لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله“دولنا الوطنية “
ذكرت أني سأدرس ما نتج من معوقات النهوض عن المحميات التي يسمونها دولا وطنية بالاعتماد على نظريتي الأحياز ومقومات مستويي عمل الإنسان. وللتذكير، فالأحياز هي المكان والزمان وتفاعلهما المتبادل أي التراث والثروة والمرجعية التي توحدها فيكون تقاسمها مقوما لوجود الجماعات المتجاورة. مقومات العمل الإنساني تحقق تقاسم هذه الأحياز هي مستويا الذوق والعلم الأول: 1. تقدم سد حاجات الإنسان العضوية 2. تقدم سد حاجات الإنسان الروحية وأنا متردد بأيهما أبدأ. بأحياز وجود الجماعة أم بمقومات عملها لتملكها الاحياز فتنقلها من غلبة الطبيعي فيها إلى غلبة الثقافي: التاريخ الإنساني؟ وحتى يفهم القارئ ترددي لابد من تحديد طبيعة العلاقة بين النظريتين: فالأحياز والمقومات يمثلان نفي الظاهرة لأن كلا منهما ثمرة الأخرى. فالأحياز تنتقل من الطبيعي إلى الثقافي بعمل الإنسان الذي ينتقل مثلها بها: فكل جيل يولد في وسط طبيعي ذي ثقافة فيثقفه الماضي ويثقف المستقبل. توالي الأجيال العضوية يصحبه دائما توالي أجيال ثقافية والحصيلة هي أن التاريخ الإنساني هو حصيلة كونية بين مد وجزر للعلاقة بين الطبيعة والثقافة. فالثقافي الكوني في علاقته بالثقافي الجزئي من جنس العضوي الكوني في علاقته العضوي الجيلي. موروثان متلازمان: 1. التراث الرمزي 2. والتراث العضوي المشكل عويص. وهو يتعلق بنظرية البايولوجيا ونظرة الثقافة (البايولوجيا و”الكلتشرولوجيا”) سأخصص هذا الفصل لعرض المسألة الأولى وأقيس عليها الثانية. ما أظن أحدا يجهل أن نظرية التطور تبدو هي السائدة في تفسير أثر توالي الأجيال بمنطق الانتخاب الطبيعي. وهي إذن بين الأحياز وعمل الكائن الحي. فالانتخاب الطبيعي يحكمه قانون الاستجابة المحققة للتكيف لدى بعض الكائنات الحية وحفظها للتغير الذي ينتج عن الاستجابة الناجحة من جيل إلى جيل. والتي لم تحصل فيها الاستجابة الناجحة لتتكيف مع الشروط الطبيعية لحياته ينقرض. وبالتوالد بين الكائنات المتكيفة تتغير الانواع التي لم تبق ثابتة: التطور. والسؤال الذي سنصل إليه هو: هل الثقافات تجاوزت نظرية الثبات إلى نظرية التطور كذلك بمقتضى نفس القانون فتكون خاضعة للانتخاب الطبيعي أم لا؟ لن أجيب الآن عن هذا السؤال رغم أنه اعتبر محلولا في فلسفة هيجل وماركس وعند كل أدعياء الحداثة ممن يرى ثقافة الإسلام منقرضة ويسعى لتعويضها. لابد من حسم قضية التطور البايولوجي قبل ذلك. ولست أنوي الخوض في جدل علمي مع التطوريين. كلامي سيقتصر على بيان ما يبدو مؤيدا لها في الظاهر. وحتى نفهم المسألة في عمقها الفلسفي لا بد من إدراك حقيقة بدايتها وحقيقة غايتها: 1. نظرية أرسطو في ثبات الانواع 2. ونظرية داروين في تطورها والخلاف بين الرجلين ليس بين الثبات والتطور كما يتوهم الكثير بل في: ما الثابت وما المتطور في البايولوجي عامة؟ فأرسطو لا يقول بالثبات عامة. أرسطو كان أول من قال بالتطور كذلك. ولابد من التمييز بين الثابت والمتطور في نظرية أرسطو البايولوجية. طبق ارسطو منهج الصوغ الرياضي في علومه. وقد طبقه على البايولوجيا والأخلاق: منهج التناسب. وما يعنينا هنا أولا هو تطبيقه على البايولوجيا. ميز بين الكائنات الحية بالوظيفة وليس بالعضو. فصنفها بالثوابت الوظيفية رغم المتغيرات العضوية. من ذلك قيسه خياشيم السمك على الأنف وقس عليه الكثير من الاعضاء المختلفة ذات الوظيفة الواحدة. وحدد ثلاث عوالم متعددة عضويا وواجدة وظيفيا وبها تنفصل تماما رغم تقارب غاية الادنى وبداية الأعلى أساسا لتطورية أولى نجد أثرها عند ابن خلدون. وهذا التصور الاول قول بالتواصل اللاتاريخي بين عوالم الحي الارسطية لا بالتطور: نهاية النبات بداية الحيوان النخل ونهايته القرد بداية الإنسان. الجديد في نظرية داروين: تطور الحي لا يقتصر على الاعضاء بل يشمل الوظائف لأن التغير التكيفي المكتسب يصبح موروثا ليس عضويا فحسب بل ووظيفيا. والمثال الذي يدور حوله الخلاف بين الناس هو مثال الإنسان الذي يعتبر بهذا المعنى تطورا للقرد لما بينهما من قرابة عضوية. والأهم بقي معلقا. فهل نقبل بنظرية التطور قبل حل مشكل الحد الفاصل الكيفي (أرسطو) بين النبات والحيوان ثم بين الحيوان والإنسان؟ والحد الثاني هو مشكل الثقافة. اعسر إشكال: هل يمكن أن نعتبر الثقافات مثلها مثل الكائنات الحية لها أعضاء ووظائف وهي ثابتة وظيفيا ومتغيرة عضويا؟ ما العضوي وما الوظيفي فيها؟ وتلك هي علة ترددي في اختيار بم أبدا. فجوابي بنعم لأني اعتبر ما سميته مقومات العمل الإنساني وظائف الثقافة وما سميته الأحياز أعضاء الثقافة. طبعا القارئ المتعجل الذي يشمئز من طول الطريق الموصلة لصياغة النظريات سيعتبر هذا التعقيد من خصائص أسلوبي بل والبعض سيظنه دلالة على العي. ولو اتبعنا المتعجلين لما وجد نظر أصلا: يكفي للسكنى جلد ووتد لبناء خيمة. لا حاجة لمن يطلب السكن لما يتجاوز ذلك. لكن ناطحات السحاب غير. المتعجلون يريدون النتيجة دون مقدماتها. ومن يريد النتيجة دون مقدماته لن يفكر ولن يتعلم التفكير ولن يسهم في تحقيق شروط النهوض والاستئناف. لكن المنهجية فلسفية عمادها النظر-ديانوزيس- والغاية عملية هدفها تمكين الشباب من شروط المساهمة في النهوض والاستئناف: إذن لابد مما ليس منه بد. الفكر المباشر ليس فكرا أصلا. هو تلق غير مفهوم. يتقبله من يفقد القدرة على مراجعة ما يتلقى بتأمل نقدي. والتأمل النقدي أو المراجعة شرط الفكر. فيصبح هذا الأسلوب في الكتابة دعوة للمتلقي حتى يأخذ موقف الناقد مما يتلقى. ولن يفعل ما يضع نفسه موضع صاحب العمل ليكتشف بنفسه صوابه أو خطأه. وهذه طريقة سقراط في الفلسفة وطريقة القرآن في الدين. فمن لم يتدبر هذين النهجين الفلسفي والديني لا يمكن ان يتقدم فكريا وأن يصبح حرا بحق. ليس القصد من الكلام على أرسطو وداروين استعراض معلومات: فهي في متناول أي طالب علم. ما نقصده هو ما يغيب في النقاش الجاري بتغييب جوهر إشكاله. وجوهر الإشكال هو الذي يعنينا: صحيح أن بين القرد والإنسان من حيث الأعضاء قرابة. لكن هل الحد الكيفي الفاصل بينهما تم تجاوزه؟ فما هو الفاصل؟ يمكن للتيسر فلسفيا الجواب: النطق. ويمكن للتيسر دينيا الجواب: التسمية. والجوب الديني أشمل وأهم: أشمل إذ فيه النطق وأهم بأبعاد التسمية. فالتسمية أكثر من النطق مع النطق بمستويات علاقاته الخمسة: 1. الاسم بالمسمى 2. الاسم بالاسم 3. الاسم بالمسميين 4. الاسم بطبيعته 5. الاسم بوظيفته. عندما ندرس اللسان نميز بين أبعاده الثلاثة عادة: الدلالة والنحو والتداول. لكن الاسم في حد ذاته من حيث هو يسمي يصنف الوجود إلى أشياء وعلاقات. وعلوم اللسان الحالية تهمل هذا البعد وهو في الحقيقة جوهر أعضاء اللسان ووظائفه. فالنطق لفظ وتلفظ لهما طبائع ووظائف. وهي متقدمة على السنتاكس. لن نتمكن من فهم الإشكالية التي نعالجها ما لم نظف هذين البعدين لدراسة اللسان: 1. الدلالة 2. والسنتاكس 3. والتداول 4. والطبيعة 5. والوظيفة.