دول العرب محميات الناكصين الى الجاهلية

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله

كعادتي أنطلق من نص لابن خلدون لفهم ظاهرة مرضية تحول دون السيادة فيما يسمى بالدولة العربية التي هي في الحقيقة محميات منذ عصر الانحطاط. يقول ابن خلدون: “في أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة: والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء وأن وراء كل راي منها وهوى عصبية تمانع دونها فيكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت وإن كان ذات عصبية لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن نفسها منعة وقوة (…) وبعكس هذا أيضا الأوطان الخالية من العصبيات يسهل تمهيد الدولة فيها يوكون سلطانها وازعا لقلة الهرج والانتفاض ولا تحتاج الدولة فيها إلى كثير من العصبية كما هو الشأن في مصر والشام لهذا العهد إذ هي خلو من القبائل والعصبيات. كأن لم يكن الشام معدنا لها كما قلناه فملك مصر في غاية الدعة والرخو لقلة الخوارج وأهل العصائب إنما هو سلطان ورعية ودولتها قائمة بملوك الترك وعصائبهم يغلبون على الأمر واحدا بعد واحد وانتقل الأمر فيهم من منبت إلى منبت والخلافة مسماة للعباسي من اعقاب الخلفاء ببغداد”(المقدمة الباب 3 الفصل 9). مع تمثيل مغربي ومشرقي. ضرب مثالين من افريقية وتونس حيث لم تستقر الدولة لكثرة القبائل والعصائب وأمثلة من الشام ومصر حيث استقرت الدولة لقلتهما حتى يكون دليله تاما. لكن الظاهرة التي يفسر بها عدم استقرار الدول أصبحت الآن عامة حتى وإن لم يعد سببها القبلية فحسب بل عدة اشياء بالتناسب مع التعدد الموظف سلبيا. وما أسميه توظيفا سلبيا هو جعله مقصورا على الاستبداد بالسلطة بدلا من المشاركة فيها بحسب مستوياتها دو حصر لها في غايتها فتنعكس لضديدتها. فسعي كل حزب مثلا أو كل قبيلة أو طائفة إلى أن تصبح دولة دون شروط الحماية والرعاية الكافية لصيانة كيانها يجعل كل واحدة محمية للأقوى منها. فيكون التنافس بين فرق نفس الجماعة فرصة تجعل أعداءهم يسيطرون عليهم جميعا بفتنة لا تتوقف بينهم ومحالفة هذا ضد ذاك حتى يقضوا عليهم جميعا. وهذه حالنا الآن وهي أشبه ما آل إليه امر الأندلس وبنفس الخطة ابتلعت امريكا الحالية قبائل الهنود الحمر. ونرى الاستعمار يعود بطلب من حكامنا. فكل محمية عربية يحتمي حكامها بالأعداء خوفا من اجواره الذين يحتمون بنفس الأعداء فيكون العدو ليس حاميا بل محرضا الأخ ضد أخيه ليكون هو الحكم. ولو سألت أي حاكم عربي عما لديه من سيادة وأجابك بصدق لاعترف أنه لا سيادة له إلا في حدود ما لا يعارض سيادة حاميه الذي يطلق يده ليستبد ويفسد. ذلك أن إطلاق يده هذا هو الذي يبعده عن شعبه فيحوجه للحامي. وكلهم يعلمون إذن أنهم يقايضون حاميهم: خذ ما تريد واتركنا نستبد ونفسد كما نريد. بهذا ضاعت الاندلس وبهذا قد يضبع الهلال-وهو يكاد-وقد يضيع الخليج وهو قد بدأ رحلة الانزلاق وبه قد يلحق المغرب العربي ولعله سبق بغير وعي. ولو سألتهم: هل يوجد حاكم عربي له ما لوال في الولايات المتحدة من قوة وسلطة؟ فكاليفورنيا ولاية لكنها وحدها أقوى وأقدر من روسيا أو حتى فرنسا. لكنها بحد ذاتها ليست قادرة على ذلك لو كانت دولة لأنها حينها ما كانت لتنعم بما يمكنها من التفرغ لشروط القوة الاقتصادية والعلمية بسبب كلفتها. مثال واحد لنفهم: خمسون ولاية في عدد سفارات أمريكا فيكونوا مثلنا: اثنان وعشرون دولة في معدل مائة سفارة وهم سفراء التسوق والتجسس على بعضهم لفائدة الأعداء. سيقال لي: يا أخي اهتم بشأنك وتفلسف كما تريد واترك السياسة لأهلها. وجوابي لو كان لها أهل لما اهتممت بها. ساسة المحميات العربية خدم لحماتهم. ولو كان ذلك لا يحول دون شروط الفلسفة لما تكلمت في الأمر: كيف نتفلسف إذا كان من شروط الفلسفة أرقى شروط البحث العلمي وهو منعدم لهذا السبب؟ المحميات لا تستطيع حماية نفسها ولا رعاية شعبها. من يقدر على بحث علمي يمكن من قاطرة كل تقدم أي البحث الأساسي الذي يطلب شروط إمكان كل شيء؟ كيف لمن يتسول قوت يومه ويدفع للحامي حتى يبقى على سدة حكم تابع ألا يستحي فيسمي خربته دولة وهي أقل من بلدية قرية في الدول التي لها سيادة؟ ما كنت لأكتب حرفا في السياسة لو كانت السياسة المعبرة عن الإرادة الحرة للجماعة ذات أدنى درجة من الوجود في المحميات العربية التي يسمونها دولا. جربت مدة سنة لأرى السياسة من الداخل فعرفت مهازلها: إذا كان الحاكم مشكله اليوم كيف سيجابه نهاية الشهر ككل أسرة جائعة فبئس الدولة والسياسة. وجربتها من خارجها مديرا لقسم الترجمة من بيت الحكمة مدة سبع سنوات فرأيت العجب: حوالي عشرون سفارة عربية عديمة الحضور وسفارة إيرانية تحتل الصدارة. سل أي سفير عربي في اي بلد يمثل بلده فيه من يعرف من ذلك البلد وماذا يفعل غير التسوق وربما التجسس على العرب بمن فهم مواطنيه. الجواب معلوم. جيوش وشراء أسلحة وسفارات لمحميات لعلها أصغر من سفارة حاميها فيها وشعارات وأعلام ووزارات وأبهة إلخ.. من الاوهام حتى تتمعش مافية الأزلام. مهزلة لا يمكن أن يصل إليها خيال أي كاتب في الكوميديا السوداء. وذروة هذا المسرحيات هي قمم العرب. قاعاتهم المغلقة مفتوحة على إسرائيل وأمريكا. أدباءهم كلهم يكتبون الأدب الواقعي-احقر أنواع الإبداع لأنه دون التاريخ-مهما تفننوا لن يستطيعوا وصف مهازل لقاءات “القادة” وأغلبهم قوادة. عشت في فرنسا للدراسة فما رأيت حضورا عربيا لعشرين دولة وعشت في ماليزيا فما رأيت لهم اثرا عدا داخل البنوك الإسلامية هذا في الرسميات. أما الحضور الشعبي فهو إما سياحة أزلام الأنظمة وأمراؤها -إذ حتى الانظمة العسكرية لها أمراء- أو حضور المضطهدين الفارين من جهنم الدولة الوطنية. فمن أراد أن يعرف الواقع العربي الحالي فله منه صورتان في الغرب: صورة المستوحين والمتداوين منهم والمبتعثين من أبنائهم وصورة الفارين بجلدهم. لكن هؤلاء يمكن أن يراهم قبل الوصول إلى الغرب: سلوا البحر الأبيض المتوسط وسيحكي لكم شنائع ما يسمى بالدول العربية في الضفة الجنوبية والشرقية. ولا تتصوروا بلاد العرب البترولية أحسن حالا: فالبطالة والحرمان وكل نتائج الاستبداد والفساد هي المصير المشترك للظاهرة التي وصفها ابن خلدون. لكن ابن خلدون لم يقل إن ذلك عاد بعد أن حررنا الإسلام منه: عاد العرب إلى قبلية الجاهلية وعصبياتها في الانظمة التي تدعي الاصالة أو الحداثة.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي