لما كتبت مقالات وحاضرت في فلسفة السياسة بمركز الدوحة (استاذ زائر) حول إشكالية الدولة في الإسلام ودحضت خرافتي عدم وجود نظرية الدولة في ماضي الحضارة الإسلامية (عبد الرازق) واستحالة وجودها في المستقبل (حلاق) ودحضتهما من منظورين مفهومي وتاريخي أو من منظورين نظري فلسفي وعملي تطبيقي كان كلامي مقصورا على ما لا يرى بالعين المجردة من دون فلسفة السياسة عامة وتاريخ الدولة في الإسلام خاصة لما فيهما من مستوى نظري لطيف ودقيق.
لكن شاء ربي فجاءت كورونا وبينت أن الاستدلال المفهومي صار فعلا واقعيا ولم يعد مدار تصور نظري. فالتجريد الذي استعملته في محاولاتي صار أمرا واقعيا يراه حتى الإنسان العامي الذي ليس له تكوين في فلسفة السياسية. فقد تحقق دور الدولة الذي لا يخلو منه عمران بشكله المقصور على البنية المجردة والذي هو ملازم لوجود الجماعات بوصفه “الجهاز الطبيعي” لشروط وجودها والذي يمثل ما يشبه منظومة مؤسسات أو ذوات اعتبارية تتعين في القيمين عليها بوصفهم ذوات طبيعية لكونها هي شرط بقاء الجماعات.
وإذن فهذا الجهاز المجرد يصبح عينيا بالقوامة التي تمثلها سلطات الدولة والتي لها وظائف قوامة الحماية أولا ووظائف قوامة الرعاية ثانيا. وهما الوظيفتان اللتان توجدان حتى في كيان الإنسان الفرد وجودها في كيان الجماعة بداية من المؤسسات الوسطى بين الدولة والفرد مثل الاسرة والمدرسة والمعبد والمؤسسة الاقتصادية او الثقافية أي أي كيان جمعي وغاية في مؤسسات شاملة هي مؤسسات الدولة من حيث هي بنية مجردة خالية من القيمين عليها ثم تملأ بهم لتصبح فاعلة في شكل فرض كفاية نيابة عن الجماعة.
فالفرد والأسرة والمدرسة والمعبد والمؤسسة الاقتصادية أو الثقافية لا بد فيها من قوامة مسؤولة على وظيفتيها أي على الرعاية والحماية تماما مثل الجماعة ككل والدولة بفروض الكفاية تؤدي دور القوامة الراعية والحامية. وتبرز هذه البنية المجردة وكيفية ملئها بالقيمين عليها لتتعين في الظرفيات الحدية مثل الحروب سواء كانت بين البشر أو بينهم وبين الجوائح الطبيعية مثل كورونا.
وفي الحقيقة ومرة أخرى فصاحب الفكرة هو ابن خلدون. ذلك انه هو الذي يقول في رده على أصحاب نظرية المدينة الفاضلة إنه لو كانت المدينة الفاضلة ممكنة لاستغنينا عن الدولة فميز بين السياسة اليتوبية والسياسة الفعلية. وعنده إذن يمتنع أن توجد جماعة من دون نظام يؤدي وظيفة تعيين القيمين على البنية المجردة التي هي حقيقة وظيفتي الرعاية والحماية في الجماعات وحتى في الأفراد فلهم هذان الوظيفتان.
ولعل إشارة الرسول إلى اعتبار الجماعة كالفرد كمالها يكون عندما تصبح مثل الفرد إذ يتألم جسده كله بتألم أحد أعضائه فتتألم كلها كلما تألم أحد أعضائها.
والفرق الوحيد هو أن الرعاية والحماية -أو بلغة القرآن أطعمهم من جوح وآمنهم من خوف- لدى الفرد فرض عين. لكنها مشروطة بفرض الكفاية إذ لا يوجد فرد قادر على سد كل حاجاته بنفسه دون استعانة بالغير. لكن الجماعة بدءا من الأسرة تكون الرعاية والحماية فيها حتما فرض كفاية بتقاسم العمل. فغالبا ما تكون مناصفة بين الرجل والمرأة وخاصة في البوادي.
فللرجل الحماية خاصة وللمرأة الرعاية خاصة.
لكن في المؤسسات الوسطى الأكثر تعقيدا من الأسرة تكون قوامة الكفاية أوضح لأنها هي الغالبة مهما تبدت الجماعة.
