظر في فلسفة النظر وفي العمل التي كانت سائدة في موقفه من التوظيف الإيديولوجي للفلسفة والدين رؤية سياسية ترفض النظام الثيوقراطي. فيكون مشروع الكتابين واحدا: محاولة التأسيس الفلسفي لرؤية سياسية ترفض النظام الثيوقراطي الذي يوظف الفلسفة النظرية لتأسيس الفلسفة العملية على نظرية في المعرفة تقول بالمطابقة والإطلاق الميتافيزيقي الذي يؤسس لنظرية ترد الوجود إلى الإدراك، فتجعل الإنسان مقياس كل شيء: السفسطة. ولم يتضح هذا المعنى إلا لاحقا عندما بيّن ابن تيمية أن توهم المنطق الأرسطي قانونا يجعل العلم مطابقا للوجود هو في الحقيقة قول بالإنسان مقياس كل شيء ومن ثم فهو قد فسر “من تمنطق فقد تزندق” في النظر بالسفسطة وفي العمل بالقرمطة. فيصبح العلم ليس طلبا للحقيقة بل خداع لتأسيس الثيوقراطيا.
وطبعا لم أبدأ البحث بهذه الطريقة لأن غرضي الكلام في الماضي أي في ما حكم تاريخ الجدل الفكري بين الباطنية والسنة وعلاقته بالتوظيف السياسي، لأن الماضي رغم عودته حاليا بين الشيعة والسنة ليس هو ما أريد الكلام فيه رغم أهميته وعلاقته الثيوقراطيا والفتنة الكبرى. ما يعنيني هو أن نفس اللعبة تكررت ولكنها الان تدور حول تأسيس الانثروبوقرطيا في ما سميته الانثروبوقراطيا أو الحكم باسم الإنسان بديلا من الحكم باسم الله في الثيوقراطيا. فالعلمانيون هم باطنية الانثروبوقرطيا ومؤسسو الفتنة الصغرى في لحظتنا الراهنة مدعين قولا فلسفيا نكص إلى المطابقة. والنكوص إلى نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة ليس مستندا إلى المنطق الارسطي، بل استعاض عنه بالمنطق الهيجلي وخاصة صورته الماركسية. فلا يمكن تصور السعي لإلغاء الله والاستعاضة عنه فالإنسان في نفس الدور التأسيسي للنظر والعمل من دون القطع مع محاولة كنط تجاوز نظرية المطابقة. ولست بحاجة إلى طويل تعليل: فيكفي قراءة اليسار الهيجلي ومسار الانتقال إلى الفهم الماركسي للجدل الذي انتقل من قضية ميتافزيقية منطقية إلى قضية تزعم علمية منطقية في فهم التاريخ بالمادية الجدلية. فالانتقال من الله إلى الإنسان في دور الفرق بين الموجود والمنشود هو عين نظرية فيورباخ. وكل ما يسمون أنفسهم حداثيين من العرب وخاصة أدعياء المشروعات الإصلاحية يراوحون بين الماركسية الصرفة أو اليسار الهيجلي قبل استكمال القطيعة الماركسية مع الهيجلية. وبذلك تفهم أنهم في الغالب يعترفون بأن لهم صلة بمن يعتبرونهم “عقلانيين” من الفكر الفلسفي والكلامي وثوريين من القرامطة. ومعضلة المعضلات في الفكر السني هي أنه لا يقبل بالرؤية الثيوقراطية ولا بالرؤية الانثروبوقراطية. وهي رؤية عسيرة الفهم: ولذلك فهي في آن تبدو وكأنه في موقف ضعف أمام أصحاب الفتنة الكبرى القائلين بالثيوقراطية وأمام أصحاب الفتنة الصغرى القائلين بالعلمانية وما يبدو من متانة في أسسهما. فما يثبت هذا الظاهر من المتانة في الموقف الثيوقراطي أو فلسفيا ما سماه الغزالي بالتعليمية أو الباطنية هو موقف الرازي من رايه في التعليمية. فهو أوهم أن تأسيس النبوة يصبح مستحيلا ذا نفينا الحاجة إلى التعليمية أي إلى وساطة الإمام في النظر ووصايته في العمل بالمعنى الشيعي للكلمة. وما يثبت هذا الظاهر من المتانة للعلمانية بالمقابل مع الموقف السني في السياسي بعد رفضه الثيوقراطية هو وهم انعدام حل ثالث يختلف عن الثيوقراطية أو الحكم بالحق الإلهي وعن الانثروبوقراطيا أو الحكم بالحق الإنساني المردود إلى الحق الطبيعي أو إرادة الأقوى في الواقع الفعلي لا المبدئي. ذلك أن المنطق الجدلي لتفسير التاريخ سواء كان صراع الأرواح -أرواح الشعوب-أو صراع الطبقيات -طبقات القوة الاقتصادية المسيطرة -يعود إلى ما يجانس التاريخ الطبيعي الذي يجعل الحصيلة أو التوليفية بين النقيضين هي حصلة صراع القوتين المتصارعتين روحيا (هيجل) أو ماديا (ماركس).
وسواء جعلنا التاريخ حكما (بالمعنى الهيجلي أو الماركسي) أو جعلنا الحكم ما بعده (الذي يعلمه الوسيط والحاكم بالحق الإلهي) فالحكم في الحالتين قوة مجهولة الطبيعة وليس للإنسان من حيث هو إنسان عليها سلطان.
ومن يضمن أن هذه الحصيلة ليست مدبرة بليل في ما يجانس سلطة الوساطة وسلطة الوصاية في النظام الثيوقراطي حتى وإن سمى نظاما ديموقراطيا؟ الا يعود الأمر في الحالتين إلى ما يشبه مجلس الليل الافلاطوني أعني جماعة ذات سلطان خفي وراء الستار تعد لمسرحية نسميها “عقلانية” الحكم والسلطة؟ ولتيسير فهم هذه الإشكالية يكفي نظرية حرية السوق في الاقتصاد الليبرالي. هل حقا السوق حرة؟ إذا ذلك كذلك فما حاجة مصاحبة الاساطيل الحربية للمفاوضات التجارية بين القوى في العالم؟ ما العلة في أن الأقوى عسكريا يتحكم في الأسواق المالية والبضائعية والخدماتية وحتى حرية التنقل؟ وكيف نفهم الاحتكار الاقتصادي وفرض عملة التبادلات بين الشعوب وتحديد شروط التبادل بحيث يكون منتج الأقوى أقوى وهو الذي بالقياس إليه تحدد قيم الأشياء التي ينتجها الأضعف مثال ذلك علاقة المواد الأولية بالمنتجات المحولة والتي لا معنى لها من دونها ومع ذلك فهذا تزيد قيمتها وتلك تنقص؟ مشكل الغائية الخفية في القرارات التي يدعى أنها معبرة عن إرادة الجماعة -مثل الانتخابات-تبدو نظريا معقولة باعتبار نظرية ناقوس جوس وهو أن الخطأ المطلق والصواب المطلق كلاهما من الشذوذ والغالبية تكون أقرب إلى الصواب في الاختيار. لكن ذلك قد يصلح في الطبيعي وليس في التاريخي. فذلك صحيح مثلا في الطول والقصر ومعدل الطول عند الإنسان أو في حجم الأحذية أو الذكاء الإنساني أعني في كل ما لا دخل للإرادة الحرة فيه. أما في الظاهرات التي فيها إرادة حرة واستعمال المغريات والتحيل للخداع كما في الانتخابات، فإن الأغلبيات يحددها المال والإعلام المخادع وليس قانون جوس. ولو كان ناقوس جوس صحيحا لاستغنت التجارة عن الإشهار ولاستغنت السياسة عن البروباجندا ولاستغنت المافيات عن الإرهاب والخداع ولاستغنت الدكتاتوريات عن الطبالين من أراذل المثقفين ولاستغنى الطراطير عمن يحميهم من أصحاب القوة الاستعمارية وأذرعهم لأن الأمور كانت ستكون عادلة بطبعها.