وهي في الجماعة ككل اشد وضوحا بل أكثر من ذلك فهي كونية في تقاسم العمل ليس بين الأحياء فحسب بل وكذلك بينهم وبين الاموات لأن ما يرثه الاحياء من خبرة الموتى في كل المجالات مشاركة في سد الحاجات. فلا بد للوظيفتين من القيمين عليها فرض كفاية حتما بمعنى أن الدفاع والامن مثلا هما بالجوهر عمل الجماعة كلها. لكن من يتكفل بهما قلة فرض كفاية ونيابة عن الجماعة.
ومثل ذلك أي قطاع من قطاعات الاقتصاد والثقافة.
وتلك هي علة قسمة العمل في المجتمعات الإنسانية.
ومن هنا تبين تمييزي بين أمرين في الدولة التي يتكلم عليها عبد الرازق وحلاق كلاما لم يتجاوز الفكر العامي رغم التعالم في الدين والفلسفة لأنه فكر يدل على عدم التمييز بين هذه البنية المجردة التي لا تخلو منها جماعة والتي هي فوق التاريخ ولا معنى حينئذ من الكلام على عدم وجودها ماضيا وعدم إمكانها مستقبلا وخاصة على عدم اتصافها بالأخلاق كما يرى حلاق: فهي عين الأخلاق وشرط تحققها الفعلي بمقومي فعل السياسة التي لا بد لها من دولة هي ذات معنوية متعينة في ذوات طبيعية قيمة عليها وممثلة لها إذ تصبح عادات بفضل التربية وقوانين بفضل الحكم .
كيان الفرد وكيان الأسرة وكيان المدرسة وكيان المؤسسة الاقتصادية وكيان المؤسسة الثقافية وخاصة كيان الدولة المجرد بصرف النظر عن القيمين عليها هذه الكيانات كلها هي جوهر الأخلاق المتحققة فعليا في الأعيان وليست مجرد أفكار في الاذهان وهي ما يميز الإنسان عن الحيوان بمعنى أن الجماعات البشرية من حيث هي بشرية لا توجد من دونها لضبط عيشها المشترك.
فنظام كيان الإنسان مؤلف من الوظيفتين الحماية والرعاية شرطي بقاء.
ولو كنت أريد أن أبرز دورا لي لست صاحبه لما نسبت الفضل لصاحبه. فهذه البنية المجردة الكونية والثابتة والتي توجد في أي جماعة مهما كانت بدائية هي فكرة ابن خلدون وليست فكرتي وبها يعلل وجود الجماعة ووجود البنية المجردة للدولة حتى وإن لم يميزها عن نظام ملء خاناتها المجردة بالقيمين عليها أعني نظام الحكم. ولذلك فكل محاولات الكلام على نشأة الدولة في العصر الحديث والأرخنه المبالغ فيها علتها الجهل بهذه الحقيقة وبالفرق بين البنية المجردة الملازم لكيان الإنسان وهي جزء من تاريخ الإنسان الطبيعي وانظمة الحكم المتطورة التي هي جزء من تاريخه الحضاري.
لا يوجد الفرد الإنساني واي جماعة مهما قل عددها يمكن أن يكون أي منهما من دون نظام يحقق وظيفتي الحماية والرعاية جزءا من تاريخ كيانهم الطبيعي وهو شبه ثابت بالقياس إلى التاريخ الحضاري المتعلق بنظام تعيين القيمين عليها وهو نظام الحكم وليس نظام الدولة. وابن خلدون يعلل ذلك بعلتين:
- الأولى هي أن سد الحاجات شرطه تقاسم العمل في الجماعة وله نظام هو نظام الرعاية
- اشتراك الحاجة يكون علة عدوان البعض على البعض في نفس الجماعة ثم بينها وغيرها من الجماعات المنافسة عليها. فيترتب ضرورة الحاجة للحماية الداخلية والخارجية.
لكن ابن خلدون لم يميز بين هذه البنية المجردة وتعين القيمين عليها بأنظمة الحكم-وهذا هو دوري وإضافتي.
فالتمييز وتعيين نظام القيمين عليها أعني من يملأ خانات القوامة لننتقل من البنية المجردة للدولة إلى تعينها في نظام قوامة يتحدد في الجماعة ويتعلق بانتخاب القيمين طوعا أو كرها وبشروط النيابة عن الجماعة في الحماية والرعاية ذلك هو ما يؤدي أحيانا إلى الخلط بين نظام الدولة ونظام الحكم:
• فالأول بنية مجردة ملازم لشروط الرعاية والحماية
• والثاني تعيين نظام القوامة الذي يجعل البنية المجرد تتعين بفرض الكفاية.
والتعين بفرض الكفاية هو جوهر قسمة العمل في أي نشاط ضروري لبقاء الجماعة وأول الأنشطة الضرورية هو البنية المجردة للدولة لأنها شرط ما عداها من البنى الأخرى.
وقبل أن أجيب عن سؤال “ملء” البنية بالقيمين على المؤسسات التي تؤدي وظيفة الحماية والرعاية لا بد أن أحدد هذه البنية المجردة مما تتألف وبيان علة كونها حتما ملازمة للجماعات البشرية أيا كان مستوى نموها الحضاري لأن من تاريخ الإنسان الطبيعي (من جنس القدرة اللسانية التي تتعين في لسان معين).
ومن ثم فهي ليست تاريخية بل هي عضوية مثل القدرة اللسانية ونحن نعلم أنها مستمرة وثابتة منذ دولة بابل ومصر على الاقل أي أول دولتين من التاريخ معلومتين (مع الكتابة المسمارية والهيروغليفية).
وقد بينت سابقا أن هذه البنية المجردة التي لا تخلو منها جماعة بشرية تتألف من خمس مستويات أو مقومات بنيوية لا يمكن أن تتخلف واحدة منها في قيام الجماعات:
- لا بد من مرجعية قيمية دينية كانت او فلسفية.
- لا بد من قوى سياسية معبرة عنها وهي دائما متعددة حتى لو سيطرة اقواها
- لا بد أن تصاغ هذه القيم في نظام قانوني عرفيا كان أو مكتوبا هو الدستور الذي عليه شبه اجماع ساكت
- لا بد من حكم بالفعل وبالقوة (معارض) في الجماعة بسبب تعدد القوى السياسية والاختلاف حول تأويلات المرجعية والتنافس على المصالح بين البشر. والدولة تؤدي دور الحكم في ذلك كله.
ولا بد أخيرا:
5. من الوظائف العشرة مع رئيس يجمعها وهي خمسة للرعاية وخمسة للحماية. فوظائف الحماية الداخلية نوعان: وهي القضاء بمعنى الاحتكام للقانون الخاص بالجماعة والأمن بمعنى تنفيذ الأحكام.
وظائف الحماية الخارجية نوعان:
• وهي الدبلوماسية بمعنى الاحتكام على القانون الدولي
• والدفاع بمعنى تنفيذ الاحكام.
ويجمعها أربعتها شرط العمل على علم بها أعني الاستعلام السياسي أو المخابرات أو البريد بمصطلحها القديم في الخلافة الإسلامية: وكلها مؤسسات لا يمكن أن تتخلف واحدة منها في أي جماعة.
ثم وظائف الرعاية الخمسة: اثنان للتكوين وهما
• التربية النظامية في المدارس وتكون من سيقوم بإحدى الوظائف في قسمة العمل
• والتربية الاجتماعية التي تطبق ذلك التكوين في تقاسم العمل لإنتاج الغذاءين العضوي والروحي أو الاقتصاد والثقافة.
واثنان للتموين هما:
• الثقافة علما وتقنية وقيما لإنتاج الغذاء الروحي للجماعة
• الاقتصاد بضائع وخدمات لإنتاج الغذاء العضوي للجماعة
• وأخيرا البحث العلمي شرطا لتحقيق الرعاية والحماية. وهذه أيضا لا يخلو منها مجتمع وهي شرط تحقيق وظائف الحماية التي شرط المحافظة على شروط القيام بها.
وهذه الوظائف ليست وظائف الدولة بل هي وظائف الجماعة إلا في حالات الاستبداد والفساد عندما تريد الدولة التي تدعي حضانة الجماعة تسيطر على الرعاية والحماية لتستبعد مواطنيها: وابن خلدون يرفض تدخل الدولة في ذلك ويعتبره من علل الفقر والكساد الاقتصادي.
فالدولة وظيفتها مقصورة على التكفل بعد تعين بينتها المجردة التي هي نظام مؤسسات أو أشخاص معنوية في أشخاص طبيعيين بقوامة هذه الوظائف بالفعل وهو الحكم وبالقوة وهي المعارضة التي هي شرط التداول على الحكم سواء كان ذلك سلميا أو حربيا بمعنى أن ما لا يتغير بالتداول السلمي يتغير بالقتال كالحال في جماعات لم تنظم تداول القوامة.
ابن خلدون لم يميز بين هذه البنية المجردة وبنية القوامة التي تملأ هذه الخانات.
لكنه مدرك للكثير من وجوه المفهوم حتى وإن لم يصغه صراحة.
وكل الذين يتكلمون على تاريخية الدولة يخلطون بين الأمرين.
صحيح أن نظام القوامة تاريخي بمعنى التاريخ الحضاري.
لكن البنية المجردة التي تملؤها القوامة ليس تاريخيا حضاريا بل هو تاريخي طبيعي أي من جنس القدرة اللسانية عند الإنسان بل هو من كيان الجماعة عضويا بسبب وحدة الحاجات والتعاون على سدها والعنف الذي قد يترتب على التنافس وعدم العدل في التعاوض.
وهي إذن شرط وجود الجماعة وبقائها من حيث هي جماعة كبرت أو صغرت وتقدمت أو تأخرت.
لماذا اعتبرت “كورونا” مساعدة في فهم الفرق بين الأمرين؟ فجميع المجتمعات التي تعاني من كورونا أدركت الآن الفرق بين الامرين بعد أن تبينت الحاجة إلى الرعاية والحماية الملازمة لشروط البقاء. والمشكل ليس في البنية المجردة التي هي واحدة -اي إن كل الجماعات تدرك أن لها مرجعية وقوى سياسية تمثلها ودستور عرفي أو مكتوب ونظام حكم-معارضة-والوظائف العشرة بل في كيفية الانتقال من البنية المجردة إلى تعيينها بنظام القوامة التي تجعلها ممثلة بأشخاص طبيعيين ينوبون الجماعة فرض كفاية.
لكن الفرق بين الجماعات هو في هذه النيابة في القوامة فرض كفاية من حيث مصدر شرعية النيابة في ما هو فرض عين من حيث تفعيل الوظيفة.
ففي المجتمعات التي تطورت القوامة فيها بصورة يدرك الناس فيها هذه العلاقة بين الفرضين يسهل عليها أمر العلاج أكثر من التي بقيت القوامة فيها تحكمية مستندة إلى القوة والعنف والاستبداد والفساد.
فالغافلون والحمقى يفضلون هذه على تلك لأن الدكتاتورية يمكن أن تفرض النظام بالعنف مثل كوريا الشمالية.
لكنهم لا يرون أن ذلك من علامات الغفلة والحمق.
فلو عممنا هذه القاعدة ووصلنا إلى سلطان القوة العمياء فإن الفوضى ستعم ويصبح في كل حي وفي كل قرية وفي كل جماعة مهما قل عددها “دولة” دكتاتورية وهو بالضبط النظام المافياوي وحينها تزول البنية المجردة ففساد القوامة يقضي على البنية المجردة. وبذلك تتفتت الوحدة العضوية للجماعة وتتحول إلى كونتونات مافياوية في صراع دائم كل واحدة شبه دولة كما كان حال القبائل العربية قبل الإسلام الذي وحدهم: فانتقلنا من المؤسسات الوسطى بين الفرد والدولة إلى الدولة التي هي البنية المجردة الجامعة.
وذلك عين ما يسميه القرآن الكريم “الإخلاد إلى الارض” الذي يجعل الإنسان يصبح كالكلب يلهث وراء سد الحاجات ليس بالعمل المنظم بل بالخضوع للحاجة مباشرة دون النظام الذي ييسر سدها فيفرغ لما يتعالى عليها. تصور ما يحدث لو انقطع الغذاء أو الدواء أو الماء أو الأمن بسبب الفوضى في الجماعة.
عندئذ يصبح السيد هو الأقدر على العنف الأعمى ولا يبقى إلا سلطان القوة التي لا تحدها إلا قوة أكبر ويحصل ما كان عليه العرب في الجاهلية: التناهب الدائم في الجماعة.
ما غاب على حلاق وعلى عبد الرازق هو مجرد توحيد العرب دليل على الانتقال من الدولة الجزئية إلى الدولة الكلية بل وأكثر من ذلك فالإسلام أراد ألا يكتفي بعلاج الأمر بين العرب في جاهليتهم -وقد فعل- بل أراد وضع نظام عالمي أساسه النساء 1 (مبدأ الأخوة البشرية) والحجرات 13 (مبدأ التعارف معرفة ومعروفا والمساواة دون أي تفاضل بغير معيار التقوى) اي دولة كونية تشمل الإنسانية كلها.
فلكأن كورونا -وكل الجوائح العامة- تشهد للقرآن بأنه أثبت أن البشرية لن تعيش بسلام ما لم تكن لها دولة كونية لا تمايز فيها بين البشر إلا بالتقوى أي احترام القانون المشترك بينهم.
وذلك ما لم يفهمه هيجل في نقده للإسلام لظنه الرؤية يتوبيا ولم يفهم أن الأدواء لا تعرف الحدود السياسية. فإذا كانت الظاهرات التي تعالجها البنية المجردة لقيام الإنسان -وهي جزء من تاريخه الطبيعي-فإن الحل ينبغي أن يكون من نفس الطبيعية أي الكونية في العلاج حتى يتطابق الحضاري مع البايولوجي وهو معنى إخضاع الحضاري للفطرة.
ومن الأدلة الثابتة ما أجاب به رسول جيش الفتح سائله في فتح فارس عن علة قدومهم بأن الغاية هي جعلهم يعبدون رب العباد بدل العباد كان القصد تحرير البشرية من سلطان البشر بعضهم على البعض والتسليم بأنه لا سلطان على أحد من أحد بل السلطان كله لرب العالمين تطبيقا للآيتين النساء 1 والحجرات 13: ذلك هو المستقبل بالنسبة إلى البشرية كلها وتلك هي العلة التي اعتبرت جائحة كورونا يمكن أن تكون مبشرة بالعودة إلى حلول الإسلام بوصفها حلا للبشرية كلها: النساء 1 والحجرات 13.
ومعنى ذلك أني لما قلت إن المفاضلة بين النظامين المتعلقين بالقوامة المؤسسة على حرية المواطنين وكرامتهم تطبيقا للشورى 38 والقوامة المؤسسة على استعبادهم وإهانتهم نفيا للشورى 38 بحجة الفاعلية السريعة علتها عدم فهم الرسالة القرآنية والتمييز الخلدوني بين الوازعين الذاتي والأجنبي. وهما يمثلان أساس الشرعية التي تتعلق بقناعات المواطنين وأساس الشوكة التي تتعلق بتنفيذ شرعية القانون.
والمقابلة بين نوعي الوزع الذاتي والاجنبي بمصطلح ابن خلدون هما السر في رؤيته لنظام التربية ولنظام الحكم اللذين يمكنان من تعيين البنية المجردة لما هو ملازم لوجود الإنسان من حيث هو إنسان أو لما هو فطري في الإنسان كما يتعين في البنية المجردة للدولة الكونية الدائمة وغير التاريخية: مرجعية قيمية وقوى سياسية ودستور وحكم ووظائف.
ولذلك فهو يعتبر التربية العنيفة والحكم العنيف مفسدين لمعاني الإنسانية ومن ثم لدولة الاستعباد والفساد.
وقد عين القرآن أفضل نظام قوامة يملأ خانات هذه البنية المجردة في الآية 38 من الشورى:
- فالمرجعية الاستجابة للرب.
- والقوى السياسية هي الجماعة فرض عين
- والدستور حدد طبيعة النظام (أمر الجماعة)
- وأسلوب القوامة (شورى بينهم)
- الوظائف حماية ورعاية اقتصاد اجتماعي.
فالإنفاق من الرزق يجعل الجماعة منتجة لما يسد حاجتها وتعنى بالحالات التي حددها القرآن بوصفها بحاجة للرعاية التي تتكفل بها الدولة (البقرة 177).
فإذا كانت التربية تركز على الوزع الذاتي-الضمير والعقيدة الروحية- وكان الحكم يركز على الوزع الخارجي (القانون والشوكة) وكان الإنسان حرا لا يعبد غير ربه فلن يكون عبدا لمن يمكن أن يسيطر على سد حاجاته العضوية والروحية لأنه سمح بوجود نظام حكم مستبد وفاسد ولم يقم بما هو فرض عين أي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر في تعيين الحاكم ومراقبته وعزله إذ لا طاعة في معصية للقانون.
لكن إذا اصبحت الجماعة مكومة بوزع خارجي ليس لها مشاركة فيه فإن الإنسان يصبح عبدا لغير الله لمتحكم في حاجتيه.
والاستبداد والفساد علتهما عين علة تحريف الاديان أو المرجعيات الروحية في رؤية القرآن: وقد أشار القرآن في سورة آل عمران أن كل تحريف للأديان علته الحلف بين رجال الدين والحكام. فالوساطة بين الإنسان وربه وشأنه الاخروي (الكنسية والتشيع) والوصاية بين الإنسان وحكمه وشأنه الدنيوي (الحكم بالحق الإلهي أو بالحق الطبيعي العنيف) فإن الإنسانية تنتكس للحيوانية (نظام العولمة).
ولهذه العلة فكل قول بالوساطة بين المؤمن وربه وبالوصاية على المؤمن في شأنه كفرا بأهم ما جاء في القرآن بخصوص علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب.